تقديم بقلم المترجم
رأي المرحوم الدكتور محمد مندور
جولة سريعة في ربوع الإلياذة
شخصيات الملحمة
هوميروس
القصائد الهومرية
الملخص
التلاوات البان أثيناوية
النصوص الهومرية
لغة شعر البطولة
Неизвестная страница
المقارنة بين الإلياذة والأوديسة
أبطال القصيدتين
كتبت الأوديسة في تاريخ لاحق
هل كان هوميروس في إيثاكا؟
أهو هوميروس أخيرا؟
النقد الإغريقي لهوميروس
نشأة السؤال الهوميري
دارت العجلة في دائرة كاملة
تصوير هوميروس لنفسه
الإيحاء الهوميري
Неизвестная страница
الأنشودة الأولى
الأنشودة الثانية
الأنشودة الثالثة
الأنشودة الرابعة
الأنشودة الخامسة
الأنشودة السادسة
الأنشودة السابعة
الأنشودة الثامنة
الأنشودة التاسعة
الأنشودة العاشرة
Неизвестная страница
الأنشودة الحادية عشرة
الأنشودة الثانية عشرة
الأنشودة الثالثة عشرة
الأنشودة الرابعة عشرة
الأنشودة الخامسة عشرة
الأنشودة السادسة عشرة
الأنشودة السابعة عشرة
الأنشودة الثامنة عشرة
الأنشودة التاسعة عشرة
الأنشودة العشرون
Неизвестная страница
الأنشودة الحادية والعشرون
الأنشودة الثانية والعشرون
الأنشودة الثالثة والعشرون
الأنشودة الرابعة والعشرون
تقديم بقلم المترجم
رأي المرحوم الدكتور محمد مندور
جولة سريعة في ربوع الإلياذة
شخصيات الملحمة
هوميروس
القصائد الهومرية
Неизвестная страница
الملخص
التلاوات البان أثيناوية
النصوص الهومرية
لغة شعر البطولة
المقارنة بين الإلياذة والأوديسة
أبطال القصيدتين
كتبت الأوديسة في تاريخ لاحق
هل كان هوميروس في إيثاكا؟
أهو هوميروس أخيرا؟
النقد الإغريقي لهوميروس
Неизвестная страница
نشأة السؤال الهوميري
دارت العجلة في دائرة كاملة
تصوير هوميروس لنفسه
الإيحاء الهوميري
الأنشودة الأولى
الأنشودة الثانية
الأنشودة الثالثة
الأنشودة الرابعة
الأنشودة الخامسة
الأنشودة السادسة
Неизвестная страница
الأنشودة السابعة
الأنشودة الثامنة
الأنشودة التاسعة
الأنشودة العاشرة
الأنشودة الحادية عشرة
الأنشودة الثانية عشرة
الأنشودة الثالثة عشرة
الأنشودة الرابعة عشرة
الأنشودة الخامسة عشرة
الأنشودة السادسة عشرة
Неизвестная страница
الأنشودة السابعة عشرة
الأنشودة الثامنة عشرة
الأنشودة التاسعة عشرة
الأنشودة العشرون
الأنشودة الحادية والعشرون
الأنشودة الثانية والعشرون
الأنشودة الثالثة والعشرون
الأنشودة الرابعة والعشرون
الإلياذة
الإلياذة
Неизвестная страница
تأليف
هوميروس
ترجمة
أمين سلامة
تقديم بقلم المترجم
راودتني فكرة ترجمة إلياذة هوميروس منذ أن كنت طالبا بقسم الدراسات القديمة بجامعة القاهرة؛ فقد استهوتني وداعبت خيالي ووجداني، ونزلت من نفسي مكانة عظمى، وأحسست بأن رباطا قويا يربطني بمؤلف هذه الملحمة الفذة الفريدة.
أخذت أقضي الليالي وأنا أقرأ سطورها اليونانية الصعبة، وكلما قطعت منها شوطا ازددت التصاقا بالنص وبالأفكار الواردة بين سطور هذا العمل الجليل الجبار الفائق الروعة والجمال.
وكان لا بد لي، في هذه الفترة المتقدمة من سني حياتي، وفي مرحلة الاستيعاب والإلمام والتعليم، أن أستعين بالترجمات المختلفة، سواء كانت إنجليزية أو فرنسية ... وكنت لا أترك كلمة كتبت بالعربية عن هذا العمل الأدبي الأول، الذي عرفته البشرية جمعاء في صورته الشعرية البارعة وفي متانة سبكه وطلاوة عباراته وقوة موضوعه، وسلاسة أسلوبه، وجبروت مؤلفه حتى أحاول فهم كافة معانيها واتجاهاتها، وما يرمي إليه كاتبها، حتى وجدتني عاجزا عن تفهم كل ما كتب، وتضاربت الآراء أمامي، وتعددت وجهات النظر، واختلط علي النص اليوناني اختلاطا خطيرا.
أشار علي أساتذتي الأجلاء بأن أعود إلى الترجمة العربية التي وضعها البستاني وصاغها في قالب شعري يستحق التقدير والثناء، غير أنني صدمت لأنني وجدت ترجمة البستاني قد شردت عن النص اليوناني الأصلي، وتركت فجوات، وأضافت من عندها زيادات لا وجود لها في ملحمة هوميروس، التزاما منها بالقافية والوزن الشعري. كما وجدت أن الشعر نفسه غامض كل الغموض، ولا يشجع بحال ما على القراءة الممتعة، كما يضفي على الإلياذة حالة من السرية والتعقيد تنفر منهما النفس والروح والعقل، فاكتأبت نفسي وحزن فؤادي، ونحيت البستاني جانبا، وآليت على نفسي ألا أعود إليه أبدا حتى لا تتأذى نفسي وتتأزم بصورة أشد وأنكى، وحتى لا تتولد عندي نحو هوميروس كراهية لا يستحقها، ونفور لا أشتهيه لشخصي نحوه.
لم تهدأ نفسي الصغيرة، وهي في طور التعلم والدرس إلا عندما استقر في فؤادي، أن تكون إلياذة هوميروس هي شاغلي الأول بعد تخرجي، أعطيها روحي وشبابي، وأهبها حيويتي ووقتي حتى أترجمها ترجمة صحيحة يفيد منها القراء، وأجعلهم يحبونها كما أحببتها، ويحبون صاحبها قدر حبي له بل أكثر، وحتى تتزود المكتبة العربية بأول ترجمة نافعة، وصادقة، مجدية، ودقيقة وافية، وكاملة شاملة، مذيلة بصورة يقرؤها الناس فيفهمونها، ويقصدها الخاصة والعامة فيتلذذون منها، ويخلد إليها الهاوون فيذكرونها بالخير والشكر والتقدير.
Неизвестная страница
لذلك أستطيع أن أقول - بصراحتي المعهودة - أنني شرعت في ترجمة هذا الشعر الجليل، وأنا بعد طالب في السنة الثالثة من حياتي الجامعية، نعم، شرعت في صمت الراهب، ولم أكن واثقا آنذاك، من أنني سأتمكن في يوم ما، من أن أنجزه أو أصل به إلى حد الكمال والتمام، ثم شغلت في السنين الأولى بعد تخريجي، في أعمال أخرى برزت أهميتها، كالإعداد للحصول على درجة الماجستير، وتأليف أول كتاب عرفته مصر في تعليم مبادئ اللغة اليونانية القديمة، وآخر في تعليم مبادئ اللغة اللاتينية. وكاد تيار التأليف يجرفني فينسيني تماما ذلك العهد الذي قطعته على نفسي وأنا طالب، والذي كنت قد بدأت فيه فعلا، ولم أفق إلى نفسي وأصح لعهدي القوي الصادق إلا بعد أن اهتز مركزي في الجامعة واهتزت حياتي هزة شديدة، فوجدت نفسي - بلا جريرة - في الطريق العام، لا أفيد ولا أستفيد، وتوقف عمري وضاقت الدنيا أمام ناظري، وأظلمت الحياة من حولي، وصرت في حيرة من أمري، وكاد اليأس يدب في أوصالي ويفقدني حبي للحياة والدنيا وذاتي.
تذكرت الإلياذة الحلوة، ووجدت نفسي معها، أنا وهي ولا ثالث لنا إلا الله سبحانه وتعالى، فاستعنت به واستغثت برضوانه كي يساعدني ويشد من أزري ويقويني على نسيان مأساتي، وشعرت أنكب على العمل الذي طالما شغلني وداعب فكري وخيالي، وكانت المعجزة، كان الوقت عندي واسعا فسيحا، فليس لدي عمل يستنفد طاقتي أو يستهلك وقتي الثمين، ولست مرتبطا بأي رباط أو مسئوليات تستوجب مني إنفاق الوقت وتبديده، وعشت على الكفاف، وكنت كلما أنجزت صفحة من الترجمة أشبع وأرتوي وأرتاح قليلا كأنني أكلت وجبة شهية مبتغاة منتقاة.
