أكثر ما أعجبني في أمي أنها صارت أقوى ولم تبال بكلام الناس وقررت أن تعيش الباقي من عمرها كما يحلو لها ما دامت لا تغضب الله؛ فكنا نخرج معها للسينما أحيانا ونسافر المصيف ونذهب لزيارة أقاربها، في حين انقطع عنا بعض أقاربك وكأن قرابتنا تنتهي بغيابك، لم تهتم أمي بأحد، بل كان كل اهتمامها بسعادتنا وسعادتها فقط. تغيرت أمي، فبعد أن كانت تدور في فلكك لعدة سنوات تحررت من جاذبيتك التي استنزفت أجمل سنوات عمرها لتتركها بحجة أنها كبرت ولم تعد تلبي مطالبك، تحررت منك وعاشت حياتها لا تدور في فلك أحد إنما صار لها فلكها الخاص بها.
تغلبت أمي على أحزانها وصرت بالنسبة لها مجرد ذكرى حب مؤلمة لا تريد أن تتوقف عندها، وعرض عليها الكثيرون الزواج، لكنها لم توافق لأنها رفضت أن تكون زوجة ثانية وتذيق امرأة لا ذنب لها مرارة ما ذاقته هي، وكانت تبرر رفضها ضاحكة وتقول: «من تلك البلهاء التي تأتيها الحرية على طبق من فضة وتفرط فيها بسهولة وتعود لتقيد نفسها بسلاسل رجل آخر؟ حريتي لن أفرط فيها.»
وتغير أخي سليم أيضا يا أبي، فقد كان مجرد مراهق يعيش حياته ولا يحمل لها هما، فجئت أنت في لحظة واحدة فهدمت المعبد على رأسه وأمرته أن يكون أبا لأخواته البنات، وأن يكون مسئولا عنهن وهو لم يكن حتى مسئولا عن نفسه، تخليت أنت عن مسئولياتك المعنوية التي اخترتها بإرادتك وحملتها فوق كتفي أخي الهزيلتين فكان حملا ينوء به الأقوياء فما بالك بشاب مراهق؟! في أول عامين كان يتخبط ولا يعرف ماذا يفعل ولا كيف يؤدي دوره، ثم بعد ذلك تحمل العبء كاملا وما زال يحمله حتى الآن، أنضجته الهموم والمسئولية قبل أوانه، فكنت أرى في عينيه مسحة حزن، وكلمات مكبوتة في صدره لا يبوح بها لأحد، لكني كنت أرى نظرة عطف وحب لنا، وكان حقا يبذل كل جهده ليعوضنا غيابك، لكن من يعوضه هو غيابك؟ لقد تركته يتخبط في هذا العالم بمفرده.
تغيرت أيضا أختي سلوى؛ فتلك الفتاة اللبقة الذكية صارت متمردة على كل شيء وتفعل ما يحلو لها وهي تعرف أن أحدا لن يعاقبها، وكانت تتعمد مشاكسة أمي كأنها تعاقبها لأنها سبب تركك لنا، وكانت تفعل كل ما هو ممنوع ومرفوض، ربما لتجذب الانتباه أو ربما لتقول للجميع أنا لم أعد أبالي بكم كما لم تبالوا بي، كان تمردها مزعجا لأمي كثيرا وتسبب في العديد من المشاكل والعداوة بينها وبين أخي الذي كان يرى نفسه مسئولا عنها وعليه تقويمها، وكانت ترى أنه مثلها ولا يحق له أن يمارس أية سلطات عليها، فكان البيت في فترة مراهقتها التي طالت مشتعلا دائما والكل منشغل بها.
