وشيء آخر أحب أن أقصه عليك كان سببا في حيرة جيلك واضطرابه، ذلك أنكم لما فقدتم الدين لم تدخلوا الآخرة في حساب الحياة كما يتطلب الدين، وعشتم للدنيا وحدها من غير نظر إلى ثواب ولا عقاب ... فنشأ عن ذلك مرض خطير وشر مستطير زاد في حيرتكم وقلقكم، وهذا هو ما ألمحه فيكم من أنانية مفرطة وأثرة جامحة.
إني لأشعر أن كل فرد منكم يريد أن يعيش لنفسه فقط ... فهو في أسرته يريد أن ينال أكبر حظ من اللذة وأقل حظ من الألم، حتى لو استطاع أن يستولي على ميزانية البيت كلها ويترك أهله يتضورون جوعا لفعل. وهو في حياته الخارجية يجري وراء شهوته ولذته مهما كانت العاقبة، ولو آذى أهله ولو آذى وطنه ... وهو إذا وظف بحث عن الترقية من أي سبيل شريف أو خسيس، بل وقد تضطره أنانيته إلى أن يمد يده، ثم هو لا يشعر بمسئوليته نحو أهله ولا نحو وطنه ولا نحو أصحاب المصالح الذين يترددون على بابه ... إنما يبحث عما يسد شهوته ويملأ أنانيته.
لقد آلمني جد الألم ما سمعت عن أستاذ في كلية من كليات الجامعة كان يقرأ على طلبته فصلا من كتاب لابن المقفع يتكلم فيه عن الفضائل من صدق وعدل ونحو ذلك، ويذكر أن هذه الوسائل للنجاح في الحياة. فهاج بعض الطلبة وقالوا: إن هذا الكلام «بدع» قديم، قد كان يصلح في العصر القديم. أما اليوم فوسيلة النجاح التهريج والوصول إلى المنفعة الشخصية من أقرب طريق ... بالصدق أو بالكذب، بالحق أو بالنفاق أو الملق.
إن كان هذا هو شعار الجيل الجديد فويل لنا وللأمة كلها من هذا الجيل الجديد!
إن جيلكم معذور بعض العذر لأنكم لم تجدوا أمامكم مثلا عليا كثيرة تضحي لخيركم، وتسوس الأمة بالعدل والنزاهة والصدق والإخلاص لمصلحة وطنكم، ورأيتم أمثلة لمن التزموا الصدق والعدل والإيثار فعاشوا فقراء وماتوا فقراء، ومن هرجوا وكذبوا ونافقوا فتسلقوا الحائط ووصلوا إلى الذروة، فكفرتم بالمبادئ الأخلاقية والفضائل النفسية، ولكن أليس هذا قصرا في النظر، وسوءا للتقدير، وفسادا في التقويم؟
سائل نفسك: هل أسعد الناس أرقاهم درجة في وظيفته، وأكثرهم مالا في دخله مهما فسدت نفسه ومات ضميره؟
وسائل نفسك: أي الرجلين أسعد حالا وأهدأ بالا وأكثر سكينة وطمأنينة ... أمن مات ضميره وزاد دخله من غير حساب لفضيلة ولا رذيلة ولا حلال ولا حرام؟ أم من حي ضميره فتلذذ بشرفه، وسعد بقناعته، واطمأن إلى سيرته، واغتبط بما يجريه الله على يديه من خير لأهله ووطنه؟
تصور بيتا يعيش فيه كل فرد لنفسه ... ألا يكون جحيما، ويكون أهله كاللصوص يتخطفون الغنائم ويتقاتلون على قسمتها؟ وتصور جيشا يعمل كل جندي وضابط فيه على أن ينجو بنفسه ويترك العبء على غيره ... هل يستطيع أن يقف في الميدان ساعة من غير هزيمة؟ وتصور أمة كل أفرادها يعيشون على التهريج ويبحث كل فرد منها عن لذائذه الشخصية وانتهابها بأي وسيلة ... هل تستطيع أن تعيش طويلا؟ إن البيت إنما يعيش بتضحية الآباء والأمهات، والجيش إنما يعيش بمن يقدم روحه فداء لوطنه، والأمة إنما تعيش بمن يتحمل المسئولية مهما لقي من جهد وعناء. والدنيا كلها أمثلة على أن الجماعة الصالحة للبقاء من غلب إيثارها أثرتها وتضحيتها أنانيتها، وإلا فلا أمل فيها ولا خير يرجى منها، ولولا تضحية أبيك وأمك ما كنت كما كنت، ولولا تضحية من حولك ما عشت. أفمن العدل أن تجازي الإحسان سوءا، والرحمة قسوة، والنعمة كفرا؟ صدقني أنه لا يتطلب اللذة الوضيعة إلا النفس الوضيعة، وأن البحث عن اللذة الفردية نتيجة قصر النظر وضيق الأفق، وأن النفس إذا تسامت ورقيت وجدت لذتها في لذة الناس وسعادتها في سعادة الناس ... وأن هذا الكلام وإن كان قديما لا يزال جديدا، وأن الحق حق في كل زمان ومكان، وأن الباطل باطل حيثما كان.
أي بني!
إن كان لي نصيحة تذهب بحيرتك وحيرة جيلك وتعيد الطمأنينة لنفسك ولأمثالك ... فالإيمان تملأون به قلوبكم ويملأ فراغكم ويتفق مع طبيعتكم، وأن تعيشوا لأنفسكم وللناس ولخيركم وخير الناس. فهذا هو الذي يساير ما طبعتم عليه، وإلا انتقمت الطبيعة منكم بمخالفتكم لقوانينها فسلطت عليكم السأم والملل والحيرة والقلق.
Неизвестная страница