حملت الترجمة معي إلى السودان حيث جاد الله علي بعمل هناك في التدريس، ولم يكن العمل هناك مرهقا بقدر ما كان الحر معوقا، وبعد أن تعرضت لأزمتين صحيتين شديدتين كدت أموت خلالهما، تأقلم الجسد وتعود جو السودان، وزالت الغمة، فتفرغت تماما للترجمة بالساعات الطوال أقضيها عصر كل يوم حتى ساعة متأخرة من الليل، وساعدني جو العزلة والتفرغ كثيرا، وكأن الله، جلت قدرته، قد أراد لي كل ذلك حتى يتحقق حلم التلمذة، فأقدم للعالم العربي أول ترجمة مستساغة لا يمجها القارئ، لا تصد نفسه عن الإقبال عليها ومواصلة قراءتها بارتياح واشتياق واستمتاع.
وانتهى العمل بعد خمس سنوات كاملة لم أنشغل فيها بأي عمل أدبي آخر، ولكن فرحتي لم تكتمل إذ تعذر علي العثور على الناشر الذي يستطيع أن يقدم على نشر هذا العمل الكبير الجديد في موضوعه، القديم في فكرته، العتيق في قيمته، العظيم في مكانته.
صدمت إذ بقيت الترجمة حبيسة مكتبي وأسيرة حجرتي سنتين كاملتين، ظللت طوالهما أراجع وأصحح وأنقح وأجود وأمحص وأدقق وأتفنن، وفجأة أشرقت الشمس الدافئة على الإلياذة الكسيرة الأسيرة، فاشتراها مني من كان يعلم حق قدرها وقيمتها ومكانتها وصلاحيتها. ولم أدقق معه في السعر، وقبلت أن يشتريها مني لقاء حفنة صغيرة من الدريهمات؛ إذ كان جل همي وأملي أن ترى إلياذتي النور، وتخرج بسطورها من قمقمها وسجنها المظلم الأبدي، وزنزانتها الكئيبة الموحشة، وتشع بنورها الساطع على العالم. ولا يمكنني أن أنكر بأية حال أن الأستاذ الكبير حلمي مراد صاحب مطبوعات «كتابي» الشهيرة، قد وفى هذا العمل البالغ الأهمية كل حقه، فطبعه طبعة أنيقة شيقة طيبة جيدة في حدود إمكانياته المتاحة، ولم يبخل عليها بالدعاية اللازمة حتى أصبح رجل الشارع يعرف الإلياذة، أو بالأصح يسمع عنها ويتحدث بما تتضمنه من أحداث وروائع، إن جاز لي هذا الافتراض.
نفدت أعداد الإلياذة المطبوعة في ثلاثة أجزاء، نعم، نفدت كلها، وكان المطبوع منها بالآلاف، واعتبر كل من حظي بنسخة منها، أنه قد فاز بكنز ثمين، وغنم غنما هائلا، وزود مكتبته بكتاب نافع جدا، هو الأصل، بل هو جذور الأدب في العالم كله.
وراحت الأيام تجري، والسنون تعدو عدوها السريع، والناس لا ينسون أبدا إلياذة هوميروس ولا اسم ناشرها أو اسم مترجمها. وهكذا اقترن اسمي بهذا العمل الجليل الكبير الخطير، وكنت بعد ذلك قد عكفت على ترجمة الملحمة زميلتها، وهي «أوديسة هوميروس»، التي شاء سوء حظها أيضا أن يظهر منها الجزء الأول أما الجزء الثاني، فقد ظل سنوات دون أن يظهر أو ينشر، إلى أن رأت دار الفكر العربي لصاحبها الأستاذ محمد محمود الخضري، ضرورة ظهور الأوديسة كاملة في مجلد واحد يليق بمكانتها ومكانة مؤلفها، وقد كان. وكان لظهورها وقع كبير في جميع الأوساط الأدبية، وتناولها النقاد بالحمد والثناء والتقدير.
واليوم تعود دار الفكر العربي من جديد، وبإصرار شديد، تريد العودة إلى نشر إلياذة هوميروس في مجلد واحد، وبصورة محترمة فذة جليلة تخدم النص، وتحفظ للإلياذة هيبتها ومكانتها في دنيا الفكر والأدب العريق، ولكي يكون لها فضل احتضان أعمال هوميروس، أول شاعر عرفته البشرية، وأول من عرف الناس بالأدب الملحمي ووضع بذور فن الأدب والإنتاج الأدبي، على أرقى صوره وأشكاله، موضع التنفيذ، فولد على يديه عملاقا شامخا بصورة لم تشهد البشرية له ضريبا حتى يومنا هذا، وهيهات.
والملحمة التي بين يديك أيها القارئ العزيز، قديمة المضمون عتيقة الفكر والفحوى والمكنون، ولكنها زاخرة بالروعة والجمال، وبالمعاني الراقية والمفاهيم السامية والتعاليم النادرة، والغريب، أنها تدور كلها في ساحة القتال بين جيشين، ومع ذلك فإنها تشدك وتشدوك معا؛ لأنها ترسم لك صورا نادرة من البطولة الفذة الرائعة، وتجسم لك خيالا أشد واقعية من الواقع، وأقسى إيلاما من الألم ذاته، وأروع جمالا من الجمال نفسه.
كل من يقرأ شيئا عن أبطال هذه الملحمة القوية، يزدد إعجابا بقدرة هوميروس، ذلك الكاتب الأعمى، الذي راحت البلاد تتنافس وتتشاحن ... كل تريد أن يكون لها شرف انتسابه إليها، نعم إن قدرته على خلق هذه الأفكار العميقة المثيرة، وتصويرها بما صورها به من إبداع خلاق يفوق الإبداع نفسه، وبجدارة حسدته عليها البشرية جميعا، جعلته يستحق بجدارة أن يكنى بأبي الشعراء والأدباء والكتاب والمفكرين أجمعين.
Неизвестная страница
ولسوف أتركك لنهمك كي تعب من الإلياذة ما طاب لك أن تعب، بقدر ما يتحمله عقلك وفكرك وصبرك، وكلي ثقة بأنك إذا ما ذقت بعض طعمها ما كففت أبدا عن الاستمرار في أن تنهل منها وتتزود بزادها، ولن ألبث حتى أراك قد التهمتها التهاما، إلى أن شبعت نفسك وفاض منها، وأتخم عقلك، وسمنت روحك، ثم أحسست بعد ذلك بحاجتك الملحة إلى ضرب من الراحة والاستجمام الطويل، كي تجتر وتهضم ما امتلأ به جوفك وكيانك وجنانك، من وجبة غذائية دسمة، قد يتحملها جهازك الهضمي، وقد لا يتحملها ويرهق.
وأبطال الإلياذة من البشر، أحيانا، ومن أنصاف الآلهة أحيانا أخرى، ومن الآلهة الأوليمبيين تارة ثالثة، وهذه الحرب التي نقرأ عنها، رغم كونها استمرت تسع سنوات طوال، إلا أن هوميروس لا يسجل منها في إلياذته إلا أحداث العام التاسع وحده، والحمد لله على أنه فعل ذلك؛ لأنه استعرض أحداث هذه المدة المحدودة القصيرة في خمسة وعشرين ألفا من أبيات الشعر الأيوني الوزن والقافية واللهجة، وهذه لهجة يونانية قاسية تختلف عن اللهجة الأتيكية السليمة، التي تدرس بها اللغة اليونانية القديمة في جميع أنحاء الدنيا، مما ضاعف من تعقيد النص وصعوبته أمام القارئ والمترجم والدارسين بصفة خاصة.
لعل أبرز الأسماء الجديرة بالذكر والتي تستحق الالتفات والاهتمام معا هي أسماء كل من الأبطال: أجاممنون وأخيل (أو أشيل) وهكتور وباريس وبريام (أو برياموس). فمن يتابع أعمال هؤلاء الأبطال، وتحركاتهم وتصرفاتهم في ساحة الوغى، لا يسعه إلا أن يشيد بعظمتهم وقدرتهم وقوتهم، وهائل إرادتهم وعزيمتهم وصبرهم وجلدهم وصمودهم بصورة لم يسمع عنها من قبل، ولم نقرأ عن أمثالها في أية حقبة من الأحقاب القديمة أو الحديثة على حد سواء.
