بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
قال الفقيه الأستاذ أبو علي حسن بن عبد الله القيسي المقرئ ﵀
الحمد لله العظيم السلطان، القديم الإحسان، المتطول على الإنسان باللسان، ومميزة من سائر الحيوان بالبيان، أحمده على الإيمان، وأصلي على خير خلقه محمد نبيه المرسل بأوضح آية وبرهان، صلى الله عليه وآله وصحبه ما اختلف الملوان، وتعاقب الجديدان.
أما بعد شرح الله صدرك، وأعلى قدرك فإنك سألتني أن أشرح لك شواهد كتاب الإيضاح، لأبي علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي
1 / 49
الفسوي، وأبين لك موضع الشاهد منها، وأكشف خفاء الإشكال عنها، إذ كانت من أنفع الشواهد وأعيد الفوائد، عناية منك بالأدب، وتهممًا بلسان العرب، فلم أزل منجذب الرأي إليه، عاكف الذكر عليه، متمنيًا أن أجد له مهلًا، أصل فيه إلى ودادك، أو خللًا ارتقه بمرادك، ولم تزل للإجابة عن سؤالك متقاضيًا، وعلى غير عذري متغاضيًا، فلم يكن لأي بد من مشاورة الفكر، ومساورة الذكر، ومزاحمة الزمان، حتى وفيت لك بالضمان، فأوضحت الشاهد، وقيدت الشارد، ولخصت معانيه وشيدت مبانيه، وقربت تناول جملته، وتحصيل ثمر فائدته، ونسبت كل بيت إلى قائله، إن كان عندي معلومًا، وصيرت مشكل إعرابه مفهومًا، ووصلت البيت بما بعده، وذيلته بما تعلق به من حكاية نادرة، وأمثال سائرة، وذكرت ما فيه من لغة، ليكون كاملًا في معناه، فلا يحتاج الناظر فيه إلى سواه، ووسمته بكتاب "إيضاح شواهد الإيضاح"، ومن الله سبحانه أسأل العون والتوفيق، والهداية إلى سواء الطريق، إنه سميع الدعاء، فعال لما يشاء قريب مجيب.
أنشد أبو علي في باب أحكام أواخر الأسماء المعربة:
(١)
ليثٌ هزبر مدلٌّ عندَ خيستهِ ... بالرّقمتينِ لهَ أجرٍ وأعراسُ
1 / 50
هذا البيت لأبي ذؤيب الهذلي واسمه خويلد بن خالد، وقيل: هو لمالك بن خويلد الخناعي ثم الهذلي.
الشاهد فيه قوله
"له أجر"، وذلك أن تقديره: "أجرو"، كأكلب، فلما كان اسمًا آخره حرف علة، وقبله ضمة، كسر ما قبل الواو، فانقلبت ياء، فصار تقديره: أجري، الآخر ياء مكسور ما قبلها، فصار بمنزلة قاض وغاز، وهذا الباب استمر فيه القلب واطرد، نحو: حقو وأحق، ودلو وأدل، وعرقوة وعرق، وقلنسوة وقلنس، قال:
لا مهل حتى تلحقي بعنس
أهل الرياط البيض والقلنسي
1 / 51
قال أبو علي في "التذكرة" أبدلت الواو ياء، لوقوعها طرفًا مضمونًا ما قبلها، فصار في التقدير "أجري"، فأبدل من ضمة العين كسرة، ثم أسكنت الياء، استثقالًا للضمة فيها، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، فابتداء في "كتاب الإيضاح" بتغير الحركة، لضعفها تغيرًا عبطًا وارتجالًا، فلما صارت كسرة تطرق بذلك إلى قلب الواو تطرقًا صناعيًا، وبدأ في كتابه "التذكرة" بقلب الواو ياء بغير آلة القلب من الكسرة قلبها، استكراها للحرف، تعجرفًا لا رفقًا وتلطفًا، والابتداء بالضمة أسهل منه بالحرف، لأن ابتذل الضعيف أقرب مأخذًا من انحائك على القوي، وإن كان كل واحد من المذهبين حسنًا.
ومثل ذلك في التغير "إوزة" أصل وضعها "إوزة" فهنا عملان: أحدهما: قلب واو ياء، لانكسار ما قبلها.
