Вера, знание и философия
الإيمان والمعرفة والفلسفة
Жанры
ولا يكون انقضاء التناقض بين طريقتي التفكير نتيجة معركة منطقية فاصلة تنهزم فيها الديانات والفلسفات؛ فليس على هذا الشكل تنتهي الآيات والفكر ولكنها تختفي بإهمالها، كما يقول كومت، اختفاء الطرق غير المستعملة. وهل هي كانت إلا كطرائق للذهن الإنساني الذي أراد أن يحيط مجموع الأشياء بنظره من قبل أن يتم درسها. ولم يكن للعقل أن يتقدم للإنسان بهذه المعلومات الحقة إلا متأخرا، وبرغم الجهود الطويلة التي قام بها العلم، ولقد كانت المعلومات التي تقدم بها متواضعة كل التواضع ونسبية كلها؛ لهذا لجأ الإنسان إلى الخيال طالبا هذه المعلومات دفعة واحدة ومطلقة كلها. ولكنه ترك هذه التفسيرات الدينية والمنطقية رويدا رويدا على نسبة تقدمه في بحث المظاهر بحثا وضعيا، وعود نفسه أن يردها إلى مناطق تزداد بالزمن بعدا من غير أن يهمل قطعا التنقيب عن أسباب الأشياء. ولكنه أصبح لا يهتم بتقدير الأسباب للظواهر التي وصل فيها إلى فكرة وضعية بحتة، وصار يكتفي بما يعلم من خضوع هذه الظواهر لقوانين معينة. ومتى اعتادت الأذهان تصور كل الظواهر من كل الأنواع على هذا النحو، وأصبحت فكرة قوانين هذه الظواهر أيا تكون متعارفة كذلك لا يبقى لطريقة التفكير الميتافيزيقية وجود، وبالاختصار فمتى أصبح العلم كله وضعيا أصبحت الفلسفة وضعية كذلك.
فإنا لا نملك النظر للأشياء إلا من جهة واحدة، وكل ما كان من معلوماتنا «حقيقيا» ينصب على الظواهر وقوانينها. فإذا أصبح نظرنا لكل أنواع الظاهرات مأخوذة واحدة بعد الأخرى مكيفا على الطريقة الوضعية لم يبق لنا، إذا أخذناها معا ونظرنا إلى مجموعها، أن نفكر فيها بطريقة مختلفة عن الطريقة الوضعية بل معارضة لها.
والواقع أن وجود هاتين الطريقتين من طرق التفكير معا سيبقى ما دامت الروح الوضعية لم تصل إلى تمام انتشارها، وما بقي جزء قل أو كثر من الظاهرات الطبيعية يفسر بماهيته وسببه وغايته. ولكن هذه الحال لن تدوم إلى الأبد. بل كلما تقدمت الروح الوضعية اضمحل مركز الصورة الدينية الميتافيزيقية من العالم وتلاشى. فعلينا إذن أن نختار بين الطريقتين إذ لا سبيل إلى وحدة التفكير، ولا إلى التماسك المنطقي التام إلا هذا الاختيار.
وهذا الاختيار الذي ألجأنا إليه عدم إمكان التوفيق يدفعنا للنظر في الأخذ بطريق التفكير الوضعي كلا أو اطراحه كلا. ولقد رأى المحافظون
traditionalistes - وأخصهم يوسف دمتر - هذا الوجه من أوجه المسألة مما دعا كومت للاعتراف لهم بكبير الفضل. ودمتر لا يرى لجمعيتنا سلاما إلا في العودة التامة لطريق التفكير الديني. وهو لذلك يحارب الروح الفلسفية الحديثة في أصلها، وإن شئت ففي الأصول المتعددة التي أخذت عنها، فهو يناضل كومت مناضلته فلسفة القرن الثامن عشر التي أخذت عنها، ولا يراعي لباكون أكثر مما راعى للوك من حرمة، ولا يرحم أنصار الإصلاح الأول أكثر من رحمته باكون؛ ذلك لأنه علم أن القرن الثامن عشر إنما هو النتيجة الشاملة التي جهزها القرنان السادس والسابع عشر، وأن هذه القضية المنطقية العظمى المخربة ترجع أصولها إلى أعمال التحليل والإفساد التي بدأت منذ القرن الرابع عشر؛ ولهذا فهو متفق مع نفسه فيما سعى إليه من منازلة هذا العمل الشيطاني لإرجاع أوروبا إلى ما كانت عليه حالها العقلية الدينية في العصور الوسطى، فإن إعادة سلطان البابا الروحي يقطع الطريق على الفوضى العقلية والخلقية، وهناك ترجع الكثلكة إلى النفوس أرفع حاجاتها وهي الوحدة.