ورغم خلو هذه الملحمة الجبروتية من عنصر النساء، فإنها قامت بسبب امرأة كان الأغارقة يعتبرونها أجمل نساء العالم طرا، كانوا يرونها غادة هيفاء، بديعة الحسن والتكوين، فريدة المثال والجمال لها وجه يخجل الأقمار، ويشتهي ندى الصباح أن يستقي منه نقاوته، ذاته عينين دعجاوين غارقتين في السواد، نجلاوين بالغتي الاتساع ... في وجهها هدوء، وفي عينيها صفاء، ولصورتها رواء ... حسناء متناسبة الطول، متناسقة العرض، مرفوعة الرأس، وضاحة الجبين ... تسير في طريقها فلا تنحرف ولا تميل ... ثيابها غالية وحليها ثمينة وعطرها زكي، وصوتها عذب ساحر، كأنه أنغام فرقة موسيقية كاملة بارعة تعزف لحنا شجيا حلوا ... تجتذب بظاهر فتنتها قلبا بعد قلب وتوردها موارد المنون ... طلقة المحيا، وادعة الأسارير، يزهو وجهها في إطار من خمار أسود قشيب، قد نصبته شركا لألوان من الإيذاء ... جبينها ناصع كالصراحة، ونظرتها باترة كالعزيمة، ضحكتها مدوية كالحرية، ولمعة تفكيرها العبقري تجثم في عمق عينيها كما يجثم سر الحياة الكبرى في مركز بدنها الغض الجميل، فمها ينبوع ماء حي يود أن يعب منه كل ظمآن، وأسنانها بيض كياسمين منضد، صقيلة لامعة كأندر وأغلى اللآلئ ... خدها آنية من فضة يحف بها إطار من مرمر وورد. أنوثتها خالصة ناضجة لا يلطفها الخفر، بل يضاعفها إغراء وفتنة ... ممشوقة القوام في شموخ ساطع، جريئة الروح في نقاء ناضر، مشبوبة القلب مضطرمة العاطفة، هي أروع في التألق والتحدي من الشمس في كبد السماء ... لها فم شتيت حلو أودعت فيه السماء أسرارها، وصبغته عرائس الفنون بحمرة القبل؛ فهو دائم الابتسام، كل ابتسامة منه تحيي وتميت ... لها عنق طويل بلوري شفاف، وجسد رخص مرمري، وساقان ملتفتان، يختلط في بشرتها بياض الندف بحمرة الورد ... أهدابها كحيلة طويلة سوداء، ذات وطف ... وباختصار، كانت أنثى جميلة فائقة الحسن فاتكة اللحظات، رائعة القسمات، لم تطلع الشمس على أنضر منها وجها، ولا أملد عودا، ولا أشد إغراء وفتنة ... جرى حديث جمالها الفاتن من فم إلى فم، وتنقل من دار إلى دار، حتى أصبحت مضرب المثل بين فتيات المدينة، ومقياس الجمال كلما عرض ذكر الجمال، إذ كان لها وجه كأنه إشراقة الصبح أو صفحة البدر، أو تبلج الحق بين ظلمات الشكوك ... به عينان حوراوان امتزجت فيهما صولة السحر بنشوة الخمر، فكانتا شباك الفتنة لصيد القلوب ... وأنف أحسن الله تقويمه وأبدع تكوينه فزاد وجهها جمالا ... وثغر دري ياقوتي، تهيم به الشفاه، وتحوم حوله القلوب عطاشا كما تحوم طيور الصحراء حول معين الماء العذب النمير ... لها صدر صافي البياض ممتلئ بالأنوثة الملتهبة، يعبث بالعقول، كأنما قد صيغ من لجين براق، استعارت من الزنبق لينه فظهرت ناصعة رجراجة ... قد فرع عودها، وبرز نهداها، وترنح خصرها تحت الثوب الفضفاض الذي يستتر فيه جسدها الفتي المتفجر أنوثة وحياة، كما استدار وجهها وأناره جبين مشرق وضاء كأنه الهلال الوليد يطل من الأفق على عينين سوداوين كأن أهدابهما الطويلة الساجية غلائل ليل حالك السواد ... إذا تقدمت ترنو وتبتسم وتهتز، وتشد ثديا مثمرا فتجلب نعيما، وتثني ذراعا ملتفة عبلة، وتميل برأسها الذي كله خدود وعيون وأصداغ وأهداب كظلال الخلد ... تطل عليك بوجه صبوح جميل كالأماني، فاتن كوريقات الورد، مشرق كالضحى ... لها شعر طويل ناعم، وأنفاس كعطر تشتاقه الروح، وصوت كنغم من السماء، أو كاللحن الهادئ ينساب في خفوت، وبسمة يخشع لها القلب، ونظرات كأوتار الجيتار الناعمة الحنون ... كان منظرها، بحق، من أبهج المناظر وأشهاها وأظرفها وأحلاها، يوحي لمن يراها أن في دمه نورا، وفي كيانه سحرا، وفي حياته رجاء وأملا.
ورغم أن هذه المرأة ذات الوجه السابح في هالة الجمال والبهاء قد تزوجت مينيلاوس المحظوظ حاكم البلاد، وعاشت معه تحت سقف واحد، إلا أنها نكثت العهد وخانت زوجها الشريف النبيل، وهربت مع الضيف الطروادي الخسيس الذي استضافه زوجها المسكين، فغواها الضيف وزين لها الحرام بمعسول الألفاظ المضللة، فاستجابت لغزله، وضعفت أمام إغرائه، وهكذا هربت هيلينا الحلوة مع باريس اللئيم الخائن، فاعتبرت اليونان أن شرفها قد تلوث وصيتها قد تدنس، وأن سمعتها وسمعة حاكمها قد تلطخت بالوحل والقار، ولحقها العار والشنار، فهب رجال اليونان البواسل هبة رجل واحد، وقاموا يدا واحدة تاركين بيوتهم وزوجاتهم وعيالهم، وركبوا البحر الصاخب العريض، واتجهوا إلى حيث تعيش هيلينا مع خاطفها الدنيء في بلده طروادة. كان الشرف اليوناني يحتم عليهم استرداد الزوجة الهاربة العاصية، والقبض عليها، وأخذها بالقوة من بين أحضان عاشقها الوضيع الذي خان واجبات الضيافة المصونة، واعتدى على عرض أشرف الرجال وأعظم الحكام، وطعنه طعنة نجلاء في أعز ما يمتلك، ودنس فراشه، وانتهك حرمته، وأصابه في الصميم إصابة لا يمحوها إلا الدم والقتال إلى آخر رجل في اليونان.
ظل الأغارقة البواسل مدة تسع سنوات طوال كلها عذاب وشقاء، وقتال وحرمان، يحيطون بأسوار طروادة المنيعة البنيان، والقوية التشييد، والعالية السامقة، والمبنية بالحجر الصلد الصوان، معرضين عن الدنيا وما فيها، ونسوا نساءهم ومضاجعهم وشرابهم وحياة النعيم والرفاهية التي كانوا ينعمون بها في بلادهم ووسط أولادهم وبناتهم وزوجاتهم، ولم ينشغل بالهم إلا بالثأر من ذلك الخائن الغدار، ومحو ما لحق بسيدهم العزيز وحاكمهم المفدى من عار أي عار، والانتقام بالدم من ذلك النذل الذي أتى فعلة شنعاء متسللا إلى عقر دار حاكمهم ليسرق قلب مليكة فؤاده وشريكة فراشه، بفاتن كلماته، ومنمق عباراته، وعذب منطوقه وأحاديثه، حتى زين لها الخيانة وكساها أمام سمعها بحلة قشيبة مزركشة، خلبت لبها وخدعت فؤادها فانساقت وراء الذئب الخسيس، وهي لا تدري مغبة جريمتها النكراء، والعواقب الوخيمة التي سوف يتعرض لها زوجها المخدوع، ووطنها المنكوب، وكل شعبها المكلوم، رجالا وشبابا.
خرجت تشق عباب اليم ألف سفينة إغريقية محملة بالرجال والسلاح والمؤن والمعدات، ميممة شطر طروادة حيث يحتمي باريس اللعين مع معشوقته هيلينا المارقة، وقد ظن الوغد الداعر، والفاسق السادر، أنه فاز بمراده، وحظي بأجمل ما في الكون من أنوثة وجمال وفتنة، لقمة سائغة، فإذا ببلاده تتعرض لأقسى حصار عرفته أمة على وجه الأرض، ولأفظع حرب حنظلية مريرة مات فيها الألوف المؤلفة من المحاربين الشجعان والأبطال المغاوير.