والآخر: وجوب الإدغام، فإن قدرت أن الصنعة، وقعت في الأول من العملين، فإنك تبدل من الواو ياء، فتصير "إيززة" ثم تأخذ في حديث الإدغام، فتسكن الزاي الأولى، وتنقلا فتحتها إلى "الياء" قبلها، فلما تحركت الياء قويت بالحركة، فرجعت إلى أصلها، وهو "الواو"، ثم أدغمت الزاي الأولى في الثانية، فصارت "إوزة". فقد عرفت الآن أن "الواو" في "إوزة"، إنما بدل من "الياء" التي في "إيززة"، وتلك "الياء" بدل من واو "إوززة". فإن أخذت في التغير من آخر البناء، فنقلت حركة الزاي إلى الواو، ثم أدغمت فصارت "إوزة" فإن الواو فيها على هذا التقدير، هي الأصلية لم تبدل ياء.
1 / 52
وكان أبو علي الفارسي يذهب إلى أن تغيير هذا البناء من آخره، ويقول: "لو كان التغيير من أوله لصار "إيزة" ولم تنقلب واوًا، لأنها لا تقوى بالحركة المنقولة، لأنها عارضة".
وغيره جعل النقل لازمًا، فقويت الياء عنده بالحركة فانقلبت واوًا، وكذلك إذا بنيت من "أويت" مثل لقلت: "إياه" وأصلها "إأوية"، فإبدال الهمزة التي هي فاء واجب، وإبدال الياء التي هي لام واجب أيضًا، فإن بدأت بالعمل من الأول صرت إلى "إيوية" ثم "إيية" ثم إلى "إياه". وإن بدأت بالعمل من آخر البناء صرت إلى "إأواة" ثم إلى "إيواة" ثم إلى "إياه"، ففرقت العمل في هذا الوجه، ولم تواله كما واليته في الوجه الأول، لأنك لم تجد طريقًا إلى قلب الواو ياء، إلا بعد أن صارت الهمزة قبلها ياء، فلما صارت إلى "إيواة" أبدلت الواو ياء، فصارت "إياة".
وإنما لم تقع هذه الواو المضموم ما قبلها في آخر الأسماء، لأن الاسم تلزمه الإضافة إلى "الياء"، فلما أضيفت هذه الأسماء إلى "الياء" لم تخل من أحد أمرين: إما أن تدغم أو تبين، فإن بينت وجمع بين المتجانسة وقعت واو مكسورة، أو واو ساكنة، بعد ضمة قبل ياء، وإن أدغمت قلبت الواو ياء، ولزمك أن تبدل من الضمة كسرة كما أبدلت في "مرضي"، فلما كان الأمر يؤول إلى هذا رفض.
ألا ترى أن من قال: أخوك وأبوك، وأخوه وأبوه، حذف الواو في الإضافة إلى
1 / 53
نفسه فقال: أبي وأخي، كراهية الإدغام وما يحدثه من قلب الحرف، وتغيير الحركة، فإن قيل: فقد قال الشاعر:
قدرٌ أحلّكَ ذا المجازِ وقدْ أرى ... وأبيَّ مالكَ ذو المجازِ بدارِ
فأضاف "الأب" إلى نفسه، على حد ما تضيف إلى المخاطب والغائب. قلت: ذلك لا يصح لاحتماله؛ وذلك انه يجوز أن يكون جمع "أبًا" على أبين ثم أضافه، لأنهم قد أجمعوا هذا الاسم جمع الصحيح قال:
فلمَّا تتبينَّ أصواتنا ... بكينَ وفدَّيننا بالأبينا
وأنشد محمد بن السري:
1 / 54
بمعتركِ الكماةِ مصرّعاتٍ ... يدفنَّ البعولةَ والأبينا
ويحتمل قوله تعالى: "قالوا نعبد إلهك وإله أبيك". أن يكون على هذا، لأن العم يسمى أبًا، وروي عنه ﷺ أنه قال في العباس ﵁: "ردوا علي أبي"، وقد جاءت هذه اللفظة بعينها مضافة يراد بها الجمع، قال الشاعر:
فمنْ يكُ سائلًا عنّي فإنّي ... بمكّةَ مولدي وبها ربيتُ
وقدْ شئيتْ بها الآباءُ قبلي ... فما شئتْ أبيَّ ولا شئيتُ
فإذا كان ذلك كذلك، فلا دلالة في البيت، ودل هذا على رفض استعمالهم ذلك على الحد الذي ذهب إليه.
