بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الكتاب
اللهم صل على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي الحمد لله الذي لا يخلف وعده، ولا يمنع سائله رفده، ولا ينقص مع كثرة عطاياه ما عنده، واشهد ألا إله إلا الله الملك المعبود وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. من عليه المعول والعمدة، وبه يتوسل عند المولى ف يكل كرب وشدة ﷺ وعلى آله وصحبه الذين خلفوه في الأمر بعده، صلاة وسلاما غير متقيد فيهما بمدة.
1 / 29
وبعد فهذا تصنيف لطيف سميته (التماس السعد في الوفاء بالوعد) جمعت فيه ما تيسر لي الوقوف عليه من الأحاديث والآثار ومناسبات الأشعار، وافتتحته بآية في المعنى مع طرف من تفسيرها الاسنى ليتوافق دليل السنة والكتاب ويظهر قوة من جنح في ذلك للوجوب من الأصحاب كما سيأتي في موضعه، مع إيضاحه وبيان قوة منزعه، جعلته عند مولانا الملك الأشرف لي ذخيرة رجا أن يلحظني بما ترجع به العين بجيد نقده فريده، ويتذكر بمجرد النظر فيه سابق وعده الصادق ويتخير من التقرير المعتبر ما يندرج في عموم بره ورفده وهو للغرض موافق ليحوز مع شرف نيته الثواب، الوارد فيه الكتاب والسنة معا، ويفوز بما تنطق به الجوارح في غيبته، فضلا عن اللسان من الحمد والدعاء ويضاف
1 / 30
ذلك لمحاسنه الجمة التي لم نر من شاركه فيها من الملوك الأئمة. وإذا كانت العطايا هبات ربانية، وكريم السجايا نفحات روحانية فليس بمستبعد أن يدخر لمن تأخر في الزمن من الفعل البديع والقول الحسن، ما يفوق به من سبقه، توفيقا من الله وصدقه، وما عسى أن يقال في جميل صفاته وصقيل فكرته وذاته، قال:
مَلِكٌ لَهُ رَأيٌ سَديدُ مِثلَما ... حازَ الشَجاعَةَ بِالقَنا وَالمُرهفِ
مَلِك مِنهُ سالِمُ مِثلَ اِسمِهِ ... بِالحُسنِ ذا يُدعى وَذا بِالأشرَفِ
كالقَولِ وَالوَعدِ اللَّذينِ تَماثلا ... ذا صادِقٍ فيه وَذا مِنهُ وفي
ثبت الله قواعد مملكته، ونصره في سكونه وحركته، وكفاه كل مهماته وحفظه من كل جهاته ومتعه بالنظر لوجهه الكريم في دار النعيم المقيم بمنه وكرمه آمين.
آية في الوفاء بالوعد
فأقول: قال الله عزوجل وهو أصدق القائلين (وَعَدَ اللَهُ الَّذينَ آمَنوا مِنكُم وَعَمِلوا الصالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَهُم في الأَرضِ كَما اِستَخلَفَ الَّذينَ مِن
1 / 31
قَبلِهِم وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُم دِينَهُم الَّذي اِرتَضى لَهُم وَلَيُبَدِلَنّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أمنا يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بي شَيئا وَمَن كَفَر بَعدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُم الفاسِقون) وهذه الآية الشريفة الذي الابتدا بها تشتمل على مقصد من الأغراض اللطيفة، ويتأتى الكلام عليها من عشرين وجها فأكثر من العلوم العقلية والنقلية، التي لا شاذ فيها ولا منكر لكني اقتصرت منها على ما اقتضاه الحال واتضح فيه المقال.
فأولها
سبب النزول
المعنى بشأنه العلماء الفحول، وقد أخبرني به الإمام العز أبو محمد الحنفي ﵀ مشافهة غير مرة عن غير واحد منهم أبو حفص المزي أنا أبا الحسن السعدي أنبأهم
1 / 32
عن عبد الواحد بن أبي المطهر الصيدلاني قال أخبرني أبو سعد الاسماعيلي قال أخبرنا عمر بن شاه قال أخبرنا السيد أبو الحسن الحسني قال أخبرنا أبو محمد بن الشرقي قال حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي قال حدثنا علي بن الحسين بن واقد
1 / 33
عن أبيه عن الربيع بن أنس عن أبي العالية واسمه رفيع عن أبي بن كعب ﵁ قال لما قدم رسول الله ﷺ وأصحابه المدينة وآواهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا ترون أنا نعيش حتى نبيت مطمئنين لا نخاف إلا الإله فنزلت.