ولولا الحصان الخشبي - وقصته معروفة شائعة - لما عرفت هذه الحرب الضروس لها نهاية وما أسدل الستار عليها في يوم ما، ولظلت الجيوش تحارب إلى ما شاء الله، كان لا بد للإغريق من خدعة كبرى مبتكرة وجديدة في نوعها، ولم يكن ليتقنها ويبتكرها، وينسج خيوطها، ويحكم حلقاتها، سوى الداهية العفرية أوديسيوس الكثير الحيل المحبوكة، والذي اعتبره العالم كله أمكر البشر جميعا، وأعظمهم براعة في دنيا الحيل والأحابيل والخدع ونصب الشراك. يا لها من فكرة مدهشة تلك التي فكر فيها أوديسيوس، وهي فكرة الحصان الخشبي الذي صنعه الأغارقة بأمره، وحسب تعليماته، وبإرشاده وإشرافه، كان جوادا جميل الشكل من خشب الأبنوس الأسود اللامع، مهيب الصورة والمنظر، بل قل هو تحفة فنية فائقة الجمال رائعة الهيئة، تود أي نفس أن تقتنيها وتستحوذ عليها وتستأثر بها، وهذا عين ما حدث، فما كادت عساكر طروادة وجنودها يرون ذلك الحصان الضخم الجذاب واقفا في الساحة خارج الأسوار، وقد انفض عنه أصحابه حتى سحبوه وأدخلوه وراء أسوارهم المنيفة الشامخة وسط التهليل وأهازيج الفرح والغبطة والسعادة الفائقة، دون أن يعلموا أن جوف ذلك الحصان يضم أبطالا مدججين بالسلاح البتار الفتاك، فخرج هؤلاء المقاتلون البواسل في جنح الظلام ومع عتمة الليل بعد أن تأكدوا من أن الطرواديين قد أذهلتهم نشوة الفرح، فراحوا يعبون كئوس الخمر مترعة وهم يهللون من فرحة الظفر، ظانين أن الأغارقة قد انصرفوا إلى حال سبيلهم دون رجعة، تاركين خارج الأسوار أشلاء قتلاهم وحصانهم الخشبي الذي كانوا يتباركون به، وارتمى على الأرض من ارتمى، ونام من نام، فإذا في الساعة المحدودة تعود سفن الإغريق المحملة بآلاف الجنود بعد أن تظاهروا بالانصراف متقهقرين مدحورين، وكان أوديسيوس وزملاؤه قد فتحوا لهم أبواب طروادة فتدفق الأغارقة منها إلى الداخل وتجرع الجنود الطرواديون السكارى الموت السريع برماح وسيوف الإغريق العطاش الموتورين، فكانت الهزيمة الجسيمة النكراء لأهل طروادة، فترنحت من شدة وطأتها البلاد، واستسلمت في سهولة ويسر وراح الأغارقة الظافرون يعيثون في البلاد فسادا بعد أن نهبوها وقتلوا باريسها وهكتورها واستعادوا هيلينا وأرجعوها إلى بلادهم، رافعين أعلام النصر فوق ساريات وأشرعة سفنهم المكينة، وهكذا استعادت اليونان شرفها الرفيع وسمعتها الغالية، وثأرت لحاكمها من ذلك الضعيف الجبان الغادر الذي اعتدى على بيته وزوجه في غفلة منه، وجازاه على إكرامه إياه وعدم تقصيره في واجبات الضيافة، ولم يؤذه من بعيد أو قريب، جازاه بالغدر والخيانة. •••
لعلني، أيها القارئ العزيز أكون في هذه العجالة قد أجملت بعض الأحداث الرئيسية في سطور قليلة، وهي، كما ترى، أحداث تهز المشاعر الإنسانية، وتمس الكيان البشري في صميم حياته، فكم من زوجة خانت بعلها، وهربت مع عاشقها، ولكن المفهوم الإغريقي للعلاقات الإنسانية قد خبا واندثر، وتطور مع تعاقب الأعوام واختلاف العصور والظروف، فما عدنا نحارب حرب الإغريق وإن كان الثأر لا يزال يمارس في بطاح كثيرة من المعمورة الغبراء لأمثال هذه الجريمة النكراء.
بعد كل هذا الذي كتبته من تقديم شخصي، يسعدني أن أقدم لكم إلياذة هوميروس نفسه في كلمات لم يسبقني إليها أحد من الذين تعرضوا لهذه الشخصية الأدبية، وهي امتداد لتلك المقدمة الطويلة التي صدرت بها ترجمتي لأوديسة هوميروس؛ فالمقدمتان نسيج واحد لثوب واحد، وتعالجان شخصية واحدة لا أحسب أن الدارسين قد فرغوا تماما من معالجتها العلاج الشافي، فمما لا شك فيه أن هوميروس بقرونه الثمانية السابقة لميلاد السيد المسيح، ما زال يحيط به غموض كثيف يحتاج إلى مزيد من الدرس والتمحيص والإضافة، للوقوف حقيقة على أبعاد وأعماق شخصيته ومكانته الأدبية الشامخة شموخ الأهرام في عصرنا الحديث.
Неизвестная страница
وإني لأحمد الله - عز وجل - إذ مكنني وساعدني وألهمني، ووهبني القدرة على إخراج هذا الكتاب الذي بين يديك، يا قارئي العزيز، بالصورة التي هو عليها، في ظروف للنشر، تعتبر غاية في القسوة من حيث الغلاء، وارتفاع أسعار الورق والطباعة ارتفاعا فاحشا، علاوة على كل ما يتصل بهذه المهنة الشريفة من شتى نواحيها، وما بالكتاب من صور وكليشيهات كثيرة أضافت إلى تكاليف الطباعة مبالغ باهظة فوق طاقة الناشر.
لذا، لا يسعني إلا أن أقدم لدار الفكر العربي والعاملين بها، وعلى رأسهم الأستاذ محمد محمود الخضري، أجزل الشكر ووافر الامتنان والعرفان، لما أبدوه نحو الإلياذة من اهتمام بالغ، ولما بذلوه في إخراجها بهذا الثوب الجميل الذي ظهرت به. مع شكري الخاص للأستاذ محمد عبد الغني السيد، الذي تفضل بمراجعة البروفات الأولى، وهيمن على الطباعة بكفاءة عالية.
وفقنا الله جميعا إلى ما فيه خير المكتبة العربية بصفة عامة، والمكتبة الكلاسيكية بصفة خاصة، إنه على كل شيء قدير.
أمين سلامة
جاردن سيتي في 1 / 1 / 1981م
رأي المرحوم الدكتور محمد مندور
أستاذ النقد الأدبي والمتخصص في الآداب
اليونانية اللاتينية
كتب سيادته في العدد الثالث والأربعين من مجلة «المجلة» بتاريخ يوليو سنة 1960م رأيه في إلياذة هوميروس فقال: «يعتبر عمل الدكتور حسن عثمان في حقل الترجمة تجديدا، أو استمرارا للعمل الكبير الذي قام به من قبل الأديب العربي الضخم سليمان البستاني بترجمته لإلياذة هوميروس إلى العربية، وإن كنا نعتقد أن ترجمة الدكتور حسن عثمان للكوميديا الإلهية ستظل دائمة الحياة والنفع والتأثير في أجيالنا المتعاقبة؛ وذلك لأن ما بقي حيا مقروءا من ترجمة سليمان البستاني للإلياذة، إنما هو المقدمة الضخمة التي كتبها لتلك الترجمة، وتناول فيها الكثير من قضايا الشعر عامة والملحمي بخاصة، وأوزان الشعر وقوافيه عند الغربيين وعند العرب على السواء، وأما الترجمة في ذاتها، فبالرغم من أن البستاني قد اختار لها الشعر وعاء، إلا أن شعره جاء عسيرا مصنوعا لا ماء فيه، وكأنه منحوت من صخر، فذهب ببساطة شعر هوميروس وخفته وسذاجته الساحرة؛ ولهذا نعتقد مخلصين أن الترجمة النثرية التي نشرها الأستاذ أمين سلامة أخيرا باللغة العربية في ثلاثة أجزاء من مطبوعات «كتابي» أفضل بكثير من ترجمة البستاني الشعرية المبهمة. ومن المؤكد أنه لو شفع الأستاذ أمين سلامة ترجمته للإلياذة بدراسته لها ولهوميروس وعصره كما فعل الدكتور حسن عثمان بالنسبة للكوميديا الإلهية، وأعاد طبعها في المظهر اللائق بمثل هذا العمل الضخم على نحو ما فعلت دار المعارف في طبعها للجزء الأول من الكوميديا الإلهية، لحظيت ترجمة الأستاذ أمين سلامة للإلياذة بكل ما تستحق من شكر وإقبال.»