فإن قيل: فقد قالوا: مسلمي وعشري، فأضافوا والصورة صورة ما أنكرت إضافته، قيل: هذا في الجمع أسهل منه في الواحد، لأن الجمع في تقدير الرد إلى
1 / 55
الواحد، فكأن الواو والضمة ليستا بلازمتين، وليس كذلك الواحد، ألا ترى أنه ليس قبل الواحد شيء يرد إليه، كما أن الواحد قبل الجمع، فلما كان كذلك استجيز في الجمع، ولم يستجيز في الواحد.
فإن قيل: فعلا استجيز ذلك في الاسم، كما استجيز في الفعل نحو: "سرو" و"يعزو" ويدعو.
قيل: لم يجز هذا في الاسم، من حيث جاز في الفعل، ألا ترى أن الفعل لا يضاف، كما يضاف الاسم، فإذا لم يضف أمن فيه ما ذكرت في الاسم، وأيضًا فإن "الفعل" تختلف أبنيته تقول: يغزي، ويغزى ويغزيان، فتزول الواو، وليست الأسماء كذلك، لأنها لازمة مواضعها.
لغة البيت
الليث: من أسماء الأسد، مأخوذة في اللوثة، بفتح اللام، وهي القوة، ووزنه "فعل". وقد قيل: ليث، أليث، فعلى هذا لا يكون إلا "فعلًا"، وقيل: وزنه "فيل" على اللفظ، وأصله "ليوث" على وزن "فيعل" فلما اجتمعت الواو والياء على هذه الصورة، قبلت الواو ياء، فأدغمت فيها فصار "ليثًا"، ثم إن العين حذفت تخفيفًا، كحذفهم إياها من "هين" و"ميت" فصار "ليثًا".
والهزبر: من أسمائه، وهو الشديد، والكلمة رباعية.
والخيسة: الأجمة، وهي بيت الأسد، "فعلة" من خيسته إذا حبسته، والمخيس، السجن، ويحتمل أن يكون "فعلة" من الخيس الذي هو الغم، إذ الغم السترة، يقال: غم القمر النجوم، إذا بهرها، وليلة غماء، لا يرى فيها الهلال، فلما
1 / 56
كانت تستر الأسد وتغمه، لكثرة شجرها، والتفاف أغصانها، سميت "خيسة"، ويحتمل أن تكون "فعلة" من خاس الشيء خيسًا، إذا تغير وأنتن، وذلك لكثرة صيده، وما يأتي به إلى أجريه، خاس موضعه الذي هو فيه، وتغير عن حاله. ويقال: خست الرجل "خيسًا" إذا أعطيته في سلعته ثمنًا، ثم أعطته دون ذلك الثمن.
والخيس أيضًا: الخير، يقال: ماله! قل خيسه. وهي أيضًا العريسة والعريس، قال رؤبة:
أغياله والأجم العريسا
وصف به، كانه قال: والأجم الملتف، أو أبدله، لأنه اسم، وفي المثل: "كمبتغي الصيد في عريسه الأسد".
وأما قول جرير:
إنّي امرؤٌ منْ نزارٍ في أرومتهمْ ... مستحصدٌ أجمي فيهمْ وعريّسي
فإنه عنى منبت أصله في قومه.
1 / 57
وهي أيضًا "الراءة" والصريمة، ولها أسماء غير هذه.
والرقمتان: موضع بعينه، وقيل: هما موضعان، أحدهما بقرب المدينة، والآخر بالبادية، فثنى الواحد كما قال:
تسالني برامتين سلجما
يا مي لو سألت شيئًا أمما
وإنما رامة، أرض واحدة معروفة، وقال جرير:
بانَ الخليطُ برامتينِ فودعوا ... أو كلّما ظعنوا لبينٍ تجزعُ
وقال الفرزدق:
فيا ليتَ داري بالمدينةِ أصبحتْ ... بأجفارِ فلجٍ أو بسيفِ الكواظمِ
يريد: الجفر وكاظمة، وقال الفرزدق:
وإذا ذكرتُ اباكَ أوْ أيّامهُ ... أخزاكَ حيثُ تقبَّلُ الأحجارُ
يريد: الحجر الأسود، فإنه جعل كل ناحية حجرًا، ألا ترى أنك لو مسست كل ناحية منه، لجاز أن تقول: مسست الحجر، وقال أيضًا:
1 / 58
عشيةَ سالَ المربدانِ كلاهما ... سحابةَ موتٍ بالسّيوفِ الصّوارمِ
وإنما هو مربد واحد، فثناه مجازًا، لما يتصل به من مجاوره.
