فلذلك وجب اعتبار الصبغة الشعرية في أقوال أمثال هؤلاء، فمن قال الشعر قليلا في الإسلام أو لم يقله عد جاهليا كزهير، ومن ربا قوله في الإسلام بعد أن أسلم وحفظ القرآن ككعب ابنه فهو مخضرم، ويقال مثل ذلك في حسان بن ثابت شاعر النبي فهو زعيم المخضرمين، وإن قضى نصف عمره في الجاهلية، وقال فيها الشعر الحسن.
على إنني لا أعلم بأي مساغ يعد لبيد والخنساء من المخضرمين، فأما لبيد فإن جميع شعره ولا سيما معلقته من لباب الشعر الجاهلي، ولم يرووا له في الإسلام إلا بيته القائل:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي
حتى لبست من الإسلام سربالا
وقيل: إن الخليفة عمر استنشده أيام خلافته من شعره، فانطلق وكتب سورة البقرة في صحيفة ثم أتى بها، وقال: «أبدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر» فسر عمر بجوابه، وأجزل عليه العطاء.
وأما الخنساء فجميع شعرها قبل الإسلام وبعده فخر ورثاء، ونفسه واحد وصبغته واحدة، وكله جاهلي ولا وجه لعدها بين المخضرمين إلا أن نحسب من الشعر حماسياتها النثرية المسجعة كقولها لأبنائها يوم وقعة القادسية: «يا بني إنك أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية، اصبروا، وصابروا، ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجللت نارا على أرواقها، فتيمموا وطيسها وجالدوا رئيسها، تظفروا بالمغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة».
فإن في هذا الكلام مسحة من بلاغة المخضرمين، ولكننا قد قدمنا أن العرب لا تعد هذا الكلام من الشعر في شيء؛ لأنه غير مصوغ في القالب الشعري، وإن كانت معانيه شعرية، فالخنساء ولبيد وأمثالهما في عرفنا يجب أن يعدوا من شعراء الجاهلية بالنظر إلى شعرهم، وإن صح أن يحسبوا من المخضرمين بالنظر إلى امتداد حياتهم.
وهو ثابت أيضا أنه في أوائل الإسلام حصلت فترة في الشعر، فاسكتت الشعراء ثم هبوا إليه هبة جديدة، وألبسوه ثوبا قشيبا، قال ابن خلدون: «إن الشعر كان ديوانا للعرب فيه علومهم وأخبارهم، وكان رؤساء العرب ينافسون فيه، وكانوا يقفون في سوق عكاظ لإنشاده، وعرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشبان وأهل البصر، حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام، ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي، وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه، فسكتوا عن الخوض فيه زمانا ثم استقر ذلك، وأونس الرشد في الملة، ولم ينزل الوحي في تحريمه وسمعه النبي، وأثاب عليه فرجعوا إلى دينهم منه».
فهذه الفترة التي ذكرها ابن خلدون وغيره من مؤرخي العرب هي الحد الفاصل بين الطور الأول والطور الثاني من أطوار الشعر العربي، فجميع ما تقدمها شعر جاهلي، ويلحق به قليل مما تأخر عنها من قول شعراء الجاهلية الذين أدركوا الإسلام وأسلموا، وبقي شعرهم على صبغته الجاهلية الصرفة كعبدة بن الطبيب كلما سنثبت في الفصل التالي بإيراد مثال من شعره في الإسلام.
الطبقة الأولى
Неизвестная страница