وكتب الدكتور محمد مندور هذا المقال بجريدة الجمهورية في باب «دراسات في الأدب والنقد» تحت عنوان «أوديسة هوميروس ... ملحمة جواب الآفاق» وقد تعرض سيادته في هذا المقال للإلياذة أيضا فقال:
Неизвестная страница
حفلت مكتبتنا العربية في هذه الأيام الأخيرة بكسب جديد بالغ الأهمية وهو ترجمة الأستاذ أمين سلامة لأوديسة هوميروس ونشر الجزء الأول من هذه الترجمة، وهو يشمل مقدمة يعرف فيها المترجم القراء بهوميروس وملحمته الأولى «الإلياذة» التي ترجمها في العام الماضي أيضا الأستاذ أمين ونشرها في ثلاثة أجزاء ضمن مطبوعات كتابي، ثم يعرفهم بالأوديسا ملحمة هوميروس الثانية ويلخص - كما فعل في حديثه عن الإلياذة كل أغنية من الأغاني الأربع والعشرين التي يتكون منها كل من الإلياذة والأوديسا.
ويلي المقدمة النص الكامل للأغاني الاثنتي عشرة الأولى من الأوديسا على أن يتضمن الجزء الثاني الذي لا نزال ننتظره - الأغاني الاثنتي عشرة الأخيرة وقد نقل المترجم كل هذه النصوص عن اللغة اليونانية أي لغتها الأصلية التي تخصص فيها الأستاذ أمين سلامة وحصل فيها على درجة الماجستير من جامعة القاهرة، واستعان طبعا بالترجمات الأوروبية الحديثة وبخاصة الترجمات الإنجليزية. وإن كان ذلك لا يمس قيمة عمله من حيث إن ترجمته قد اعتمدت أصلا على النص اليوناني القديم مما يعطي هذه الترجمة كل قيمتها من حيث أمانة النقل ودقته، وإن كنا لا نستطيع أن نزعم أن هذه الترجمة العربية تصل في مستوى التعبير الشعري وجماله إلى مستوى الأصل اليوناني أو مستوى بعض الترجمات الأوروبية الحديثة التي تصل إلى حد كبير من الجمال دون أية تضحية بالدقة والأمانة.
ومن المعلوم أن الإلياذة كان قد قام بترجمتها منذ أواخر القرن الماضي المرحوم سليمان البستاني شعرا في أسلوب جهم لا يغري بالقراءة ثم قام في السنوات الأخيرة أديبنا الأستاذ دريني خشبة بتقديم الملحمتين إلى قراء العربية، كل ملحمة في مجلد واحد بعد أن قام - كما يقول هو نفسه - بكثير من التعديلات في القصتين وفي الأسلوب تيسيرا على شباب القراء حتى نشط الأستاذ أمين سلامة في السنوات الأخيرة إلى ترجمة الملحمتين ترجمة دقيقة عن اليونانية، دون أن يحذف أو يضيف أو يعدل شيئا في نصهما الأصلي. وبذلك أدى إلى قراء العربية وأدبائها خدمة رائعة لأن هاتين الملحمتين هما الأساس ومصدر الوحي والإلهام للأدب اليوناني كله والروماني من بعده، ثم للآداب الأوروبية كلها بحيث لا يمكن لأي أديب أن يجيد فهم كل هذه الآداب ما لم يبدأ بفهم أساسها ومصدر وحيها الأول وهو هوميروس وملحمتاه الخالدتان.
ومن المعلوم أن هوميروس قد استمد موضوع ملحمتيه معا من حرب طروادة، وهي تلك الحرب التي اشتعلت قبل الألف عام السابقة على ميلاد المسيح بين أهل طروادة سكان آسيا الصغرى واليونان نتيجة لخطف باريس أمير طروادة الجميل الطلعة لهيلانة زوجة مينيلاوس أحد ملوك المدن اليونانية؛ إذ رآها تلهو مع صاحباتها على الشاطئ الذي رست عليه سفينته فوقعت في قلبه كما وقع في قلبها ونجح في إغرائها على الهرب معه، وبذلك يكون سبب تلك الحرب الضروس في نظر شاعر الجمال هوميروس هو الصراع بين اليونان والطرواديين على هيلانة رمز الجمال المطلق، ولا غرابة في أن يقتتل اليونان هذا القتال المر الذي دام أكثر من عشر سنوات في سبيل رمز الجمال؛ فهم شعب لم يعشق شيئا كما عشق الجمال. ولقد يرى المؤرخون أن هذه الحرب كانت لها دوافع أخرى كالتنافس على التجارة وارتياد البحار، ولكن هوميروس آثر بحق الرواية الشعبية التي ترجع تلك الحرب إلى الصراع من أجل هيلانة رمز الجمال المطلق.
وإذا كان هوميروس قد كتب الإلياذة ومعناها في اللغة اليونانية: أغنية إليون، وإليون هو الاسم الذي كان يطلقه اليونان الأقدمون على طروادة بحيث يصبح معنى الإلياذة هو أغنية طروادة، وخصص تلك الأغنية، لحادثة واحدة من أحداث تلك الحرب وقعت في السنة الأخيرة من العشر السنوات التي دامتها تلك الحرب وهي حادثة غضب بطل الإغريق الأكبر أخيل لأن ملك الملوك أي القائد الأعلى للجيش اليوناني أجاممنون استولى غصبا على أسيرة أخيل الجميلة بريزيس وحرمه منها، فغضب البطل واعتزل القتال حتى دارت الدائرة على اليونان وأوشكوا أن ينهزموا لولا أن تدارك البطل الآخر أوليس الأمر بحكمته فاسترضى أخيل ورجاه أن يعود إلى القتال لينقذ قومه، وقبل أخيل أن يعود وبخاصة بعد أن علم بقتل صديقه العزيز باتروكلوس في المعركة، فهزه الوفاء لصديقه لكي ينتقم له ويقتل قاتله بطل طروادة هكتور. وتنتهي الإلياذة بانتصار أخيل على هكتور وقتله له وجر جثته مشدودة إلى عربة نصره، ثم تأثره بحزن بريام ملك طروادة ووالد هكتور عندما جاءه باكيا ضارعا طالبا إليه أن يرد جثة ابنه إليه فردها.
وأما الأوديسا فمعناها اللغوي مأخوذ من اسم بطلها أوديسيوس أي جواب الآفاق الذي كان اليونان يسمونه أوليسيوس أو أوليس، وسماه الشرقيون القدماء عولس. فهي إذن أغنية أوليس. وقد اختار هوميروس هذا البطل لملحمته الثانية كما اختار أخيل وغضبه للإلياذة؛ وذلك لأن أوليس يتجسم فيه جانب من الخلق اليوناني القديم يكمل الجانب الذي يمثله أخيل؛ فأوليس يمثل الحكمة والذكاء واتساع الحيلة في هذه الملحمة، بينما يمثل في الملحمة الأخرى الشجاعة المتهورة والكبرياء العالي والعناد الصلب إن لم نقل خشونة البداوة الأولى. والذي لا شك فيه أن الأدب وبخاصة أدب شاعر واقعي كهوميروس أدل على عقلية الشعب اليوناني من أي تراث روحي آخر؛ فالفلاسفة كأفلاطون أو الرواقيين قد يحدثوننا عن المثل الأعلى في الأخلاق ويراه أفلاطون في أن نعيش وفقا لطبيعتنا البشرية فلا نقاوم غرائزنا ولا نحاول قتلها بل نتركها تنمو نموا طبيعيا حتى لا نفسد حياتنا بكبتها مكتفين بأن نتخذ العقل رقيبا يحد من إسرافها ويلائم بين تنافرها. ولقد يدعونا الرواقيون ألا نتأثر بالأحداث فلا تنخلع قلوبنا للحزن ولا تخف أحلامنا للطرب، ولكن هذه كلها مثل عليا. والمثل الأعلى موضع رغبة ونحن لا نرغب إلا فيما يعوزنا، وأما الأدب وبخاصة أدب هوميروس الواقعي فهو الذي يبصرنا بحقيقة العقلية اليونانية التي لا تزال حتى اليوم معتبرة معجزة البشرية. ومن خلال تصوير هوميروس للبطلين أخيل وأوليس نستطيع أن نرسم الصورة الكاملة لهذه العقلية الفذة.