وقيل: كل روضة: رقمة. وقيل: رقمة الوادي حيث يجتمع الماء، قال الشاعر:
كأنّ أباريقَ المدامِ لديهمُ ... ظباءٌ بأعلى الرّقمتينِ قيامُ
ويحتمل أن يريد بإحدى الرقمتين، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كما قال تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) . أي: من أحدهما وقال جعفر ابن علبة الحارثي:
وقالوا لنا ثنتانِ لا بدَّ منهما ... صدورُ رماحٍ أشرعتْ أو سلاسلُ
أي: لابد من إحداهما على أحد القولين.
وقوله: "أجر وأعراس": جمع جرو، وهو ولد الأسد والكلب، يقال: جرو، وجرو، والكسر أكثر، والكثير الجراء.
1 / 59
و"أفعل" يأوتي لخمسة أبنية، "فعل" نحو كلب وأكلب. و"فعل" نحو: رجل وأرجل، و"فعل" نحو: ركن وأركن. و"فعل" نحو: زمن وأزمن، و"فعل" نحو: ضلع وأضلع.
والجرو من القثاء مكسور الجيم، عند الأصمعي، وعند أبي عبيدة: جرو، وجرو وجرو، ثلاثة أوجه. والجرو أيضًا: وعاء يجمع الكعابر التي في رؤوس العيدان والجرو: صغير الشجر. والجرو: الحنظلة إذا صارت مثل النبقة، ويقال، إذا وطن الإنسان نفسه على الأمر: "قد ضربت له جروة، وضربت له جروتي أي وطنت عليه نفسي وإذا جزعت ثم صبرت قلت: قد ضربت جروتي عنه وعليه"، أي: صبرت عنه. والجروة: النفس.
والأعراس: جمع عرس، وهي زوج الرجل، استعارها للأسد، واستعارها بعضهم للظليم فقال:
كبيضة الأدحي بين العرسين
وقال امرؤ القيس:
1 / 60
على نقنقٍ هيقٍِ لهُ ولعرسهِ ... بمنعرجِ الوعساءِ بيضٌ رصيصُ
لأن كل واحد منهما عرس الآخر، فالرجل عرس المرأة، والمرأة عرس الرجل، قال العجاج:
أنجب عرس جبلًا وعرس
أراد: أنجب عرسين، كما قال:
كأن بين فكها والفك
وهذا يدل على أن ما عطف بالواو، بمنزلة ما جاء في لفظ واحد.
معنى البيت
يقول: إن الدهر لا يبقى على مخلوق، ولا على الأسد الذي هذه صفته، وقبل البيت ما يدل على هذا، وكان لأبي ذؤيب عشرة من الولد ماتوا في عام واحد، فهو يرثيهم، وفيهم قال قصيدته المشهورة:
أمن المنون وريبه تتوجع
1 / 61
وأول هذه القصيدة:
يا ميَّ إنْ تفقدي قومًا ولدتهمُ ... أو تخسليهمْ فإنَّ الدَّهربَ خلاّسُ
عمروٌ وعبدُ منافٍ والّذي عهدتْ ... ببطنِ مكّةَ آبي الضّيمِ عبّاسُ
يا ميَّ إنَّ سباع الأرضِ هالكةٌ ... والعفر والأدمُ والأرامُ والنّاسُ
تاللهِ لا يعجزُ الأيّامَ مبتركٌ ... في حومةِ الموتِ رزّامٌ وفرّاسُ
ليثٌ هزبرٌ مدلٌّ عندَ خيستهِ ... بالرّقمتينِ لهُ أجرٍ وأعراسُ
يحمي الصّريمةَ أحدانُ الرّجالِ لهُ ... صيدٌ ومجترئٌ باللّيلِ همّاسْ
يخاطب أم بنيه، يقول لها: إن مات بنوك، فقد مات عمرو. وهو ابن عبد مناف بن قصي، وهو هاشم بن عبد مناف.