تغيرنا كلنا بعد هجرك لنا، ولم نعد كما كنا من قبل؛ فهناك أحداث تمر في حياة الإنسان تكون بمثابة ميلاد جديد له، وأحداث تكون بمثابة انقلاب فتغير كل حياتنا، وأحداث تكون كالزلزال تهدم كل ما قبلها ليبنى من جديد. فكان هجرك لنا مزيجا من كل هذا، فتغيرت أنت كما تغيرنا، تغيرت شخصياتنا بتغير مسار حياتنا، وتغيرت مشاعرنا وأفكارنا، حتى ملامحنا تغيرت، فقد صارت أقسى، فما اكتسبناه جميعا أن نضع قناعا صلبا على وجوهنا حتى لا يعرف الآخرون ما نكابد من آلام، فلا نريد شماتة ولا شفقة من أحد، وكذلك أحطنا قلوبنا بأسوار وحصون حتى لا يسهل الدخول لها، فلن نسمح لأحد مرة أخرى أن يحطمنا كما فعلت أنت بقلوبنا الخضراء التي كانت مجرد براعم تتفتح على الحياة، فدهستها بقدميك ومضيت في طريقك.
تغيرنا جميعا يا أبي وتغيرت أنت معنا، فلم تعد بعد أن هجرتنا سعيدا مبتهجا كما كنت معنا، فقدت روحك شيئا ما، وفقدت عيناك لمعتهما، وفقدت ابتسامتك الحنون التي كانت تبهجني، لكن يبدو يا أبي أن الفقد قدرنا وعلينا أن نرضى به ونتعايش معه، وقد علمنا أن نكون أقوياء.
الفقد يا أبي إحساس قاتل للقلوب حقا، وخاصة فقد الأب فعندما نفقده بالموت يكون قاسيا، لكننا نظل نحلم لو كان حيا لفعل كذا وكذا من أجلنا، لكن الأشد قساوة فقد الأب وهو على قيد الحياة، فهو يفعل الكثير من أجل الآخرين، لكنه لا يفعل إلا القليل من أجل أبنائه، بل ويحرمهم من الكثير.
مرارة التعود
تعودنا نعم يا أبي تعودنا غيابك كما يعتاد الإنسان على كل شيء مؤلم أو مبهج في حياته فيفقد أثره في الوجع أو الفرح، مضت بنا الحياة ولم تعد تؤلمنا تعليقات الناس السخيفة ولا ذمهم فيك لهجرك إيانا، ولكن لأصدقك القول، كانت تؤلمنا ولكننا تعودنا حتى أن نخفي آلامنا عن كل العيون. حل أخي محلك، فكان الأب والأخ والصديق، وحاول بقدر استطاعته تعويضنا، وصارت أمي أقل حزنا وأكثر بهجة عما قبل، أما أنا وأختي فكنا ككل أختين نتشاحن ونتصافى ونعيش الحياة ببهجتها ونقتنص منها لحظات المرح؛ لنتزود بها قبل أن تداهمنا لحظات الحزن مرة أخرى. هل تعلم ماذا فعل بنا الاعتياد؟ جعل أي حزن أو مشكلة ينكسر على صخرة برودنا ولا مبالاتنا، بل ونتغلب عليها بالسخرية، صرنا نحول كل مشاكلنا وأحزاننا لموضوع مثير للسخرية ونظل نضحك أنا وإخوتي ولا نحمل للدنيا هما، فماذا ستفعل بنا أكثر من انتزاعك منا، وسلب راحتنا واستقرارنا؟ لا شيء.
تعودنا الغياب ومضينا في طريقنا، فاختار أخي طريق التجارة مثلك من خلال دراسته في كلية التجارة، واخترته أنت ليعمل معك في شركة المقاولات كموظف مثله مثل غيره حتى يعتمد على نفسه، فرفض وفضل العمل في بنك ليستقل بنفسه بعيدا عنك . واختارت أختي دراسة التاريخ لتعمل كمرشدة سياحية، حيث كانت تحلم بالسفر دائما والتحليق بعيدا عن حياتنا لتخلق حياتها الخاصة بها بلا قيود ولا تحكمات من أمي وأخي.
Неизвестная страница