وهذا حديث حسن أخرجه الطبراني في معجمه
1 / 34
الأوسط عن محمد بن اسحاق المروزي عن أحمد بن سعيد الدارمي به باختصار، فوقع لنا بدلا له عاليا، ورواه الضيا في المختاره عن عبد الواحد فوافقناه فيه بعلو، وأخرجه الحاكم في صحيحه المستدرك عن محمد بن صالح بن هاني عن محمد بن شاذان عن أحمد بن سعيد الدارمي فوقع لنا عاليا وقال الحاكم عقب
1 / 35
تخريجه إنه صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورويناه في دلائل النبوة للبيهقي عن الحاكم، وقال الطبراني لا يروى عن أبي إلا بهذا الإسناد تفرد به أحمد قلت وهذه الدعوة مردودة فقد رواه ابن مردويه في تفسيره عن سليمان بن أحمد عن أحمد بن الخضر عن محمد بن عبده عن علي بن الحسين به نحوه.
1 / 36
ورواه أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره أيضا من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع لكن بدون أبي قال كان النبي ﷺ وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وعبادته وحده لا شريك له سرا، وهم خايفون لا يؤمرون بالقتال، وكانوا بها خايفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم أن رجلا من الصحابة قال يا رسول الله أبد الدهر نحن خايفون هكذا ما يأتي عليها يوم نأمن فيه ونضع فيه السلاح فقال رسول الله ﷺ: (لن تغبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس فيه حديدة، وأنزل الله ﷿ هذه الآية.
1 / 37
وثانيها
أن هذا وعد من الله ﷿ لرسوله
ﷺ
بأنه سيجعل أمته خلفاء في الارض أئمة الناس والولاة عليهم وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم لفظا ومعنى، والوعد من الله متحتم الوقوع على ما سأوضحه في هذا المجموع فقد فعل الله ﵎ ذلك وله الحمد والمنة فإن رسول الله ﷺ لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر الجزيرة العربية وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام وهاداه هرقل ملك الروم
1 / 38
والمقوقس صاحب مصر والإسكندرية وملوك عمان والنجاشي الذي تملك بعد أصحمة ﵀ وأكرمه، ثم لما مات رسول الله ﷺ واختاره الله لما عنده من الكرامة قام بالامر بعده خليفته أفضل الأمة بعده وكان أول من أسلم من الرجال على التحقيق أبو بكر الصديق ﵁ بويع في اليوم الذي توفي فيه رسول الله ﷺ في سقيفة بني ساعدة ثم بويع البيعة العامة يوم الثلاثاء من غد ذلك اليوم وذلك في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشر فلم شعث ما وهي
1 / 39
عند موته ﵇ وأطد جزيرة العرب ومهدها وبعث الجيوش الاسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد ﵁ ففتحوا طرفا منها وقتلوا خلقا منها، وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة بن الجراح ﵁ ومن معه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثا صحبة عمرو بن العاص ﵁ إلى أرض مصر ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفها من بلاد حوران وما والاها وتوفاه الله عزوجل واختار له ما عنده وذلك وهو موسوم في مسا يوم الاثنين لثمان بقين من جماد الآخرة سنة ثلاث عشرة فكانت خلافته ﵁ سنتين ودون أربعة أشهر ومن الله على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق
1 / 40
أن يستخلف عمر بن الخطاب الفاروق ﵁ وبويع له يوم مات أبو بكر بنص أبي بكر عليه فقام بالأمر بعده قياما تاما لم يدر الفلك بعد الأنبياء ﵈ وصاحبه على قوة سيرته وكمال عدله وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكاملها وديار مصر إلى آخرها وأكثر اقليم فارس وكسر كسرى وأهانه غاية (الإهانة) وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر وانتزاع يده من بلاد الشام فانحاز إلى قسطنطينية، وأنفق أموالهما في سبيل الله كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله ﷺ إلى أن قتل ﵁ ودفن في يوم الأحد مستهل المحرم سنة أربع وعشرين وكانت خلافته عشر سنين ونصف سنة وهو أول خليفة تسمى بأمير المؤمنين قال بعض السلف ﵃ خلافة أبي بكر وعمر ﵄ حق في كتاب الله ثم تلى هذه الآية وروينا في
1 / 41
الحادي عشر من المجالسة عن ابن قتيبة أنه قال هذه الآية شاهدة لخلافة ابي بكر الصديق ﵁ وقوله تعالى (لَيَستَخلِفَنَهُم في الأَرض) أي بعد النبي ﷺ، والمراد بقوله من بعد خوفهم أمنا صحابة رسول الله ﷺ لأنهم كانوا الخايفين في صدر الاسلام وقبل الهجرة والمستضعفين ثم وجدوا بعد هذا جميع ما وعدهم الله به من النصر والظفر والظهور والعز ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الاسلامية إلى أقصى مشارق الارض ومغاربها ففتحت بلا الغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص وبلاد القيروان وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط ومن ناحية المشرق إلى