إعراب البيت
رفع قوله: "هزبر مدل" لأنها صفات لما قبلها. و"عند خيسته" متعلق "بمدل" بمعنى يدل بمكانه، ويحتمل أن يكون في موضع الصفة، فيتعلق حينئذ بمحذوف.
وفي الظرف ضمير عائد على الموصوف، و"بالرقمتين" في موضع الحال. و"عند خيسته" متعلق بمحذوف.
1 / 62
وقوله "له أجر" جملة من مبتدأ وخبر، في موضع الصفة لما قبله، ويجوز أن يجوز أن يكون "أجر" مرفوعًا بالابتداء، و"بالرقمتين" خبره، و"له" تبين كقول الشاعر:
كان جزائي بالعصا أن أجلدا
وقال آخر:
أبت للأعادي أن تديخ رقابها
ويرتفع "أجر على مذهب أبي علي الفارسي، بأنه فاعل بالمجرور، لأنه في موضع الصفة، ولا يجيز غيره، وحكى أن المذهبين متفقان على هذا الموضع وأشباهه، استنبطه من كلام سيبويه "مررت برجل معه صقر. صائدًا به غدًا، فالنصب على حاله، لأن هذا ليس بابتداء، ولا يشبه "فيها عبد الله قائم". فتأول أن "الصقر" يرتفع "بمعه"، ولا يرتفع بالابتداء، لأن "معه" صفة جرت على موصوفها، وإذا جرت على موصوفها، فهي في موضعها ومرتبتها، لا يجوز أن ينوي بها غير ذلك الموضع.
1 / 63
كما أن الفاعل إذا وقع في موضعه في قولك: "ضرب غلامه زيدًا، لم يجز أن ينوى به غير موضعه".
وإذا كان قد جرى في ضرب من القياس أن يرفع بالظرف في نحو: "في الدار زيد"مع أنه لم يجر صفة على موصوف وجب إذا جرت معه صفة يجب الرفع بها، لأن الصفة تؤكد معنى الفعلية وتحقق الشبه، وقد خولف في هذا.
قال أبو الحجاج الشنتمري ﵀: "ظن بعض النحويين: أن سيبويه يرفع الاسم بالظرف لا على الابتداء، فيكون "صقر" مرفوعًا "بمعه"، وتأول قوله: "لأنه ليس يرفعه الابتداء"، والذي علم من مذهب سيبويه في هذا الموضع وغيره، أن الظرف لا يرفع ما بعده".
ومعنى قوله: لأنه ليس يرفعه الابتداء، "الهاء" في "أنه" ترجع إلى أول الكلام، يريد الهاء المجرورة في "معه" ولم يرد (الصقر) ".
وذكر أن هذا تفسير شارحي الكتاب، وهو أصح تفسير في الباب. فإن قيل: أيجوز أن تعلق الظرفين اللذين هما "عند خسيته" و"بالرقمتين" بنفس "مدل" فيكون عاملًا فيهما.
قلت: لا يجوز ذلك، لأن العامل لا يعمل في ظرفين فصاعدًا، إلا إذا كانت
1 / 64
الظروف متباينة، مثل قولك: قعدت يوم الجمعة أمامك "فيوم الجمعة" ظرف زمان، "وأمامك" ظرف مكان، فجاز أن يعمل فيهما.
فأما إذا كانت من جنس واحد، فلا يجوز أن يعمل فيهما معًا، و"عند خسيته" و"بالرقمتين" ظرفان من جنس واحد. فإن قيل: فاجعل"بالرقمتين" بدلًا من "خسيته" مثل "خرجت يوم الجمعة سحر".
