أعلن تقديره «للإخلاص الفني » وإن خالف في التفصيل مشربه أحيانا، فما احتقر أناتول فرانس لمذهبه الإباحي، ولكنه احتقر المخادع المذبذب الذي يتشدق بفلسفة الأخلاق وإصلاح المجتمع، وهو مثال الانحطاط الخلقي وأسوأ قدوة. وكانت الفكرة الشائعة بين المجددين بل وبين المحافظين أيضا التسامح مع رجال الأدب والفنون في شذوذهم، فصحح ذلك بمذهبه وهو أن الفنان الكامل الجدير بالاحترام وبالاتباع لا بد أن يكون فيلسوف النزعة، ذا شخصية جليلة وإرشاد سام صادق عن مبادئ وعواطف ممتازة، وإلا فلا معنى ولا قيمة لذبذبته وشعوذته، إذ غاية الفن أن يخدم الحقيقة وأن يسعد الإنسانية، لا أن يكون عبثا وبهرجا كاذبا، ولا أن يغدو مفسدة لها ووبالا عليها. (3)
ثار على مقاييس الحكم التقليدي العتيق المبنية على المعارضات والمناظرات، ولم يعترف إلا بالرأي النزيه والشعور الصادق والفكر المستقل والأثر الباني المجدد القرين للابتداع المغذي للمشاعر الإنسانية المهيب بها إلى الأمام وإلى العلاء وإلى الحرية. (4)
بث روح العلم والحقيقة الفنية الجميلة في الشعر بعد أن كانت روح الأوهام والأكاذيب الضالة والمبالغات السقيمة هي الغالبة، حتى عد العلم والأدب زمنا طويلا خصمين مع أن الأدب الحي لا مفر له من أن يستمد قوته من العلم ومن الفكرة العالمية ومن تفهم الحقيقة الفنية، وهو الآن حامل لواء هذا المذهب في الشعر العربي. (5)
بث روح القومية المصرية في شعره بإخلاص هو التفاني في حب مصر، حتى عد بجدارة شاعر الشباب الأول بل شاعر النهضة الفكرية الوطنية، وهذا واضح التجلي في شعره الوطني المشتعل حماسة وقوة وإخلاصا وهداية منذ نيف وعشرين عاما، بينما كان كثيرون غيره من الشعراء يعتبرون الشعر الوطني مديح تركيا أو الجامعة الإسلامية أو نحو ذلك من الروابط الثانوية. (6)
أبى أن يحكم على العربية بالعقم وعلى الشعر العربي بالجمود الدائم، فأخذ بيد الشعر القصصي والشعر التمثيلي مفسحا المجال للأوصاف المتنوعة للعواطف والمواقف والمرامي والنظرات، كما تفنن في أساليبه النظمية مجاراة للأدب الأوروبي الراقي. (7)
نشر نزعة التعاون الأدبي وحب الشعر للشعر، بعد أن طال زمن الحرب والهدم بين الأدباء وعهد «الإمارة» الشعرية والاستئثار بالظهور حتى يصح لنا بصدق أن نقر بأن له أثرا غير قليل في تكوين هذه السجية الشريفة بين أدبائنا الناشئين على الأخص؛ أولئك الذين يطالعون كتبه بشغف وعناية وإكرام. (8)
جدد في الشعر العربي روح الافتتان بالطبيعة عن مؤمن بها، فذكرنا بأيام (البحتري) و(ابن حمديس) و(ابن خفاجة) وأضرابهم، بعد أن كاد ينعدم هذا الفن من فنون الشعر لانصراف الناس إلى الماديات والسياسيات وتفشي التقليد والجمود. وحسبنا قصائده «صور وأنغام» و«بسمة الطبيعة» و«فتاة الريف» وأمثالها. (9)
أظهر لنا أمثلة من الفلسفة الشعرية الحقة التي يوحيها تفكيره الهادئ العميق، كما نرى في قصيدته «أقصى الظنون» وغيرها من المنظومات الآخذة باللب في ديوان (الشفق الباكي) وسواه من مؤلفاته الشعرية. (10)
رفع أحلامنا - بما عالجه من موضوعات نفسية وذهنية، وبما بثه من آراء وعواطف ومبادئ، وبما نشره من تفاؤل جميل، وبما تغنى به من حب ومواساة - إلى مثل عليا قلما تزجينا إلى بعضها معظم أشعار معاصريه.
ومن كانت هذه منزلته في نفسي وعند الشباب الناهض المتعلم الحر، فحسبه من هذا التقدير الوجيز تجديدا لعهد الولاء، ومن الدعوة إلى احتذاء خطواته وإكبار فنه إكبارا شخصيا له.
Неизвестная страница