1 / 42
اقصى بلاد الصين وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية وفتحت مداين العراق وخراسان والاهواز وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا، وخذل ملكهم الاعظم خاقان، وجبى الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ﵁ وذلك ببركة تلاوته وجمعه الأمى على حفظ القرآن وتلاوته، وكانت خلافته بإجماع الصحابة بعد موت عمر ﵁ في المحرم سنة أربع وعشرين وقتل بعد عصر الجمعة من ذي الحجة سنة خمسة وثلاثين وكانت خلافته دون اثنتي عشرة سنة بأيام وبويع علي بن أبي طالب ﵁ بالخلافة بعده وبما تقدم ظهر قوله ﷺ الذي ثبت في الصحيح إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى منه، وقوله ﷺ لعدي بن
1 / 43
حاتم ﵁ حين وفد عليه أتعرف الحيرة قلت: (لم أرها) وقد سمعت بها قال فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج
الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز، قلت كسرى بن هرمز قال نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد، قال عدي: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى والذي نفسي بيده لتكونن الثالث لأن رسول الله ﷺ قد قالها، وقوله بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب وها نحن نتقلب فيما وعدنا الله - عزوجل - ورسوله ﷺ فصدق الله ورسله وجل ونسأل الله الإيمان به وبرسوله والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا وسلوك سبيله، ونصر ملكنا على أعدائه وامتداد العدل في رعيته في ابتداء ملكه وإنهائه فإنه ممن أكسبه الله محاسن جمة لو لم يكن منها إلا تحريه في الولايات المهمة وتثبته في العزل غلا بجنحة، ونظره في المصالح المهمة بنفسه ليتخير منها ما يراه أقرب إلى الصحة، والأمن بمهابته في الطرقات والسبل وجلالته في الأنفس (خصوصا) من جل ونبل وشهامته وشجاعته، وصيانته، وعبادته، وطلعته النيرة، وبهجته المشتهرة بارك الله في أيامه، وأسعده في خواصه وخدمه. عينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز، قلت كسرى بن هرمز قال نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد، قال عدي: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى والذي نفسي بيده لتكونن الثالث لأن رسول
1 / 44
الله ﷺ قد قالها، وقوله بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب وها نحن نتقلب فيما وعدنا الله - عزوجل - ورسوله ﷺ فصدق الله ورسله وجل ونسأل الله الإيمان به وبرسوله والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا وسلوك سبيله، ونصر ملكنا على أعدائه وامتداد العدل في رعيته في ابتداء ملكه وإنهائه فإنه ممن أكسبه الله محاسن جمة لو لم يكن منها إلا تحريه في الولايات المهمة وتثبته في العزل غلا بجنحة، ونظره في المصالح المهمة بنفسه ليتخير منها ما يراه أقرب إلى الصحة، والأمن بمهابته في الطرقات والسبل وجلالته في الأنفس (خصوصا) من جل ونبل وشهامته وشجاعته، وصيانته، وعبادته، وطلعته النيرة، وبهجته
1 / 45
المشتهرة بارك الله في أيامه، وأسعده في خواصه وخدمه.
وعن الأصمعي قال قيل للحسن ﵀ إنك كنت تقول الآخر أشر وهذا عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج، فقال الحسن لا بد للناس من متنفسات. رواه الدينوري في المجالسة في الجزء الثالث عشر منها، قال البراء بن عازب ﵄ إن
1 / 46
هذه الآية نزلت ونحن في خوف شديد يعني فحصل ما وعد الله تعالى به من الأمن فكانوا كذلك آمنين بقية حياة رسول الله ﷺ ثم كانوا آمنين في امارة أبي بكر وعمر وعثمان ﵃ حتى وقعوا فيما وقعوا فيه فأدخل عليهم الخوف فاتخذوا الشرط وغيروا فغير بهم فالصدر الاول وهم الصحابة رضوان الله عليهم لما كانوا أقوم الناس بعد الرسول ﷺ بأوامر الله عزوجل وأطوعهم لله، وأشدهم إظهارا لكلمة الله في المشارق والمغارب كان نصرهم بحسبهم فأيدهم الله تأييدا عظيما وتحكموا في سائر البلاد والعباد، ولما قصر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم لكن قد ثبت في الصحيحين من وجوه عن رسول الله ﷺ أنه قال (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة)، وفي رواية حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وفي رواية حتى يقاتلون الدجال وفي رواية حتى ينزل عيسى بن مريم ﵇، وهم
1 / 47
ظاهرون.
وكل هذه الروايات صحيحة ولا تعارض بينها، وقد فسر غير واحد من الأئمة هذه الطائفة بأصحاب الحديث الذين قال فيهم إمامنا الشافعي ﵀ إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث فكأنما رأيت رجلا من أصحاب رسول الله ﷺ نسأل الله التوفيق والإلهام لأقوم طريق، ثم اعلم أنه قد ذكر في هذه الشريفة من الأحاديث المنيفة
1 / 48