Иман
الإيمان
Исследователь
محمد ناصر الدين الألباني
Издатель
المكتب الإسلامي،عمان
Номер издания
الخامسة
Год публикации
١٤١٦هـ/١٩٩٦م
Место издания
الأردن
الإيمان
تأليف: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
اعلم أن [الإيمان] و[الإسلام] يجتمع فيهما الدين كله، وقد كثر كلام الناس في [حقيقة الإيمان والإسلام]، ونزاعهم، واضطرابهم. وقد صنفت في ذلك مجلدات، والنزاع في ذلك من حين خرجت الخوارج بين عامة الطوائف.
ونحن نذكر ما يستفاد من كلام النبي ﷺ، مع ما يستفاد من كلام الله تعالى فيصل المؤمن إلى ذلك من نفس كلام الله ورسوله، فإن هذا هو المقصود. فلا نذكر اختلاف الناس ابتداء، بل نذكر من ذلك في ضمن بيان ما يستفاد من كلام الله ورسوله ما يبين أن رد موارد النزاع إلى الله وإلى الرسول خير وأحسن تأويلا، وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة.
فنقول: قد فرق النبي ﷺ في حديث جبريل ﵇ بين مسمى [الإسلام] ومسمى [الإيمان] ومسمى [الإحسان] . فقال: " الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ".
وقال: " الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ".
1 / 7
والفرق مذكور في حديث عمر الذي انفرد به مسلم، وفي حديث أبي هريرة الذي اتفق البخاري ومسلم عليه، وكلاهما فيه: أن جبرائيل جاءه في صورة إنسان أعرابي فسأله. وفي حديث عمر: أنه جاءه في صورة أعرابي.
وكذلك فسر [الإسلام] في حديث ابن عمر المشهور، قال: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان ".
وحديث جبرائيل يبين أن الإسلام المبني على خمس هو الإسلام نفسه ليس المبني غير المبني عليه، بل جعل النبي ﷺ الدين ثلاث درجات أعلاها: الإحسان، وأوسطها: الإيمان، ويليه: الإسلام، فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنًا، ولا كل مسلم مؤمنا، كما سيأتي بيانه إن شاء الله في سائر الأحاديث، كالحديث الذي رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن رجل من أهل الشام، عن أبيه، عن النبي ﷺ قال له: " أسلم تسلم ". قال: وما الإسلام؟ قال: " أن تسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك ". قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: " الإيمان ". قال: وما الإيمان؟ قال: " أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، وبالبعث بعد الموت ". قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: " الهجرة ". قال: وما الهجرة؟ قال: " أن تهجر السوء ". قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: " الجهاد ". قال: وما الجهاد؟ قال: " أن تجاهد، أو تقاتل الكفار إذا لقيتهم، ولا تَغْلُل، ولا تَجْبُن ". ثم قال رسول الله ﷺ: " عملان هما أفضل الأعمال، إلا من عمل بمثلهما قالها ثلاثا حجة مبرورة، أو عمرة " رواه أحمد، ومحمد بن نصر المروزي.
1 / 8
لهذا يذكر هذه " المراتب الأربعة " فيقول: " المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمهاجر من هجر السيئات، والمجاهد من جاهد نفسه لله ". وهذا مروي عن النبي ﷺ من حديث عبد الله بن عمرو، وفَضَالة بن عبيد وغيرهما بإسناد جيد، وهو في السنن، وبعضه في الصحيحين. وقد ثبت عنه من غير وجه أنه قال: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ". ومعلوم أن من كان مأمونًا على الدماء والأموال؛ كان المسلمون يسلمون من لسانه ويده، ولولا سلامتهم منه لما ائتمنوه. وكذلك في حديث عبيد بن عمير، عن عمرو بن عَبَسة.
