ومن وجهة التلحين - الذي بلغ غاية من الإتقان - لم تعتبر إلا نصرا باهرا للموسيقى الإيطالية وفتحا جديدا لڨردي، أو لتعليم ڨاجنر، أو لما شئت أن تتخيله من عوامل الثقافة الأوروبية الناهضة، ولكن لم تعتبر مطلقا أثرا من إلهام التاريخ والحضارة لمصر القديمة.
وهكذا أصبحت «عايدة» غريبة عنا، وذهبت آمال إسماعيل سدى بعد أن بلغ ما أنفقه على إخراجها نحو مليون فرنك، ولعله أضخم مبلغ أنفق حتى الآن على إخراج أية قصة مسرحية. نعم ذهبت آمال إسماعيل سدى ولم نجن شيئا سوى الذكرى الأليمة التي تحرك شجون كل أديب غيور، وتلهم فيه العزم على تعويض هذه الخسارة بالتعاون على تكوين الأوپرا المصرية. وهذا كل ربحنا النفساني من مجهود إسماعيل، وما هو بالربح القليل إذا أعاد لنا الآمال المفقودة، والنهضة المنشودة.
لقد أنفق خديوي مصر، ولكن الفخر الأدبي والفخر الفني عادا إلى غير مصر. فماذا نستنتج من ذلك؟ لا أقل من أن الفن كالأدب ذو شخصية مستقلة عن مظاهر المادة والمال، وأن الأمة التي تعتز بفن غيرها إنما تخدم سواها ولا تنفع نفسها إلا بالتعلم فقط إذا ما تبعه الاستقلال بالإنتاج. ولكننا لم نعرف هذا الدرس قديما، فلم ننتفع الانتفاع الحق بشاعر غنائي مجيد مثل الشيخ نجيب الحداد، وتركنا الشاعر الوجداني الرقيق طانيوس عبده يموت بائسا دون استثمار مواهبه في نظم الأوپرا.
لقد بدأت الأوپرا الروسية تستقل وتكون لها مدرسة خاصة بها (راجع كتاب
The Russian Opera
تأليف
R. Newmarch )، وكذلك أوپرات الأمم الراقية الأخرى تحاول أن تثبت لها «شخصية» جلية، بينما نحن لا نزال بعيدين عن معرفة أبجدية الأوپرا المصرية، ومنا من يتصور أن كل ما نحتاج إليه إنما هو ترجمة الأوپرات الإفرنجية بأسلوب نثري، أو الاقتباس منها ثم تلحين ذلك كيفما أردنا، وحينئذ يصح لنا أن نباهي بأننا ذوو أوپرا وطنية! ... ولكن هيهات! هيهات!
لقد أوضحنا أن الأوپرا إنما هي توافق فني ما بين الشعر والدرامة والموسيقى والتمثيل، وإنه ما لم يكن التأليف والتلحين قوميا في اللون والذوق والنزعة، فحينئذ لا مفر من اعتبار القصة الملحنة أجنبية، بيد أنه لا عيب في نقل الأوپرا من لغة إلى أخرى حبا في نشر الثقافة، وإن تشدد بعض النقاد في وجوب تمثيل الأوپرا بلغتها الأصلية حفظا لروح التعابير الإنشائية التي استوحى منها الموسيقي ألحانه. وإنما يجب عند النقل مراعاة الأصل البياني قدر الاستطاعة، وصياغته في قالب نظمي أمين، ونقل الموسيقى الأصلية وتطبيقها على النظم المترجم بقدر الإمكان، وما كل هذا الجهد إلا لتتذوق جمهرة الشعب الأوپرا الأجنبية طمعا في تعضيد الجمهور للأوپرا الوطنية عند إظهارها. أما إذا انقلب الغرض وصارت للعوامل المادية سلطة الإرشاد، فحينئذ لن يكون هذا الجهد إلا عبثا ولهوا، ولن تخدم الأوپرا الوطنية أية خدمة، وإنما تكون مقضيا عليها باستمرار الفناء ولن يكون لها وجود حقيقي. وهذا للأسف الوافر هو الواقع الآن في مصر دع عنك غيرها من الممالك العربية. أقول ذلك بصراحة من يريد التشجيع والإصلاح لا بلهجة اليائس الشاكي الذي لا يعرف غير تثبيط الهمم. وكيف يجرؤ ناقد أمين على إنكار هذه الحقيقة المرة بينما يرى التأليف الشعري للأوپرا المصرية لا وجود له، وبينما يحزنه تشويه الموسيقى الغربية التي تنقل ممسوخة إلى مسارحنا لمجرد الطرب، وإن خالف قواعد الفن المرعية، وبذلك لا يخدم التأليف ولا الموسيقى ولا التمثيل، ولا ينتفع الشعب الانتفاع الفني المنشود. (5) وسائل الإصلاح
لما أخرج الموسيقار النابغة جلك (Gluck)
الأوپرا التاريخية الشهيرة «أورفياس ويوريديس» السالفة الذكر في سنة 1762م عبر بها تعبيرا عمليا ناطقا عن عقيدته في أن «رسالة الموسيقى إنما هي تزكية الشعر بتقوية تعابير العواطف وزيادة الاهتمام بالمواقف دون إعاقة أو إضعاف العمل بزخارف زائدة عن الحاجة لا قصد منها سوى دغدغة الأذن والإعلان عن نشاط الأصوات الغنائية»، وهذا هو عين المذهب الذي عمل ڨاجنر على تقويته بعبقريته، ثم ڨردي ومن نهج نهجهما من فطاحل الموسيقيين الذين - مع تقديرهم للعوامل الخيالية ولعوامل الطرب الكلي في بعض أنواع الأوپرا - لم ينسوا ولم يتناسوا رسالتهم من جعل الأوپرا وحدة فنية متماسكة لا خليطا مفككا من الخرافة واللهو والعبث. وقد مر أكثر من قرن ونصف القرن على هذا الإصلاح الفكري الفني الذي ينتظر منا أن ننتفع به؛ لأننا لسنا بمعزل عن تيار الحضارة والثقافة، فهل يجوز بعد ذلك أن نعود القهقرى بمسرحنا إلى ما قبل 165 سنة؟! هل تفهم فرقنا التمثيلية حقيقة الأوپرا كما يجب أن تفهم؟ هل تعمل هذه الفرق لإرضاء شهوة الظهور عند المطربات والمطربين؟ أم تعمل لإحياء الشعر التمثيلي؟ أم تعمل لتكوين موسيقى جديدة هي موسيقى الأوپرا المصرية؟ أم تعمل بالإجمال لتهذيب الذوق التمثيلي المصري؟ أم تعمل للكسب فقط؟! فالمشاهد المحسوس أن الشعر التمثيلي لم يشجعه ممثلو الأوپرات في مصر أقل تشجيع، والتمثيل لم يكتسب فائدة تذكر، بل ربما لم يستفد شيئا منها؛ لأن الإهمال في إخراج الأوپرات - اللهم إلا في مناظرها - محسوس، والموسيقى لم تغنم غنما مذكورا منها؛ لأن الموسيقيين أسرى أوامر الفرق بدل أن يكونوا في منزلة المبدعين المرشدين، والذوق المصري الفني لا يزال هو هو: يجارى ولا يقاد ... وإذن فليس من المبالغة أن نقول: إن الفائدة الكبرى من إيجاد أوپرات أو شبه أوپرات في مصر حتى الآن إنما هي مادية فقط، وعائدة على فرق التمثيل وحدها.
Неизвестная страница