ونبهني صديقي بهذه الكلمة إلى أن الحديث جد، وأن مزاحي لا يليق.
ثم قال: «ماتت أمي في نحو السبعين، وقبيل وفاتها بشهرين رأيتها وهي عارية، وكنت قد دخلت المنزل دون أن أحدث صوتا؛ لأن معي مفتاحا للباب، وكنت متزوجا، قد مضى على زواجي نحو أربعة شهور فقط، وكانت زوجتي في غرفتها، فكان دخولي كالتسلل لم ينبه أحدا في البيت، وقصدت من فوري إلى الحمام لحاجة، وكان الباب مردودا، ولكنه لم يكن مقفلا، فلما دفعته انفتح ورأيت أمي في الطست الكبير، وكانت تستحم بالماء الساخن الذي كانت تحبه، وكانت قد غمرت رأسها ووجهها برغوة الصابون فلم تحس بفتح الباب ولم ترني، وكانت قد هزلت؛ لأن مرض السكر كان قد عاث فيها وحطمها، وكانت ترفض حقنة الأنسولين، فوقفت أتأملها وأتذكر تاريخها معي طيلة عمري الماضي، وكنت أتوقع موتها بعد شهرين أو ثلاثة شهور، وأحسست كأني أودعها.
وجعلت أتأمل ضلوعها البارزة، وثدييها الضامرين المترهلين، وشعرها الأبيض، وقفص العظام المركب منه جسمها الضئيل، وغمرني حب وحزن ولوعة، ووددت لو أجد الشجاعة وأرتمي على جسمها وأقبلها، وقلت في نفسي: لقد استهلكتها، أنا استهلكت أمي التي فنيت وهي على وشك الزوال الآن؛ فقد أعطتني كل ما فيها من دم وقوة كي أحيا وأنجح، وها هي ذي تبيد وتتبدد كما لو كانت دخانا بعد الإشعال، وبعد شهور ستنطفئ!
ثم رددت الباب في هدوء، وقصدت إلى غرفة الضيوف، فدخلتها وأقفلت علي الباب، وجعلت أبكي وألطم وجهي، وكنت أفعل هذا وأنا أكتم صوتي حتى لا تسمعني زوجتي؛ لأني كنت أخجل أن تراني وأنا في هذه الحال.
تهزأ وتقول إنها كانت تخيط الأزرار المقطوعة، وتطبخ الرز وترقع الجوارب؟ ألم تفن حياتها في هذه الأعمال، وكل هذا من أجلي؟!».
قلت وقد غمرني خجل: «لم أقصد إهانة والدتك، وإنما كنت أعبث بك فقط! ولكل الناس أمهات يمتن، ولكن الدنيا للأحياء وليست للأموات، ويجب أن ننسى حتى أمهاتنا ونحيا حياتنا».
ولكن كلماتي لم تخفف عنه، فإنه مسح الدموع عن عينيه بيده المرتعشة وتنهد، ثم قال: «كنت وأنا طالب بالطب أجد إرهاق المذاكرة، وكنت أضيق بأقل الأصوات، وكنت أبقى إلى كتبي وكراساتي إلى نحو الساعة الثالثة من الصباح، وما من مرة وجدت فيها أمي نائمة قبل أن أنام أنا؛ فقد كانت تقعد في غرفة أخرى وعينها مسددة إلي، تنتظر مني أية بادرة تدل على حاجة كي تنهض وتؤديها، ولم يكن يجدي طلبي إليها أن تأوي إلى فراشها.
وأذكر ذات مرة في حوالي الساعة الثامنة من الصباح، نهضت من مقعدي وأنا محطم القوى كاره للمذاكرة، وكان هذا من أثر التعب والجهد، فقمت أذرع البيت ذهابا وإيابا للانهيار العصبي الذي غمرني، وكانت أمي إلى جانبي تروح وتجيء معي، وهي لا تنطق، ثم عدت إلى مقعدي، وعادت هي إلى مكانها ترقبني، ولكنها لم تجلس، بل بقيت واقفة كأنها الديدبان، ولم تترك مكانها حتى آويت إلى فراشي، ووثقت من أني قد نمت واستغرقت في النوم».
ثم نظر إلى سقف الغرفة وجعل يتأملها، أو يتأمل ذكرياته عن أمه والتفت إلي وقال: «لما نلت شهادة الطب وأصبحت دكتورا كان فرحي بنجاحي دون فرحها؛ فقد كانت تضحك ضحكات هستيرية «وتزأط» كأنها طفل، ومنذ الأسبوع الأول لنيلي شهادة الطب شرعت تبحث لي عن زوجة، وكنت طوال السنوات العشرين الأخيرة من عمرها أواليها بحقنة الأنسولين؛ لأنها كانت مريضة بالسكر الذي أصابها عقب وفاة والدي، ولكن بعد أن تزوجت رفضت حقنة الأنسولين».
قلت: «ولماذا؟».
Неизвестная страница