وفي حديث عبد الله بن عبيد بن عمير أيضًا عن أبيه، عن جده؛ أنه قيل لرسول الله ﷺ: ما الإسلام؟ قال: " إطعام الطعام، وطِيبُ الكلام ". قيل: فما الإيمان؟ قال: " السَّمَاحة والصبر ". قيل: فمن أفضل المسلمين إسلامًا؟ قال: " من سَلِم المسلمون من لسانه ويده ". قيل: فمن أفضل المؤمنين إيمانًا؟ قال: " أحسنهم خُلُقًا ". قيل: فما أفضل الهجرة؟ قال: " من هَجَر ما حَرَّم الله عليه ". قال: أي الصلاة أفضل؟ قال: " طول القُنُوت ". قال: أي الصدقة أفضل؟ قال:
1 / 9
" جُهْد مُقل ". قال: أي الجهاد أفضل؟ قال: " أن تجاهد بمالك ونفسك، فيُعَقْرُ جَوَادُك، ويُراق دَمُك ". قال أي الساعات أفضل؟ قال: " جَوْف الليل الغَابِر ".
ومعلوم أن هذا كله مراتب، بعضها فوق بعض، وإلا فالمهاجر لابد أن يكون مؤمنًا، وكذلك المجاهد؛ ولهذا قال: " الإيمان: السماحة والصبر "، وقال في الإسلام: " إطعام الطعام، وطيب الكلام ". والأول مستلزم للثاني؛ فإن من كان خلقه السماحة، فعل هذا بخلاف الأول؛ فإن الإنسان قد يفعل ذلك تَخَلُّقًا، ولا يكون في خلقه سماحة وصبر. وكذلك قال: " أفضل المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده ". وقال: " أفضل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا "، ومعلوم أن هذا يتضمن الأول؛ فمن كان حسن الخلق فعل ذلك.
قيل للحسن البصري: ما حُسْن الخلق؟ قال: بَذْل النَّدَى، وكَفُّ الأذى، وطلاقة الوجه. فكف الأذى جزء من حسن الخلق.
وستأتي الأحاديث الصحيحة بأنه جعل الأعمال الظاهرة من الإيمان كقوله: " الإيمان بِضْعٌ وسبعون شُعْبَة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إمَاطَة الأذى عن الطريق ". وقوله لوَفْد عبد القَيْس: " آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خُمُسَ ما غَنِمْتُم ".
ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيمانًا بالله بدون إيمان القلب؛ لما قد أخبر في غير موضع، أنه لابد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب
1 / 10
وهو الإيمان، وفي المسند عن أنس، عن النبي ﷺ أنه قال: " الإسلام عَلاَنِيَة، والإيمان في القلب ". وقال ﷺ: " إن في الجسد مُضْغَة، إذا صَلُحَت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب ". فمن صلح قلبه صلح جسده قطعًا، بخلاف العكس.
وقال سفيان بن عُيَيْنَة: كان العلماء فيما مَضى يكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات: من أصلح سَرِيرَته، أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته، كَفَاه الله أمر دنياه. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب [الإخلاص] .
فعلم أن القلب إذا صلح بالإيمان، صلح الجسد بالإسلام، وهو من الإيمان؛ يدل على ذلك أنه قال في حديث جبرائيل: " هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم ". فجعل الدين هو الإسلام، والإيمان، والإحسان. فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة، لكن هو درجات ثلاث: مسلم ثم مؤمن ثم محسن، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر: ٣٢]، والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة، بخلاف الظالم لنفسه. وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع تصديق القلب، لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن، فإنه معرض للوعيد، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وأما [الإحسان] فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإيمان. و[الإيمان] أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإسلام. فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين. وهذا كما يقال: في [الرسالة
1 / 11
والنبوة]، فالنبوة داخلة في الرسالة، والرسالة أعم من جهة نفسها، وأخص من جهة أهلها؛ فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا، فالأنبياء أعم، والنبوة نفسها جزء من الرسالة، فالرسالة تتناول النبوة وغيرها بخلاف النبوة؛ فإنها لا تتناول الرسالة.
والنبي ﷺ فسر [الإسلام والإيمان] بما أجاب به، كما يجاب عن المحدود بالحد، إذا قيل: ما كذا؟ قيل: كذا، وكذا. كما في الحديث الصحيح، لما قيل: ما الغِيبَة؟ قال: " ذِكْرُك أخاك بما يَكْرَه ". وفي الحديث الآخر: " الكِبْر بَطَر الحق، وغَمْط الناس ". وبَطَر الحق: جحده ودفعه. وغَمْط الناس: احتقارهم وازدراؤهم.