قلت: بينهما فرق، وذلك أن الظرفين إذا كانا من جنس واحد، إما أن يكون الثاني هو الأول في المعنى أو بعضه، فإن كان هو الأول في المعنى أبدلته منه، وكان من بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة، وإن كان بعضه، كان من بدل البعض من الكل نحو قولك: "خرجت يوم الجمعة سحر"، ألا ترى أن المعنى "خرجت سحر يوم الجمعة" و"عند خيسته" و"بالرقمتين"، وإن كانا من جنس واحد، فإن الأول بعض، والثاني كل، ولا يجوز بدل الكل من البعض فلو كان النظم "بالرقمتين" "عند خيسته" جاز البدل، ولذلك ما ذهب سيبويه في قول الشاعر:
اعتادَ قلبكَ منْ سلمى عوائدهُ ... وهاجَ أهواءكَ المكنونةَ الطّللُ
ربعٌ قراءٌ أذاع المعصراتُ بهِ ... وكلُّ حيرانَ سارٍ ماؤهُ خضلُ
1 / 65
إلى أن رفع على الابتداء وقطع، كأنه قال: ذاك ربع، أو هو ربع، ولم يجعله بدلًا من "الطلل"، من حيث كان الربع أكثر منه، ومحال إبدال الأكثر من الأقل، لما فيه من نقصان البيان، فأما قول الآخر:
أحب ريا ما حييت أبدا
ألا ترى أن مدة حياته بعض الأبد، وقد أبدل "الأبد" من مدة حياته، فالجواب أنه وضع الأبد موضع بعضه، وهو مدة حياته، كما قال قيس بن زهير:
ولولا ظلمهُ ما زلت أبكي ... عليهِ الدّهرَ ما طلعَ النّجومُ
فالدهر في هذا البيت، أعم وأوسع من مدة طلوع النجوم، وذلك فيما ينتظر ويتوقع من الزمان سقوط النجوم، والدهر باق متصور، فإذا كان ذلك كذلك، فالدهر هنا يريد: بعضه، ألا ترى أنه قد أبدل منه قوله "ما طلع النجوم". فأعلمتك أن الدهر في البيت بعضه.
فإن قيل: ما الذي دعاك إلى هذا؟!، فهلا جعلت "ما طلع النجوم" من بدل البعض من الكل، فاسترحت من الاغتراب.
قلت: هذا فاسد، لأن الشاعر أراد المبالغة في بكائه الدهر، وليس يريد الاقتصار بعد التناهي، فاعمله.
1 / 66
وأنشد أبو علي الابتداء:
(٢)
تعدونَ عقرَ النّيبِ أفضلَ مجدكمْ ... بني ضوطري لولا الكميَّ المقنّعا
هذا البيت لجرير بن الخطفي.
الشاهد فيه قوله
"لولا الكمي"، لأن "لولا" هذه هي التي للتحضيض، لا التي يرتفع الاسم بعدها بالابتداء، ولذلك نصب "الكمي" بفعل مضمر.
لغة البيت
"تعدون" من العد والإحصاء، أي: تحسبون، ويجوز أن يكون معناه: تعتقدون.
ومعنى العقر: عرقبة الإبل، وكانوا يعرقبونها، لئلا تذهب ويتحرونها بعد ذلك، ألا ترى إلى قول أبي العلاء المعري:
1 / 67
ولولا حفاظي قلتُ للمرءِ صاحبي ... بسيفكَ قيّدها فلستُ أبالي
فجعل عرقبتها تقييدًا، وجعل السيف قيدًا.
والنيب: المسان من الإبل، واحدتها: ناب، على تقدير "فعل" و"فعل" في الجمع، كدار ودور، وساق وسوق، ونظيره من الصحيح أسد وأسد، ووثن ووثن، وإنما هي "نيب" فكسرت النون لتصح الياء، كما فعلوا ذلك في "أبيض" و"بيض" ألا ترى أنه مثل أحمر وحمر.
والمجد والكرم والشرف والحسب بمعنى واحد، ومن الناس من فرق بينهما، فقال: الشرف والمجد لا يكونان إلا في الآباء والأجداد، والكرم والحسب يوصف بهما الرجل الذي له آباء أشراف، ويوصف بهما الرجل أيضًا الذي يشرف بنفسه.
وهذا التقدير تحكم من قائله، لأن الشرف: مشتق من الإشراف والعلو، فكل من علا غيره بفضل في نفسه، أو في آبائه، فقد استحق أن يسمى شريفًا.
وكذلك المجد: من قولهم: مجدت الإبل مجودًا إذا شبعت من الكلأ، وأمجدها صاحبها، فكل من كثرت مناقبه، وحسنت أفعاله، فهو ماجد.
وحكى الخليل مجد الرجل، ومجد، وأمجد، إذا كرم فعله، ويدل على صحة هذا قول عائشة ﵂ "كل شرف دونه لؤم فاللؤم أحق به، وكل لؤم دونه شرف فالشرف أحق به" وقال الشاعر:
وما يشرفُ الإنسانُ إلاَّ بنفسهِ ... وإنْ خصه جدٌّ شريفٌ ووالدُ
1 / 68