Вера, знание и философия
الإيمان والمعرفة والفلسفة
Жанры
وعلى هذا الافتراض الوهمي الصرف بنوا نظرتهم في حرية الإرادة مستندين إلى هذه الإرادات العليا، ولكنهم أكبروا شأن الإنسان إكبارا لا محل له، ليس الإنسان إلا ذرة من ذرات هذا العالم العظيم الذي لا ندري فيه حدود الزمان ولا المكان، ولا نفقه لهما معنى وهو ذرة ضئيلة لا يعبأ الكون بوجودها ولا يهتم بفنائها. فلو أن له قيمة خاصة في وجود العالم لما حقرت الطبيعة من شأنه إلى حد أن لم تكترث له، ولم تهتم به أكثر من اهتمامها بأي جرذ وبأي حجر وبأي قطرة ماء في المحيطات الواسعة، ثم هي بمدنياته أقل اهتماما إن كان للتناهي في الأقلية محل، أفترى أن المدنيات المتعاقبة حادت بكوكب عن فلكه، أو قدمت كسوف الشمس أو أخرت خسوف القمر، أو قلبت المد جزرا والجزر مدا، أم ترى أن ما تغيره المدنيات ليس هو إلا حركة متناهية في الأقلية وصغر الشأن، إذا قيست بالبعوضة التي وقفت على قرن الثور. فإذا كان ذلك لم يبق محل لاعتبار الإنسان مركز دائرة الفلك، وإنما يجب وضعه في الموضع اللائق به. ذرة تتحول من جماد إلى نبات إلى حيوان هو الإنسان ثم إلى جماد إلى نبات آخر وهلم جرا.
إذن ما هي الإرادات العليا؟ سمعنا كثيرا أن باخرة من البواخر استطاعت أن تقطع تيار التلغراف اللا سلكي الذي تبعث به باخرة لأخرى. وعرفنا أن السر في ذلك أن تيار تلغراف هذه الباخرة أقوى من تلغراف الباخرتين المتراسلتين. فإذا أرادت هي أن تخاطب إحداهما لم يحل دون ذلك حائل؛ لأن تموجات الأثير تساعد تيار معداتها؛ لأنها أقوى والطبيعة تساعد القوي وتجور على الضعيف.
والقوي هو المخلوق الأكثر ملاءمة للزمان والمكان اللذين يوجد فيهما، والضعيف هو الأقل ملاءمة لها. تلك الإرادات العليا التي يقولون عنها: هي مجموع تيارات قوية أكثر من غيرها استعدادا للتلقي والإصدار. فإذا وقعت عليها الصور الخارجية، وانقلبت عن طريق تياراتها إلى حركة كانت هذه الحركة بحيث تأخذ بالأنظار، وتستدرج التيارات الضعيفة نحوها لتتلقى عنها على نحو ما أخضع تيار الباخرة القوية الباخرتين الضعيفتين. وهذه القوة هي سر البطولة أي: النبوغ والعبقرية، ولكن القوة في التلقي والإصدار ليست دليلا على الحرية، بل على حسن الاستعداد للوسط المحيط بالأجهزة العبقرية. فإذا نحن نسبنا الحرية إلى هذه الأجهزة كنا كمن ينسب إلى شخص قوي الحافظة قصيدة يرويها لمجرد سماعها مع أنه لم يكن إلا آلة بسيطة في ترديدها. وكذلك فهؤلاء الأبطال يرددون بقوة صدى الوسط الزماني والمكاني الذي يعيشون فيه متأثرين بعوامل ذلك الوسط نفسه، فيصبح ذلك الصدى قوة جديدة تؤثر مع المؤثرات المحيطة بها.
وهذا التفسير الموجز يسمح لنا أن نقول: إن العظماء والأبطال هم أكبر الناس استعدادا للبقاء والتغلب على أمثالهم من الذرات الأخرى التي تنافسهم؛ لأنهم الأقوى والأصلح للبقاء. وهو يسمح لنا أيضا أن نقول: إن إرادتهم القوية لا تفرق في كيفها عن الإرادات الأخرى، وإنما الاختلاف في الكم وفي القوة والضعف، وقد رأينا أن الإرادة في الإنسان ليست إلا طورا من أطوار الحال العكسية في اتجاه خاص. إذا فالحرية مفقودة من العظماء مبلغ ما هي مفقودة من عامة الناس.
يتبين مما سبق أن ما يسمى بالإرادة ليس هو إلا المظهر الذي تنقله الحركات الخارجية عن طريق أجهزتنا وتياراتنا المادية، أو المتعلقة بما فينا من مادة حسب تكوين تلك الأجهزة والتيارات، وما توالى عليها من التقلبات والتغيرات من وراثة ومرض، وعادات خاصة ووسط اجتماعي وغير ذلك من الآثار المادية، وأن ليس هناك شيء خارج عنا مصرف لنا غير المادة التي تكوننا، وما في هذه المادة من قوة ملازمة لها متعلقة بها لا يمكن أن تنفصل عنها مهما بولغ في تحليلها.
ولقد جعلنا وجهتنا فيما اتخذنا من الأمثلة استظهار أبسط ما يصل إليه الحس، مما وصلت إلى تحليله يد الإنسان. ولو أنا أردنا تلمس المثل من عالم الحيوان أو عالم النبات لما أعوزنا. بل لو أنا طرقنا باب ما أوصلت إليه مبادئ لمبروزو في كتاب الفلسفة الجنائية لرأى القارئ كم تؤثر المظاهر الجسمية في الأخلاق. وكيف توجه الإرادة وجهة خاصة. ولكنا لم نر محلا للدخول في مسائل ربما أدى تعقيدها، ودقتها بالشك إلى أن يتسرب إلى نظريتنا، فاكتفينا بأبسط الأشياء، وكانت نعم المساعد لنا على توضيح غرضنا.
وإلى هنا نرى أننا أثبتنا مبدأ الجبر المطلق وأقمناه على أساس متين، ولكن هل معنى ما تقدم انعدام المسئولية وهدم الاعتبارات الأخلاقية، وإن لم يكن ذلك فعلى أي أساس تقوم المسئولية، وكيف لنا أن نفرق بين الخير والشر، وأن نمدح فاعل الأول ونذم مرتكب الثاني؟ ذلك ما سنبينه في كلمتنا الثانية عن المسئولية.
3
المسئولية: طبيعة فكرتها وكيفية تكوينها في النفس
كلمة المسئولية من الكلمات المعقدة الدقيقة؛ ذلك لأن مدلولها ليس شيئا محسوسا نحيط بجميع نواحيه، ونستطيع الوقوف بالدقة على ظواهره وخوافيه، ولا هو معنى بسيطا قائما بالذهن كما يقوم به معنى كلمة الصدق مثلا. ولكنه أثر ونتيجة لإحساساتنا وعقائدنا وأعمالنا فيما بيننا وبين أنفسنا، وفيما بيننا وبين سوانا بل فيما بين غيرنا ممن نعول ونفسه وفيما بينه وبين سواه.
Неизвестная страница