وسنذكر إن شاء الله تعالى سبب تنوع أجوبته، وإنها كلها حق.
ولكن المقصود أن قوله: " بُنِي الإسلام على خمس "، كقوله: " الإسلام هو الخمس " كما ذكر في حديث جبرائيل؛ فإن الأمر مركب من أجزاء، تكون الهيئة الاجتماعية فيه مبنية على تلك الأجزاء ومركبة منها؛ فالإسلام مبني على هذه الأركان وسنبين إن شاء الله اختصاص هذه الخمس بكونها هي الإسلام، وعليها بني الإسلام، ولم خصت بذلك دون غيرها من الواجبات؟
وقد فسر [الإيمان] في حديث وَفْد عبد القيس بما فسر به الإسلام هنا، لكنه لم يذكر فيه الحج، وهو متفق عليه، فقال: " آمركم بالإيمان بالله وحده، هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم أو خمسًا من المغنم ".
1 / 12
وقد روى في بعض طرقه: " الإيمان بالله، وشهادة أن لا إله إلا الله ".
لكن الأول أشهر. وفي رواية أبي سعيد: " آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا "، وقد فسر في حديث شعب الإيمان الإيمان بهذا وبغيره، فقال: " الإيمان بِضْعٌ وستون أو بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعْبَة من الإيمان ".
وثبت عنه من وجوه متعددة أنه قال: " الحياء شعبة من الإيمان " من حديث ابن عمر، وابن مسعود، وعمران بن حُصَين، وقال أيضًا: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين "، وقال: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "، وقال: " والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن ". قيل: من يا رسول الله؟ قال: " الذي لا يأمن جاره بوائقه "، وقال: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". وقال: " ما بعث الله من نبي إلا كان في أمته قوم يهتدون بهديه، ويَسْتَنُّون بسُنَّتِه. ثم إنه يخلف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حَبَّة خَرْدَل "، وهذا من أفراد مسلم.
وكذلك في أفراد مسلم قوله: " والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تَحَابُّوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟
1 / 13
أفشوا السلام بينكم "، وقال في الحديث المتفق عليه من رواية أبي هريرة، ورواه البخاري من حديث ابن عباس قال النبي ﷺ: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يَنْتَهِبُ النُّهْبَة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن ".
فيقال: اسم [الإيمان] تارة يذكر مفردًا غير مقرون باسم الإسلام، ولا باسم العمل الصالح، ولا غيرها، وتارة يذكر مقرونًا، إما بالإسلام، كقوله في حديث جبرائيل: " ما الإسلام وما الإيمان؟ "، وكقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [الأحزاب: ٣٥]، وقوله ﷿: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: ١٤]، وقوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الذاريات: ٣٥، ٣٦] .
وكذلك ذكر الإيمان مع العمل الصالح، وذلك في مواضع من القرآن، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [البينة: ٧]، وإما مقرونًا بالذين أوتوا العلم، كقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ﴾ [الروم: ٥٦]، وقوله: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: ١١] . وحيث ذكر الذين آمنوا فقد دخل فيهم الذين أوتوا العلم؛ فإنهم خيارهم، قال تعالى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧]، وقال: ﴿لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ [النساء: ١٦٢] .
ويذكر أيضًا لفظ المؤمنين مقرونًا بالذين هادوا والنصارى والصابئين، ثم يقول: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٦٢]، فالمؤمنون في ابتداء الخطاب غير الثلاثة، والإيمان الآخر عَمَّهُم؛ كما عَمَّهُم في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
1 / 14
الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ وسنبسط هذا إن شاء الله تعالى.
فالمقصود هنا العموم والخصوص بالنسبة إلى ما في الباطن والظاهر من الإيمان. وأما العموم بالنسبة إلى الملل، فتلك مسألة أخرى. فلما ذكر الإيمان مع الإسلام، جعل الإسلام هو الأعمال الظاهرة: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج. وجعل الإيمان ما في القلب من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. وهكذا في الحديث الذي رواه أحمد، عن أنس، عن النبي ﷺ أنه قال: " الإسلام علانية، والإيمان في القلب ".