وهذا الحل يكفي أمام الخيال لمواجهة فروض المسألة. ولكنه غير ممكن الحصول في الواقع؛ لأن التاريخ لا يرجع إلى منبعه. ويجب لإخضاع الأذهان من جديد إلى السلطان الروحي الذي كانت تقبله طوعا في العصور المتوسطة أن نعيد حولها مجموع الظروف التي كانت تحيط بها في ذلك الحين. لكن كيف لنا أن نمحو من التاريخ اكتشاف أمريكا، واختراع الطباعة وغير ذلك من الأمور الاجتماعية الكبرى. ثم ما هو السبيل لنتجاهل وجود كوبرنك وكبلر وجاليليه وديكارت ونيوتن وسائر مؤسسي العلوم الوضعية. ولئن أمكن المستحيل واستطعنا أن نستعيد الوحدة العقلية والخلقية التي كانت قائمة في الجمعية المسيحية أيام العصور الوسطى، فكيف لنا أن نمنع القوانين الطبيعية التي وصلت إلى حل هذه الوحدة مرة أن تعود إلى مثل ذلك مرة أخرى.
وما دام ذلك غير ممكن فقد أصبح الإنسان مسوقا حتما لقبول الحل الثالث والأخير. ما دام التوفيق بين طريق التفكير الوضعية والطريق الأخرى غير ممكن. وما دام السلطان المطلق لا يمكن أن يكون لطريق التفكير الدينية الميتافيزيقية. وما دام واجبا للعقل الإنساني الأخذ بفلسفة، فلم يبق إلا أن تنشأ هذه الفلسفة من طريق التفكير الوضعي وحده. ولا شيء فيما نرى يمنع تحقيق ذلك. بل إن آخر قضايا الروح الدينية الفلسفية ليست من المتانة فلا تمحى. وهذه الروح (الخيالية) بماهيتها لا يمكن أن تصبح حقيقة يوما من الأيام. أما الروح الوضعية فليست (خاصة) إلا عرضا، ومن الممكن جدا أن تصل إلى العمومية التي تفتقدها. وإذ ذاك يمكن إقامة فلسفة جديدة تحل معها مسألة (التماسك المنطقي التام) المنشود.
فالصعوبة كلها إذن هي في تعميم طريقة التفكير الوضعية. ويجب للوصول إلى ذلك أن تمتد هذه الطريقة إلى الظواهر التي لا يزال الناس يتصورونها عادة على طريقة التفكير الدينية الميتافيزيقية. هذه هي الظراهر الخلقية والاجتماعية، وسيكون هذا العمل هو الاكتشاف الرئيسي لكومت. فإنه سينشئ (طبيعة اجتماعية)، ويكون بها قد نفى ما بقي للدين وللفلسفة من سبب في الوجود، وأقام على أساس من العلم الوضعي فلسفة وضعية كذلك، وعندئذ تتحقق (وحدة الفكر) ويكون من أثر هذا التوازن العقلي قيام التوازن الخلقي والتوازن الديني للإنسانية. (3) قانون الحالات الثلاث
قد يعتبر إنشاء علم الاجتماع في مذهب كومت بدء وغاية في وقت معا. فإنك لترى الطريقة الوضعية تصل معه من جهة إلى حكم أرقى الظاهرات وأشرفها وأكثرها تركيبا. وهنا يكون علم الاجتماع أرفع مراتب الروح الوضعية، وبذا يصل إلى أرقى درجات العلوم، ومن ثم يحكمها جميعا. ثم إنك من الجهة الأخرى ترى الفلسفة الوضعية، وقد أصبحت ممكنة الوجود تنشأ من عنده لتقيم مبادئ الخلق والسياسة.
قال كومت في أول «الدروس»: (إن إنشاء علم الاجتماع سيسمح للفلسفة الوضعية أن تكسب صفة العمومية التي لم تكن بعد قد أفادتها، وستصير بذلك قادرة على أن تحل محل الفلسفة الدينية والميتافيزيقية التي لا تمتاز اليوم بصفة حقيقية غير هذه العمومية).
Неизвестная страница