والأوديسا أو أغنية أوليس يرى فيها العالم الفرنسي الكبير فيكتور جيرار أغنية البحر الذي كان اليونان القدماء يعيشون معظم حياتهم على متنه ويجوبون آفاقه بحثا عن وسائل العيش التي تضن بها أرضهم الجرداء في معظم بقاعها الجبلية، وهذه الملحمة تقص علينا مؤامرات أوليس وما لاقاه من أهوال في طريق عودته من طروادة إلى وطنه ومقر ملكه، ومأوى زوجته الوفية الحبيبة بينيلوب، وهي جزيرة إيثاكا التي تقع على الشاطئ الغربي لبلاد اليونان أي عند شاطئ الماسيا وقد دامت رحلته هذه عشر سنوات أي أنه قد تغيب عن وطنه وأهله عشرين عاما قضى منها عشر سنوات في مقاتلة أهل طروادة وقضى العشر الأخرى في مغالبة الأهوال ومقاتلة الوحوش ومقاومة إغراء الساحرات والفاتنات اللائي التقى بهن عند بعض الشواطئ أو الجزر التي ساقته إليها الأمواج والعواصف وبخاصة أن إله البحار بوسايدون كان يناصبه العداء ولولا رعاية الإلهة منيرفا التي كان اليونان القدماء يسمونها بالاس أثينا ويزعمون أنها قد خرجت من رأس كبير الآلهة زيوس مدججة بحربة القتال رمزا إلى أن الحكمة لا تخرج إلا من عقل الآلهة، وأنها تخرج مدججة بأقوى سلاح - لولا عطف هذه الآلهة على ربيبها أوليس الحكيم لهلك البطل في رحلته الشاقة ولما استطاع أن يعود إلى وطنه وإلى زوجته الحبيبة الوفية بينيلوب وإلى ابنه العزيز تليماك بعدما لاقى من أهوال يفصل الحديث عنها هوميروس في ملحمته الخالدة، وكلما اشتدت بأوليس المحن تذكر وطنه وأهله فاشتد عزمه وتفتقت حيله حتى كتب له الخلاص في النهاية، وعاد في الوقت المناسب لينقذ وطنه وملكه وزوجته من الطامعين والمتربصين الأشرار، ولا نرى خاتمة لهذا الحديث الموجز السريع خيرا من أن نثبت جزءا من تغني أوليس بوطنه حيث يقول «بلدي إيثاكا الشهيرة التي تنظر إليها الشمس وقت الغروب، فيها ترف الأوراق الكثيفة على سطح جبل النيريت عند الظهيرة، وأما الفجر فينثر حولها عددا وفيرا من الجزر الخصبة الخضراء. بلدي تقع على مقربة من أرض اليونان جزيرة تقطعها الصخور ولكنها موطن فتية بواسل. لا، ليس في الأرض مكان أحب إلى قلبي منها - عبثا حاولت كالبسو أن تستهويني بكهفها لتخصني بشرف الزواج منها، عبثا حاولت سيرسيه العالمة بكل ما يعرف السحر من حيل أن تعرض علي العرض نفسه فتحتفظ بي موثقا بحبائل الزواج. لقد تبدلت جهودهن هباء فعجزن عن إمالة قلبي؛ وذلك لأن أرض الوطن وما تقل من أهل وهبونا الحياة واتصلت قلوبنا بقلوبهم؛ قد أوحت إلي بحب رقيق لا يستطيع كل ما في الأرض من مجد وخيرات أن يصرفني عنه.»
وبعد فأرجو أن يكون في هذا الحديث الموجز ما يغري بقراءة هذه الملحمة الرائعة وزميلتها الإلياذة أكبر مصدرين للأدب العالمي كله.
محمد مندور
جولة سريعة في ربوع الإلياذة
Неизвестная страница
إيضاحات لا بد منها
قبل أن نبدأ مطالعتنا معا لهذه الملحمة الخالدة، أحب أن أنبهك إلى عدة أمور قد تثير حيرتك إذا لم تعرفها سلفا: (1)
من هذه الأمور أنك ستصادف في «الإلياذة» أسلوبا يختلف عن الأسلوب الذي ألفته في سائر الأعمال الأدبية الأخرى، ستصادف أسلوبا فيه الكثير من التكرار، والتعبيرات الشاذة، والتفكير البدائي الساذج الذي يتناسب وعقلية عصر هوميروس، العقلية التي تخلط الحقائق بالخرافات، والواقع بالخيال، فتصور الآلهة في صورة البشر، وتزوج هؤلاء من أولئك، وأولئك من هؤلاء، وتنجب لأبطال الملحمة أطفالا بشريين، وآخرين سماويين! ومن أمثلة التعبيرات الغريبة التي ستقرؤها في الإلياذة، والتي تكاد تتكرر في كل صفحة من صفحاتها، هذه العبارة: «أخيل» السريع القدمين، «أبولو» الذي يضرب من بعيد، «الآخيون» (أي الإغريق) المدرعون جيدا، الربة «هيرا» البيضاء الذراعين، الآخيون ذوو الحلل البرونزية ... إلخ. (2)
ومن الإيضاحات التي أحب أن أنبهك إليها أن الترجمة الإنجليزية للإلياذة أطلقت على كل فصل من فصولها لفظ «كتاب»، فقالت: «الكتاب الأول»، «الكتاب الثاني» ... إلخ. أما الطبعة الفرنسية فقد أطلقت على كل فصل لفظ «أنشودة»، فقالت: «الأنشودة الأولى»، «الأنشودة الثانية» ... وهكذا.
وقد آثرت استعمال التعبير الفرنسي؛ لأن هوميروس حين نظم هذه الملحمة الشعرية منذ ثلاثة آلاف سنة لم ينشرها بالطبع على هيئة كتاب، وإنما راح يتغنى بها و«ينشدها» بمصاحبة القيثارة وهو يتجول في أنحاء اليونان؛ ومن ثم فتعبير «أنشودة» هو التعبير الأدق والأصدق في هذا المجال. (3)
وثمة فارق آخر بين الترجمات اليونانية والفرنسية والإنجليزية، هو أن الترجمة الفرنسية أغفلت أن تضع في بداية كل فصل ذلك التمهيد القصير الذي درجت الكتب القديمة على وضعه، والذي يلخص للقارئ أهم الأحداث التي سيقرأ عنها في الفصل التالي. أما الطبعة الإنجليزية فقد حرصت على هذا التقليد. وقد رأيت أن أضيف إلى الترجمة العربية هذه الديباجة التقليدية. (4)
ومن ناحية أخرى فقد حرصت الطبعة الفرنسية على تقسيم كل فصل إلى موضوعات، يبدأ كل موضوع منها بعنوان، بينما أغفلت الطبعات الأخرى هذه العناوين والتقسيمات. وقد آثرت أن أقتبس من الطبعة الفرنسية هذا التبويب وتلك العنوانات التي تيسر عليك مطالعة فصول الملحمة الطويلة. (5)
والملاحظة الأخيرة، أن الطبعات الثلاث جاءت كلها خلوا من أي رسم لأحداث الملحمة، أو صورة مأخوذة عن لوحة زيتية أو تمثال لإحدى شخصياتها، وأنا أومن بالارتباط و«التعايش» بين الفنون جميعها. أومن مثلا بأن الرسم الجميل أو صورة التمثال المنحوت تضفي على النثر أو الشعر الذي تتخلله جمالا فنيا جديدا، فوق جماله اللغوي أو جرسه الموسيقي؛ ومن ثم حرصت على تزيين هذه الطبعة بأفضل ما استطعت الحصول عليه - من كافة المصادر - من لوحات ورسوم، مستوحاة من حوادث الإلياذة.
تعال نعش مع هؤلاء الأبطال
تصور الإغريق آلهتهم في صورة بشر مثلهم، بعكس المصريين القدماء الذين اتخذوا لأنفسهم آلهة على صورة الحيوانات!
Неизвестная страница
والآن، تعال معي نهجر عالم الذرة والحروب الهيدروجينية، ونغوص في أعماق الماضي إلى ما قبل ثلاثة آلاف سنة، لنعيش في ظل حرب طروادة المشهورة (وكأن الإنسانية ما زالت - بعد واحد وثلاثين قرنا من نشوب تلك الحرب القديمة
1 - ما زالت حيث كانت منذ الأزل، لا تؤمن إلا بشريعة الهمجية ووحوش الغاب).
وهناك، على جانبي أسوار تلك المدينة الحصينة، سوف نلتقي بهؤلاء الأبطال الذين لست أشك في أنك تتوق منذ بعيد إلى التعرف عليهم، في موطنهم، وهم: «هيلينا» حسناء طروادة، والأمير الجميل «باريس» الذي اختطفها من زوجها ملك «أسبرطة»، و«أجاممنون» شقيق الملك وقائد جيشه، و«أخيل» أبرز أبطال هذا الجيش، و«هكتور» أشجع محاربي طروادة، والحصان الخشبي المشهور الذي أنهى الحصار الخالد لتلك المدينة الحصينة ... إلخ.
ملحمة الحب والحرب
ولكي تتذوق قصة «الإلياذة» الخالدة، كما أحب لك أن تتذوقها، ينبغي أن أمهد لك أولا الطريق الوعر إلى أغوار هذه الملحمة الإغريقية الشعرية التي تتغنى بها الإنسانية منذ أجيال، والتي ترنم بها اليونان كما ترنم اليهود بمزامير داود! وكادوا يقدسونها كما قدس هؤلاء «التوراة»، فلقنوها لصغارهم، وحفظها كبارهم عن ظهر قلب.