وإذا ذكر اسم الإيمان مجردًا، دخل فيه الإسلام والأعمال الصالحة، كقوله في حديث الشعب: " الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق ". وكذلك سائر الأحاديث التي يجعل فيها أعمال البر من الإيمان.
ثم إن نفي [الإيمان] عند عدمها، دل على أنها واجبة، وإن ذكر فضل إيمان صاحبها ولم ينف إيمانه دل على أنها مستحبة؛ فإن الله ورسوله لا ينفي اسم مسمى أمر أمر الله به، ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته، كقوله: " لا صلاة إلا بأم القرآن "، وقوله: " لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له " ونحو ذلك.
فأما إذا كان الفعل مستحبًا في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب، فإن هذا لو جاز، لجاز أن ينفي عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة والزكاة والحج؛ لأنه ما من عمل إلا وغيره أفضل منه. وليس أحد يفعل أفعال البر مثل ما فعلها
1 / 15
النبي ﷺ؛ بل ولا أبو بكر ولا عمر. فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه، لجاز أن ينفي عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل.
فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه، ويتعرض للعقوبة، فقد صدق. وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب، فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله، ولا يجوز أن يقع؛ فإن من فعل الواجب كما وجب عليه، ولم ينتقص من واجبه شيئًا، لم يجز أن يقال: ما فعله لا حقيقة ولا مجازًا. فإذا قال للأعرابي المسيء في صلاته: " ارجع فَصَلِّ، فإنك لم تُصَلِّ "، وقال لمن صلى خلف الصف وقد أمره بالإعادة: " لا صلاة لفَذٍّ خلف الصف " كان لترك واجب، وكذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: ١٥]، يبين أن الجهاد واجب، وترك الارتياب واجب.
والجهاد وإن كان فرضًا على الكفاية فجميع المؤمنين يخاطبون به ابتداء، فعليهم كلهم اعتقاد وجوبه، والعزم على فعله إذا تعين؛ ولهذا قال النبي ﷺ: " من مات ولم يَغْزولم يُحَدِّث نفسه بغزو، مات على شُعْبَة نفاق " رواه مسلم. فأخبر أنه من لم يَهِمّ به، كان على شعبة نفاق. وأيضًا، فالجهاد جنس، تحته أنواع متعددة، ولابد أن يجب على المؤمن نوع من أنواعه. وكذلك قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
1 / 16
يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال: ٢-٤] . هذا كله واجب؛ فإن التوكل على الله واجب من أعظم الواجبات، كما أن الإخلاص لله واجب، وحب الله ورسوله واجب. وقد أمر الله بالتوكل في غير آية أعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة، ونهى عن التوكل على غير الله، قال تعالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [هود: ١٢٣]، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التغابن: ١٣]، وقال تعالى: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: ١٦٠]، وقال تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ﴾ [يونس: ٨٤] .
وأما قوله: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ فيقال: من أحوال القلب وأعماله ما يكون من لوازم الإيمان الثابتة فيه، بحيث إذا كان الإنسان مؤمنًا، لزم ذلك بغير قصد منه ولا تَعمُّد له. وإذا لم يوجد، دل على أن الإيمان الواجب لم يحصل في القلب، وهذا كقوله تعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾ [المجادلة: ٢٢]، فأخبر أنك لا تجد مؤمنًا يواد المحادين لله ورسوله، فإن نفس الإيمان ينافي موادته، كما ينفي أحد الضدين الآخر. فإذا وجد الإيمان انتفى ضده، وهو موالاة أعداء الله، فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه، كان ذلك دليلًا على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب.
ومثله قوله تعالى في الآية الأخرى: ﴿تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٨٠، ٨١]، فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف [لو]، التي تقتضي مع الشرط انتقاء المشروط، فقال: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا
1 / 17
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء﴾، فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه.
