وحين افترقنا فذهب هو إلى دار العلوم وبقيت أنا في الأزهر، ثم أبى الله إلا أن يجمعنا، ولما يمض على فراقنا إلا أقل الوقت وأقصره، فإذا نحن نلتقي في غرفات الجامعة المصرية القديمة، نسمع للأساتذة المحدثين من المصريين والأجانب، ثم لا نكاد نخرج من غرفات الدرس حتى يتصل بيننا الحديث كما كان يتصل بيننا في الأزهر، وإذا دروس الجامعة تفتح لحوارنا آفاقا طريفة، كنا نستلذ بها ونستحبها، فنمضي في الحوار وننسى له كل شيء وكل إنسان. نقطع الآماد البعيدة ماشين وقد أنسينا جهد المشي، وصرفنا عما حولنا من حركة الحياة واضطراب الأحياء، وقد ننتهي إلى مكان نأوي إليه ثم ننسى أنفسنا فيه؛ قد صرفنا عن هذا المكان وعن أنفسنا وعمن يحيط بنا من الناس، إلى ما نحن فيه من حوار، وإلى ما نستمتع به من لذة الحديث.
ثم نفترق مرة أخرى، فيذهب هو إلى مصر العليا مشتغلا بالتعليم، وأذهب أنا إلى ما وراء البحر مشتغلا بالتعلم، وينقطع الحوار بيننا، وتنقطع الرسائل أيضا، ويكاد يخيل إلى كل واحد منا أنه قد نسي صاحبه، وأن صاحبه قد نسيه. وتمضي على ذلك الأعوام الطوال، ثم نلتقي، ولا نكاد نأخذ في الحديث حتى يتبين كل واحد منا أنه لم ينس صاحبه قط، وكأنما التقينا أمس واستأنفنا لقاءنا اليوم، فنحن نصل حديثا لم نقطعه إلا أمس، وإن كنا قد قطعناه منذ أعوام طوال.
ثم يريد الله أن يجمعنا بعد الافتراق مرة أخرى، فإذا نحن في الجامعة المصرية الجديدة نعمل معا في التعليم، بعد أن كنا نشتغل معا في التعلم، وإذا أحاديثنا تتصل في الجامعة الجديدة، كما كانت تتصل في الجامعة القديمة، وكما كانت تتصل في الأزهر الشريف، وإذا الأمر يتجاوز بيننا اتصال الأحاديث، فيجد كل منا لذة في أن يختلف إلى بعض ما يلقي صاحبه من دروس، ويشارك فيما يثير بين الطلاب من مناقشة أو حوار.
ثم تفرق الأيام بيننا - أستغفر الله - تحاول الأيام أن تفرق بيننا فلا تستطيع، أخرج من الجامعة وألزم داري حينا، وأشتغل بالسياسة العنيفة حينا آخر، ولكني ألقى صاحبي أكثر مما كنت ألقاه قبل المحنة، ويتصل الحديث بيننا أكثر مما كان يتصل قبل الأزمة، ثم أعاد إلى الجامعة، وإذا نحن نعود إلى الاشتراك في الدرس، ونمضي فيما كنا فيه من الجدل والحوار.
وكان النحو أشد موضوعات الحديث خطرا، وأكثرها جريانا فيما كان يكون بيننا من حوار. ضقنا بأصوله القديمة منذ عهد الأزهر، وأخذنا ننكر هذه الأصول أيام الجامعة القديمة، وأخذنا نلتمس له أصولا جديدة منذ التقينا في الجامعة الجديدة.
فأنت ترى أني حين أقدم إليك هذا الكتاب الجديد؛ إنما أقدم إليك صديقا قديما عرفته منذ عهد بعيد جدا، ورأيته يشب وينمو ويتطور حتى تم خلقه واستوى كما تراه في هذه الصفحات.
ولعلك بعد هذا تصدقني إن قلت لك إني الآن حائر لا أدري أي الطريقين آخذ؟ وأي الطريقين أدع؟ طريق الحديث عن الكتاب، أم طريق الحديث عن صاحب الكتاب؟ فكلاهما يملأ نفسي حبا وحنانا وإعجابا.
فأما الكتاب، فلأنه لا يصور الحياة العقلية لصاحبه وحده منذ أكثر من ربع قرن، ولكنه يصور طرفا من أطراف الحياة العقلية لي أنا أيضا، وإن صاحبي ليقرأ على الباب من أبواب الكتاب فلا أسمع صوت صاحبي، وإنما أسمع صوت إبراهيم، ولا أتجه إلى ما أسمع كما تعودت أن أتجه لما يقرأ علي من الكتب والأسفار، وإنما أتجه له في شيء من الاستعداد للمناقشة والتهيؤ للجدل والتأهب للنقد الشديد، كأني أناقش إبراهيم في مسألة من مسائل النحو، وما أعرف أني لقيته فأطلت لقاءه ثم افترقنا دون أن نلم بطرف من أطراف النحو ونخوض في مسألة من مسائله، ونستحضر قول هذا النحوي أو ذاك، ونحاول تخريج هذا البيت أو ذاك.
والكتاب بعد هذا أو قبل هذا يصور صاحبه أدق تصوير وأصدقه وأبرعه، فهو بريء كل البراءة من هذا الغلو الذي يمتاز به المجدون في لون من ألوان العلم، فإذا هم يفتنون بآرائهم الجديدة، ويفنون فيها، وينسون كل قصد واعتدال، ويتكلفون في سبيل ذلك ما يقبل وما لا يقبل من الرأي، ويحتملون في سبيل ذلك ما يطاق وما لا يطاق من التبعات.
والكتاب بريء من هذا كله، يزينه قصد صاحبه وإيثاره للاعتدال، تقرأه فلا تحس أنك تنتزع من النحو القديم انتزاعا، وإنما تحس أنك تمعن فيه إمعانا، وكأنك تقرأ كتب الأئمة المتقدمين من أعلام البصرة، أو الكوفة، أو بغداد.
Неизвестная страница