ربة الشعر عن آخيل بن فيلا
أنشدينا وأروي احتداما وبيلا
إشارة منه إلى أنه سيدور حول ذلك الاحتدام منذ اتقد إلى أن خمد. وهو موضوع يكاد يحسبه شعراؤنا تفها لبساطته، ويعجبون لقريحة علقت به؛ فأنتجت نحوا من ستة عشر ألف شطر أو شعر مع أن معلقة امرئ القيس ومطلعها ينبئ بمجموع أوسع وموضوع أجمع تقصر بجملتها عن مئة بيت. وإنك مع هذا إذا طالعت الإلياذة كلها لا تكاد ترى فيها حشوا ولغوا بل لا تتمالك أن تستزيد منها في مواضع كثيرة.
ومجمل القصة أنه كان في جملة السبايا فتاة جميلة وقعت في سهم آخيل عنترة الإغريق، فانتزعها منه أغاممنون زعيم الزعماء، واستخلصها لنفسه فعظم الأمر على آخيل وكاد يبطش بأغاممنون لولا أن أثينا إلاهة الحكمة هبطت من السماء وصدته قسرا، فانكفأ عنه واعتزل القتال هو وعشائره، فحمي وطيس الحرب بين الإغريق والطرواد وأخيل في عزلته يتحرق غيظا؛ فاشتدت عزيمة الطرواد لاحتجاب آخيل فنكلوا بالإغريق في مواقع كانت الغلبة في معظمها لهم، فلما ثقلت الوطأة على الإغريق أوفدوا الوفود استرضاء لأخيل فما زاد إلا عتوا وكبرا، فوقعت هيبة هكطور زعيم الطرواد وابن ملكهم فريام في قلوب الإغريق وما زالت تتوالى له الغلبة بعد الغلبة حتى كاد يحرق سفائنهم ويردهم خائبين. وكان لأخيل صديق حميم هو فطرقل فتى جمع بين كرم الخلال وبسالة الأبطال صحب آخيل في معتزله، وهو مع هذا يتلظى أسى لنكبة قومه ويستفز أخيل للأخذ بيدهم، وأخيل كالحجر الأصم لا يرق ولا يلين. ولما اشتدت الأزمة على الإغريق وكاد يقضى عليهم جعل فطرقل ينتحب كالطفل؛ فأذن له آخيل أن يتقلد سلاحه ويحمل على الطرواد بجند المرامدة قوم أخيل. فحمل عليهم حملة مزقت شملهم وردتهم على أعقابهم، وإذا به خر قتيلا أمام هكطور فدارت الدائرة بموته على قومه فولوا مدبرين وهكطور يضرب في أردافهم، ولما علم آخيل بموت فطرقل قتيلا تسعر حزنا على حليف وده، والتهب حقدا على الطرواد وتحول غضبه من عن الإغريق إليهم، ونهض للأخذ بالثأر فصالح أغاممنون وأغار على الطرواد فبطش بهم بطش الأسود بالحملان ؛ فلاذوا بالفرار وتحصنوا في معاقلهم ما خلا هكطور فإنه برز له فقتله آخيل ومثل به، ولكنه ما لبث أن سكن جأشه وخبا غيظه، فانقلب ذلك الغيظ رفقا وعطفا إذ رق لشيبة فريام فألقى إليه بجثة ابنه وسيره آمنا، فانتهت القصة بسكون وسلام.
نظمها وتناقلها
إذن لزم من تماسك أجزاء الإلياذة أن تكون منظومة واحدة، فلا يلزم أن تكون نظمت وأنشدت جزءا واحدا، ولا يؤثر على مجموعها أن تكون أنشدت في قطر واحد أو أقطار مختلفة، فهذا نقلها العربي وما هو بالشيء المذكور إزاء الأصل اليوناني، وقد نظم في أربع من قارات الأرض. ولا فرق أن يكون الشاعر نظمها تطربا بمعانيها أو تطلبا بأغانيها. تلك جميعها مباحث لا فعل لها في جوهر الإلياذة، فليس لنا هنا أن نطيل النظر فيها. وإنما يجب النظر في طريقة اتصالها على سعتها من السلف إلى الخلف.
ذهب برتلمي سنت هيلر
13
إلى أن اليونان كانوا يكتبون لعهد هوميروس، وهو قول لم يؤيده أثر حتى الساعة. ومع هذا فعلى فرض صحة هذا المذهب فإن الكتابة عندهم كانت في زمن طفولية لا تكاد تتسع إلا لتدوين ما عظم من حوادث التاريخ، وإلا لخلفت ولو أثرا ضعيفا كما خلفت في مصر وبابل. فلا ريب إذن أنها إنما حفظت أولا في أذهان الرواة فتناقلوها جيلا عن جيل.
وقد يستغرب تناقل الإلياذة في أول أمرها استظهارا على ما فيها من كثرة الأبيات واتساع المباحث وتنوع الأحاديث. على أنه يتضح لدى التروي أن ذلك الاتساع كان من مسهلات حفظها وعلوقها في ذاكرة المنشدين. وهو ثابت أن الإنشاد مهنة كانت ولا تزال شائعة بين أجيال شتى من الناس. وكان للرواة والمنشدين منزلة يحسدون عليها؛ ولهذا تطال إليها كل ذي علم واسع وذاكرة نيرة. وكثيرا ما كانت باب رزق لكل ضرير كف نظره، فتحول نور بصره إلى بصيرته، فادخرت في محفوظها ما تقصر عن رسمه أقلام الخطاطين.
Неизвестная страница