ومثله قوله تعالى: ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٥١]، فإنه أخبر في تلك الآيات أن متوليهم لا يكون مؤمنًا، وأخبر هنا أن متوليهم هو منهم، فالقرآن يصدق بعضه بعضًا، قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ الآية [الزمر: ٢٣]، وكذلك قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ [النور: ٦٢]: دليل على أن الذهاب المذكور بدون استئذانه لا يجوز، وأنه يجب ألا يذهب حتى يستأذن، فمن ذهب ولم يستأذن كان قد ترك بعض ما يجب عليه من الإيمان؛ فلهذا نفى عنه الإيمان، فإن حرف [إنما] تدل على إثبات المذكور ونفي غيره.
ومن الأصوليين من يقول: إن [إن] للإثبات، و[ما] للنفي، فإذا جمع بينهما دلت على النفي والإثبات، وليس كذلك عند أهل العربية، ومن يتكلم في ذلك بعلم، فإن [ما] هذه هي الكافة التي تدخل على [إن] وأخواتها فتكفها عن العمل؛ لأنها إنما تعمل إذا اختصت بالجمل الإسمية، فلما كفت بطل عملها واختصاصها، فصار يليها الجمل الفعلية والإسمية، فتغير معناها وعملها جميعًا بانضمام [ما] إليها، وكذلك كأنما وغيرها.
وكذلك قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور: ٤٧: ٥١]
1 / 18
فإن قيل: إذا كان المؤمن حقًا هو الفاعل للواجبات التارك للمحرمات، فقد قال: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال: ٤]، ولم يذكر إلا خمسة أشياء، وكذلك قال في الآية الأخرى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: ١٥]، وكذلك قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النور: ٦٢] .
قيل: عن هذا جوابان:
أحدهما: أن يكون ما ذكر مستلزمًا لما ترك؛ فإنه ذكر وَجَلَ قلوبهم إذا ذكر الله، وزيادة إيمانهم إذا تليت عليهم آياته مع التوكل عليه، وإقام الصلاة على الوجه المأمور به باطنًا وظاهرًا، وكذلك الإنفاق من المال والمنافع، فكان هذا مستلزمًا للباقي؛ فإن وَجَل القلب عند ذكر الله يقتضي خشيته والخوف منه، وقد فسروا [وجلت] ب [فرقت] . وفي قراءة ابن مسعود: [إذ ذكر الله فرقت قلوبهم] . وهذا صحيح؛ فإن الوَجَل في اللغة: هو الخوف، يقال: حُمْرَة الخَجَل، وصُفْرَة الوَجَل، ومنه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون﴾ [المؤمنون: ٦٠]، قالت عائشة: يا رسول الله، هو الرجل يزني ويسرق ويخاف أن يعاقب؟ قال: " لا يا ابنة الصديق! هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق، ويخاف ألا يقبل منه ".
وقال السُّدِّي في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال: ٢]: هو الرجل يريد أن يظلم أو يَهِمَّ بمعصية فينزع عنه، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: ٤٠، ٤١]، وقوله: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٤٦] . قال مجاهد وغيره من المفسرين: هو الرجل يَهِمُّ بالمعصية، فيذكر مقامه بين يدي الله، فيتركها خوفًا من الله.
وإذا كان وجل القلب من ذكره يتضمن خشيته ومخافته، فذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور، وترك المحظور. قال سهل بن عبد الله: ليس بين العبد وبين الله
1 / 19
حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق إليه أقرب من الافتقار، وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله. ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٤]، فأخبر أن الهدى والرحمة للذين يرهبون الله.
قال مجاهد وإبراهيم: هو الرجل يريد أن يذنب الذنب، فيذكر مقام الله، فيدع الذنب. رواه ابن أبي الدنيا، عن ابن الجَعْدِ، عن شعبة، عن منصور، عنهما، في قوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ . وهؤلاء هم أهل الفلاح المذكورون في قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ٥] . وهم [المؤمنون]، وهم [المتقون] المذكورون في قوله تعالى: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ١، ٢]، كما قال في آية البر: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٧٧] . وهؤلاء هم المتبعون للكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ [طه: ١٢٣] . وإذا لم يضل فهو متبع مهتد، وإذا لم يَشْقَ فهو مرحوم. وهؤلاء هم أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين. فإن أهل الرحمة ليسوا مغضوبًا عليهم، وأهل الهدى ليسوا ضالين، فتبين أن أهل رهبة الله يكونون متقين لله، مستحقين لجنته بلا عذاب. وهؤلاء هم الذين أتوا بالإيمان الواجب.