والواقع أن هذه «الأعجوبة» التي ترجع إلى ثلاثين قرنا، ما تزال تحتفظ بكل روعتها وجدتها، بل وخلودها الذي هو خلود الفن الصادق الأصيل، وهي تبهر الأذهان بمثل السناء والتألق اللذين بهرت بهما الأسماع لأول مرة يوم تغنى بها المنشدون في مآدب أمراء أثينا الأقدمين.
ولنقرأ وصف «أفلاطون» للأثر الذي كان يحدثه ترنيمها في المآدب والمحافل يومئذ: «كان المنشدون حين يتغنون بها يهتزون نشوة ، وتجيش نفسهم طربا، لمجرد سماعهم صدى موسيقى الأبيات التي يرددونها!»
تتداولها «الذاكرة» خمسة قرون!
وقد ظلت «الإلياذة» غير مكتوبة أو مسجلة إلا في «ذاكرة» أولئك المنشدين نحوا من خمسة قرون، أو على وجه التحديد منذ نظمها الشاعر الضرير «هوميروس» في القرن العاشر قبل الميلاد، حتى سجلتها البعثة التي ألفها «بيزيستراتوس»، في القرن الخامس قبل الميلاد، خصوصا لهذا الغرض، وقد تقصت أبياتها من مختلف حفاظها ومنشديها وحققتها تحقيقا دقيقا ثم سجلتها في صورتها الرسمية الراهنة التي يعرفها بها العالم الحديث، وأنشدتها على الملأ في احتفال وطني كبير.
حياة مؤلفها، أسطورة!
Неизвестная страница
رسم يمثل حصان طروادة المشهور، الذي يعتبر أعظم خدعة في تاريخ الحروب، وأقدم أمثلة «الطابور الخامس»، كما سترى.
الربة أثينا في كامل هيبتها وعدتها.
وإلى ما قبل القرن الثامن عشر كان المجمع عليه أن ناظم «الإلياذة» منشد ضرير من شعراء الإغريق يدعى هوميروس، عاش في فترة اختلف المؤرخون في تحديدها فتأرجحت رواياتهم بصدد ذلك بين عام 1200 وعام 850 قبل الميلاد، وكما اختلفوا بشأن تحديد العصر الذي عاش فيه هوميروس اختلفوا بشأن تحديد موطنه ومسقط رأسه، فقال البعض إنه مدينة من مدن آسيا الصغرى، وقال آخرون إنه جزيرة من جزر بحر إيجه! وقد بلغ من تنافس مختلف المدن والجزر على الاستئثار بفخر إنجاب «هوميروس» أن سبعا منها تنازعت فيما بينها هذا الشرف! وما يزال اللغز قائما بغير حل إلى اليوم.
ولكن في ختام القرن الثامن عشر نادى بعض الباحثين بنظرية جديدة مؤداها أن هوميروس ليس سوى «أسطورة لم يكن لها في الحقيقة وجود! ... أو - إن كان لها وجود - لم تكن لها غير أهمية ضئيلة تافهة، وينسب أصحاب هذه النظرية ملحمة الإلياذة، لا إلى هوميروس، وإنما إلى مجموعة من الشعراء المجهولين الذين كانوا ينظمون القصائد الحماسية للعامة أثناء حصار اليونانيين لمدينة «طروادة» خلال الحرب القديمة المشهورة بهذا الاسم.
على أن أكثر الباحثين المحدثين ينبذون هذه النظرية، جازمين بأن الإلياذة من خلق ذهن واحد، استنادا إلى الوحدة الملحوظة في بنائها الفني، وطابعها، وسياقها!
والخلاصة، أنه برغم أن اسم «هوميروس» بات من أشهر الأسماء في تاريخ الآداب العالمية قاطبة، فإن العالم لا يكاد يعرف عنه حتى اليوم سوى النزر اليسير، بل لا يكاد يقطع بما إذا كان رجلا واحدا أم مجموعة من الرجال! كل ما نخرج به من الروايات التقليدية المتداولة عنه - والتي تفتقر إلى دليل أكيد - أنه كان شاعرا ضريرا، فقيرا، مسنا، يجول من بلد إلى بلد منشدا أشعاره كلما وجد مستمعا يدفع الثمن!
أبطالها خليط من الآلهة والبشر!
ومهما يكن من شيء، فالمتفق عليه أن «الإلياذة» كانت، وما تزال - وستظل أبد الدهر - صرحا ضخما من صروح الأدب الإنساني، ومرجعا فريدا من مراجع المعرفة، وأساسا راسخا من أسس الأخلاق، وديوانا خالدا من دواوين الحماسة والبطولة، كان له على التربية، والأدب، والثقافة - الإغريقية والعالمية - أبلغ الآثار وأعظمها على مر الأجيال.
و«الإلياذة» مدينة بخلودها إلى قوة موضوعها، و«حرارة» أبياتها، وسلاسة أسلوبها البسيط الوقور الرائع! وأخيرا إلى تصويرها الناطق الحي لنفسيات الإغريق - رجالا ونساء - في ذلك العصر من عصورهم الحافل بصور بطولتهم النادرة في الحرب، وفي الحب!
وتتألف «الإلياذة» من خمسة عشر ألفا وخمسمائة من أبيات الشعر، وهي تصور حوادث واحد وخمسين يوما من أيام السنة العاشرة والأخيرة من حصار الإغريق لطروادة؛ ومن ثم فأنت لكي تقرأها وتستمتع بها على الوجه الأكمل، لا بد أن تعرف أولا قصة حرب طروادة، والغرام العارم الذي كان السبب المباشر لاشتعالها، والأبطال الذين اكتووا بنارها، سواء من بشر، أو الآلهة!
Неизвестная страница
ذلك أن أبطال الإلياذة خليط من البشر والآلهة، فمن أبطالها البشريين: باريس وهكتور، ابنا ملك طروادة، وعدوهما مينيلاوس ملك أسبرطة، وشقيقه أجاممنون قائد جيشه، أما أبطال الملحمة من الآلهة فمنهم: «زوس» كبير الآلهة، ويطلق عليه الرومان جوبيتر؛ وابنته «أثينا» إلهة الفكر، ويطلق عليها الرومان «منيرفا»؛ ثم أخيل - أو «أشيل» - أبرز أبطال جيش أجاممنون؛ وهيلينا، زوجة ملك أسبرطة الفاتنة، التي نشبت بسببها الحرب مع طروادة ... إلخ.
فدعني أقص عليك طرفا من أساطير هؤلاء الأبطال، ومغامراتهم الشائقة في الحب والحرب، قبل أن أقدمهم إليك في قصتهم الكبرى «الإلياذة»، كي يتهيأ لك الجو المناسب لفهم هذه الملحمة على أكمل وجه.
يغار من ابنه!
كانت لإله البحر «بوسايدون» حورية تدعى «ثيتيس»، وقعت عليها عين «زوس» كبير الآلهة، فأحبته، لكنه علم من «الأقدار» أن الحورية سوف تلد ابنا يصير أعظم من أبيه، فأبى أن يكون هو ذلك الأب! ومن ثم قرر ألا يضيفها إلى قائمة عشيقاته العديدات، بل يزوجها إلى ملك بلد مجاور، ولكي يضفي على الزواج رونقا وبهاء، رأى أن يحضر بنفسه حفلة العرس، مصحوبا بزوجته «هيرا» إلهة الزواج، وغيرهما من آلهة جبل الأوليمب.
التفاحة دائما!
غضب الإله «أبولو» على الإغريق بسبب أسر قائدهم «أجاممنون» للحسناء «كرايسيس»، وهذه لوحة للفنانة «هنرييتا راي» تمثل أبولو يستعطف محبوبته «دافني»!
وكان إله البحر - والد العروس - قد تعمد أن يغفل دعوة إلهة «الشقاق» الكريهة إلى عرس ابنته، لكن اللعينة ذهبت إلى ذلك الحفل متطفلة، وهناك ألقت وسط المدعوين الصاخبين «تفاحة» كتبت عليها هذا الإهداء الماكر: إلى «أجمل الحاضرات»! فتنازعت عليها ثلاث منهن: «هيرا» إلهة الزواج، وابنتها «أثينا» إلهة الفكر، ثم «أفروديت» إلهة الحب، كل تزعم أنها أحق بها من سواها! وتشيع لكل ربة من الثلاث فريق من أنصارها والمعجبين بها، حتى كاد العرس يتحول إلى ميدان قتال! لولا أن استقر رأي الحاضرين على أن يحتكموا في النزاع إلى راع وسيم الطلعة يدعى «باريس»، يرعى قطيع ماشيته على سفح جبل «أيدا» القريب.
معشوق النساء!