ومما يدل على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾ [فاطر: ٢٨]، والمعنى: أنه لا يخشاه إلا عالم، فقد أخبر الله أن كل من خشى الله فهو عالم، كما قال في الآية الأخرى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [الزمر: ٩]، والخشية أبدًا متضمنة للرجاء، ولولا ذلك لكانت قنوطًا؛ كما أن الرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمنًا؛ فأهل الخوف لله والرجاء له هم أهل العلم الذين مدحهم الله.
1 / 20
وقد روى عن أبي حيان التيمي أنه قال: العلماء ثلاثة: فعالم بالله ليس عالمًا بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالمًا بالله، وعالم بالله عالم بأمر الله. فالعالم بالله هو الذي يخافه، والعالم بأمر الله هو الذي يعلم أمره ونهيه. وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: " والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بحدوده ".
وإذا كان أهل الخشية هم العلماء الممدوحون في الكتاب والسنة، لم يكونوا مستحقين للذم، وذلك لا يكون إلا مع فعل الواجبات، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ [إبراهيم: ١٣، ١٤]، وقوله: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٤٦]، فوعد بنصر الدنيا وبثواب الآخرة لأهل الخوف، وذلك إنما يكون لأنهم أدوا الواجب، فدل على أن الخوف يستلزم فعل الواجب؛ ولهذا يقال للفاجر: لا يخاف الله. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾ [النساء: ١٧] .
قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن هذه الآية، فقالوا لي: كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب. وكذلك قال سائر المفسرين. قال مجاهد: كل عاص فهو جاهل حين معصيته. وقال الحسن وقتادة وعطاء والسُّدِّي وغيرهم: إنما سموا جهالًا لمعاصيهم، لا أنهم غير مميزين. وقال الزجاج: ليس معنى الآية: أنهم يجهلون أنه سوء؛ لأن المسلم لو أتى ما يجهله كان كمن لم يواقع سوءًا، وإنما يحتمل أمرين:
أحدهما: أنهم عملوه وهم يجهلون المكروه فيه.
والثاني: أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة، وآثروا العاجل على الآجل، فسموا جهالًا لإيثارهم القليل على الراحة الكثيرة، والعافية الدائمة. فقد جعل الزجاج الجهل إما عدم العلم بعاقبة الفعل، وإما فساد الإرادة، وقد يقال: هما متلازمان، وهذا مبسوط في الكلام مع الجهمية.
1 / 21
والمقصود هنا أن كل عاص لله فهو جاهل، وكل خائف منه فهو عالم مطيع لله، وإنما يكون جاهلًا لنقص خوفه من الله؛ إذ لو تم خوفه من الله لم يعص. ومنه قول ابن مسعود ﵁: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلًا، وذلك لأن تصور المخوف يوجب الهرب منه، وتصور المحبوب يوجب طلبه، فإذا لم يهرب من هذا، ولم يطلب هذا، دل على أنه لم يتصوره تصورًا تامًا، ولكن قد يتصور الخبر عنه، وتصور الخبر وتصديقه وحفظ حروفه غير تصور المخبر عنه، وكذلك إذا لم يكن المتصور محبوبًا له ولا مكروهًا، فإن الإنسان يصدق بما هو مخوف على غيره ومحبوب لغيره، ولا يورثه ذلك هربًا ولا طلبا. وكذلك إذا أخبر بما هو محبوب له ومكروه، ولم يكذب المخبر بل عرف صدقه، لكن قلبه مشغول بأمور أخرى عن تصور ما أخبر به، فهذا لا يتحرك للهرب ولا للطلب.
وفي الكلام المعروف عن الحسن البصري ويروى مرسلًا عن النبي ﷺ: " العلم علمان: فعلم في القلب، وعلم على اللسان. فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على عباده ".
وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي موسى، عن النبي ﷺ أنه قال: " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأُتْرُجَّة، طعمها طَيِّب وريحها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، طعمها طيب، ولا ريح لها. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحَنْظَلَة، طعمها مر، ولا ريح لها ". وهذا المنافق الذي يقرأ القرآن يحفظه ويتصور معانيه، وقد يصدق أنه كلام الله، وأن الرسول حق، ولا يكون مؤمنا، كما أن اليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وليسوا مؤمنين، وكذلك إبليس وفرعون وغيرهما. لكن من كان كذلك، لم يكن حصل له العلم التام
1 / 22
والمعرفة التامة. فإن ذلك يستلزم العمل بموجبه لا محالة؛ ولهذا صار يقال لمن لم يعمل بعلمه: إنه جاهل، كما تقدم.
وكذلك لفظ [العقل] وإن كان هو في الأصل: مصدر عَقَل يَعْقِل عَقْلًا، وكثير من النظار جعله من جنس العلوم فلابد أن يعتبر مع ذلك أنه علم يعمل بموجبه، فلا يسمى عاقلًا إلا من عرف الخير فطلبه، والشر فتركه؛ ولهذا قال أصحاب النار: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: ١٠]، وقال عن المنافقين: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ﴾ [الحشر: ١٤]، ومن فعل ما يعلم أنه يضره؛ فمثل هذا ما له عقل، فكما أن الخوف من الله يستلزم العلم به، فالعلم به يستلزم خشيته، وخشيته تستلزم طاعته، فالخائف من الله ممتثل لأوامره مجتنب لنواهيه، وهذا هو الذي قصدنا بيانه أولا. ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾ [الأعلى: ٩: ١٢]
فأخبرَ أن من يخشاه يتذكر، والتذكر هنا مستلزم لعبادته، قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ﴾ [غافر: ١٣]، وقال: ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ﴾ [ق: ٨]؛ ولهذا قالوا في قوله: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾: سيتعظ بالقرآن من يخشى الله، وفي قوله: ﴿وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ﴾: إنما يتعظ من يرجع إلى الطاعة. وهذا لأن التذكر التام يستلزم التأثر بما تذكره، فإن تذكر محبوبًا طلبه، وإن تذكر مرهوبًا هرب منه، ومنه قوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٦]، وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ﴾ [يس: ١١]، فنفى الإنذار عن غير هؤلاء مع قوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾، فأَثْبَت لهم الإنذار من وجه، ونفاه عنهم من وجه؛ فإن الإنذار هو الإعلام بالمخوف، فالإنذار مثل التعليم والتخويف، فمن عَلَّمْتَه فتعلَّم فقد تم تعليمه، وآخر يقول: علَّمته فلم يتعلم. وكذلك من خوَّفته
1 / 23
فخاف، فهذا هو الذي تم تخويفه. وأما من خُوِّف فما خاف، فلم يتم تخويفه. وكذلك من هديته فاهتدى، ثم هداه، ومنه قوله تعالى: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢]، ومن هديته فلم يهتد كما قال: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت: ١٧] فَلم يتم هداه، كما تقول: قطعته فانقطع، وقطعته فما انقطع.
فالمؤثر التام يستلزم أثره، فمتى لم يحصل أثره لم يكن تامًا، والفعل إذا صادف محلًا قابلًا تم، وإلا لم يتم. والعلم بالمحبوب يورث طلبه، والعلم بالمكروه يورث تركه؛ ولهذا يسمى هذا العلم: الداعي، ويقال: الداعي مع القدرة يستلزم وجود المقدور، وهو العلم بالمطلوب المستلزم لإرادة المعلوم المراد، وهذا كله إنما يحصل مع صحة الفطرة وسلامتها، وأما مع فسادها، فقد يحس الإنسان باللذيذ فلا يجد له لذة بل يؤلمه، وكذلك يلتذ بالمؤلم لفساد الفطرة، والفساد يتناول القوة العلمية والقوة العملية جميعًا، كالممرور الذي يجد العسل مرًا، فإنه فسد نفس إحساسه حتى كان يحس به على خلاف ما هو عليه للمرة التي مازجته، وكذلك من فسد باطنه، قال تعالى ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأنعام: ١٠٩، ١١٠] .
وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥]، وقال: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ
1 / 24
اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: ١٥٥]، وقال في الآية الأخرى: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: ٨٨] . و[الغلف] جمع أغلف، وهو ذو الغلاف الذي في غلاف مثل الأقلف، كأنهم جعلوا المانع خلقة، أي خلقت القلوب وعليها أغطية، فقال الله تعالى: ﴿بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ﴾ و﴿طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا﴾، وقال تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ﴾ [محمد: ١٦] .
وكذلك قالوا: ﴿يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ﴾ [هود: ٩١]، قال: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ﴾ [الأنفال: ٢٣] أي: لأفهمهم ما سمعوه، ثم قال: ولو أفهمهم مع هذه الحال التي هم عليها، ﴿لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: ٢٣]، فقد فسدت فطرتهم فلم يفهموا، ولو فهموا لم يعملوا، فنفى عنهم صحة القوة العلمية، وصحة القوة العملية، وقال: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٤٤]، وقال: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٩]، وقال: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٧١]، وقال عن المنافقين: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٨] .
ومن الناس من يقول: لما لم ينتفعوا بالسمع والبصر والنطق، جعلوا صمًا بكمًا عميًا؛ أو لما أعرضوا عن السمع والبصر والنطق، صاروا كالصُّمِّ العُْمي البُكْم، وليس كذلك، بل نفس قلوبهم عميت وصمت وبكمت، كما قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: ٤٦]، والقلب هو الملك، والأعضاء جنوده، وإذا صلح صلح سائر الجسد، وإذا فسد فسد سائر الجسد، فيبقى يسمع بالأذن الصوت كما تسمع البهائم، والمعنى: لا يفقهه، وإن فقه بعض الفقه لم يفقه فقهًا تامًا، فإن الفقه التام يستلزم تأثيره في القلب محبة المحبوب، وبغض المكروه، فمتى لم يحصل هذا لم يكن التصور التام حاصلًا فجاز نفيه؛ لأن ما لم يتم ينفى، كقوله للذي أساء في صلاته: " صَلِّ فإنك لم تُصَلّ "، فنفى الإيمان حيث نفى من هذا الباب.
1 / 25
وقد جمع الله بين وصفهم بوجل القلب إذا ذكر، وبزيادة الإيمان إذا سمعوا آياته. قال الضحاك: زادتهم يقينا. وقال الربيع بن أنس: خشية. وعن ابن عباس: تصديقًا. وهكذا قد ذكر الله هذين الأصلين في مواضع، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: ١٦]
والخشوع يتضمن معنيين:
أحدهما: التواضع والذل.
والثاني: السكون والطمأنينة، وذلك مستلزم للين القلب المنافي للقسوة، فخشوع القلب يتضمن عبوديته لله وطمأنينته أيضًا؛ ولهذا كان الخشوع في الصلاة يتضمن هذا، وهذا؛ التواضع والسكون. وعن ابن عباس في قوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: ٢] قال: مخبتون أذلاء. وعن الحسن وقتادة: خائفون. وعن مقاتل: متواضعون. وعن علِيّ: الخشوع في القلب، وأن تلِين للمرء المسلم كنفك، ولا تلتفت يمينا ولا شمالا. وقال مجاهد: غَضُّ البصر وخَفْض الْجنَاح، وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة يهاب الرحمن أن يشد بصره، أو أن يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا.
وعن عمرو بن دينار: ليس الخشوع الركوع والسجود، ولكنه السكون وحب حسن الهيئة في الصلاة. وعن ابن سِيرِين وغيره: كان النبي ﷺ وأصحابه يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء، وينظرون يمينًا وشمالًا حتى نزلت هذه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ الآية [المؤمنون: ١، ٢]، فجعلوا بعد ذلك أبصارهم حيث يسجدون، وما رؤي أحد منهم بعد ذلك ينظر إلا إلى
1 / 26