ورغم أن الراعي الشاب «باريس» كان يكسب عيشه من هذه الحرفة المتواضعة، فإنه كان سليل ملكين من أعظم ملوك ذلك الزمان: هما «بريام» ملك طروادة، و«هيكوبا» ملكتها! وكان عراف قد تنبأ له في طفولته بأنه سوف يجلب الخراب والكوارث على وطنه، فآثر والداه أن يضحيا به في سبيل طروادة، فتركاه على سفح تل ليموت، لكن الأقدار هيأت له راعيا فقيرا عثر عليه فأنقذه، وتبناه! وشب «باريس» فاتن الطلعة رائع الجمال، إلى حد أوقع جميع الحوريات والراعيات في هواه، أما هو فوقع في هوى حورية تدعى «أوينون »، وعاش الاثنان في سفوح جبل «أيدا» حياة مترعة بالسعادة.
الفتنة تسعى إليه!
Неизвестная страница
تمثال لإله البحر «بوسايدون»، والد الحورية «ثيتيس» - والدة «أخيل» - وهو من نحت الفنان «آدم»، ومعروض بمتحف «اللوفر» بباريس.
وذات يوم، جاءته الربات الثلاث المتنازعات على التفاحة: أفروديت، وهيرا، وأثينا، فألقين بالتفاحة الذهبية بين يديه، وسألته أن يحكم بينهن بالعدل، فيمنحها لمن يراها أحقهن بها!
ثم شرعت كل واحدة تحاول أن ترشوه - بغير استحياء - كي ينحاز إلى صفها، فوعدته «هيرا» بالسلطان والثراء، ومنته «أثينا» بالشهرة والمجد الحربي، أما «أفروديت» فقد عرضت أن تزوجه من أجمل نساء الأرض!
وراقت له الأمنية الأخيرة أكثر من سابقتيها، فمنح تفاحة «الجمال» الذهبية لإلهة الحب!
ولم تمض أيام حتى هجر «باريس» زوجته، وماشيته، وأبحر في ركاب أفروديت، إلى شواطئ اليونان.
أجمل نساء الأرض!
في تلك الأيام كان لملك «أسبرطة» زوجة تدعى «ليدا» راقت في عيني كبير الآلهة «زوس» فأنجبت منه طفلا وطفلة من الآلهة، بعد أن أنجبت من زوجها طفلا وطفلة من البشر، فلما كبر الأربعة زوجت الابنة «البشرية» من «أجاممنون» ملك «مسينا» فجلبت عليه الكوارث - كما سنرى - أما الطفلة «الإلهية» - وكانت تدعى «هيلينا» - فقد خطبها شقيقه «مينيلاوس» فظفر بها وصار وريثا لعرش أسبرطة في آن واحد!
الراعي الوسيم «باريس» وقد احتكمت إليه الربات الثلاث: «هيرا» و«أفروديت» و«أثينا» حين تنازعن على تفاحة الجمال!
وكان ملك أسبرطة الشيخ قد أدرك بفطنته أن زوج هيلينا - التي كانت تعتبر أجمل نساء الأرض قاطبة - لا بد أن يتعرض بسبب جمالها لكثير من الأخطار والأحقاد؛ فاقترح على جميع خاطبي ود هيلينا - قبل أن يزوجها من أحدهم - أن يقسم كل منهم قسما لا حنث فيه على أن يرضخ لحكمه فلا يحاول التعرض لها فيما لو صارت من نصيب سواه، بل وأن يخف لمساعدة الزوج الذي يظفر بها على استردادها، فيما لو خطفها عاشق حسود!
وسنرى أن ذلك القسم كان السبب في نشوب حرب طروادة!
Неизвестная страница
أفروديت تفي بوعدها!
وتم زواج هيلينا من «مينيلاوس»، الذي صار الآن ملكا لأسبرطة، وعاش الزوجان أعواما سعيدين، وذات يوم نزل ضيفا عليهما في قصرهما أمير شاب من أمراء طروادة، ولم يكن الأمير سوى الراعي الوسيم «باريس» الذي منح أفروديت تفاحة «الجمال» الذهبية فوعدته بأن تمنحه بدورها أجمل نساء الأرض. وتنفيذا لوعدها نصحته بأن يعود إلى قصر أبيه ملك طروادة فيعرفه بنفسه ويحصل منه على السفن اللازمة كي يقوم برحلة إلى بلاد اليونان حيث تقيم هيلينا «أجمل نساء الأرض»! فقد كان من سوء المصادفة أن الفاتنة التي وعدته بها أفروديت كانت زوجة لسواه! لكن عقبة «تافهة» كهذه ما كانت تعوق إلهة عن الوفاء بوعد قطعته على نفسها! وهكذا، بتأثير تحريض ربة الحب والجمال، انتهز الشاب «باريس» فرصة غياب مضيفه «مينيلاوس» عن القصر، فاختطف زوجته «هيلينا» وفر بها إلى طروادة!
رأس تمثال «أفروديت» ربة الحب والجمال، الذي يزين متحف «الكابيتول» بمدينة روما.
وكانت خيانة وضيعة من جانب الضيف، فإن مضيفه كان قد استقبله بكل مظاهر الترحيب اللائق بالأمير الشاب، وأكرم وفادته كأعظم ما يكون الإكرام! فلما عاد من غيبته فوقف على نبأ فرار زوجته مع ضيفهما، بادر فأرسل رسله على عجل إلى جميع طالبي يد «هيلينا» السابقين، مذكرا إياهم بقسمهم القديم على نجدته في مثل هذا الظرف بالذات!
وهرع الجميع من فورهم إليه، ودعي رؤساء العشائر لإبداء رأيهم في الموقف الحربي الذي قد يتطور إليه النزاع، فوقع اختيار المجتمعين على «أجاممنون» - زوج شقيقة هيلينا، وشقيق زوجها - كي يكون قائدا لهم في عراكهم المقبل، وبفضل دهاء أحد الحاضرين - وهو «أوديسيوس» ملك أحد الأقاليم المجاورة - ضم إلى صفوفهم البطل الصنديد «أخيل» ابن الحورية «ثيتيس» (التي حضرنا زفافها في بداية القصة) وهو الذي كانت الأقدار قد تنبأت له بأنه سوف يصير أعظم من أبيه! «أخيل» ونبوءة الآلهة
ويقترن اسم «أخيل» في أدب القدماء - الإغريق والرومان - بأكثر من أسطورة، ويتوج بأكثر من هالة من هالات المجد، حتى ليعتبر من أعظم أبطال القصص الخيالية وأحبهم إلى الأذهان.
وتقول تلك الأساطير إن «الأقدار» حين حضرت زفاف أبويه، تنبأت لهما بأن ابنهما الذي سيرزقان به يحارب مملكة طروادة فيتساقط أبناؤها تحت ضربات سلاحه الفاتك البتار، كما تتساقط سنابل الحنطة تحت ضربات منجل الحصاد! وأن حصون المدينة سوف تتداعى أخيرا أمام هجماته، فيدخلها دخول الفاتحين، لكنه سيفقد حياته آخر الأمر عند أسوارها!
ورسخت هذه النبوءة المفجعة في ذهن الحورية العروس «ثيتيس»، فلما رزقت بابنها «أخيل» جعلت همها الأوحد أن تحميه بكل وسيلة من عدوان الأقدار، وتكفل له الخلود على قيد الحياة، فلما شب عن الطوق حملته إلى نهر «ستيكس» المقدس، الذي يكسب ماؤه كل جسم يبلله مناعة أبدية ضد الموت! وهناك أمسكت بالصبي من عقب - كعب - قدمه وألقت به تحت الماء، فاكتسب جسمه تلك المناعة ضد جميع قوى الفناء، ولم يبق للموت منفذ إليه إلا عن طريق عقب قدمه الذي لم يبلله ماء النهر!
امرأة تعاند الأقدار!
وحين ترعرع الغلام تولى أحد العمالقة تدريبه على القتال وصار يغذيه بنخاع أقوى الأسود المفترسة! لكن ذلك كله لم يطامن من مخاوف الأم، التي ما فتئ يقض مضجعها القلق على ابنها الحبيب من مخاطر حرب طروادة العتيدة أن تنشب يوما فتقضي على حياته! وبتأثير هذا القلق ألبسته أمه ثياب النساء وألحقته بسلك «وصيفات» البلاط الملكي! لكن تنكره هذا لم يخف على عين الملك الماكر «أوديسيوس» فتنكر بدوره في زي بائع متجول وذهب يعرض على وصيفات القصر بضاعته من الأساور والأقراط، بعد أن دس بينها سيفا وخنجرا، فلم يكد بصر الشاب المتنكر «أخيل» يقع على الأسلحة حتى بدرت منه حركة نمت عن خبرته بفنون القتال! وهكذا انكشف أمره، فأخذه أوديسيوس معه ليشترك في مقاتلة أهل طروادة بغية استرداد ملكة أسبرطة - «هيلينا» - من أسرهم، والاقتصاص لها من آسريها!
Неизвестная страница