والدليل على ذلك المذهب الصحيح، أن الأفعال المحكمة وحقيقة المحكم هو الفعل الواقع عقيب فعل أو مع فعل على وجه لا يمكن سائر القادرين إيجاده على ذلك الحد ابتداء. وحقيقة الحكمة هي كل فعل حسن له صفة زائدة على جنسه، وحقيقة الإحكام إيجاد فعل عقيب فعل أو مع فعل على حد لا يمكن سائر القادرين إيجاده على ذلك الحد ابتداء، والأفعال بحسب الحكمة، والإحكام تنقسم إلى أربعة أقسام: محكم وحكمة نحو الخط الحسن في نفاعة مسلم،ولا محكم ولا حكمة نحو الخطوط التي لا حروف فيها مفصلة إذا كان ذلك لمضرة مسلم أو نحو ذلك، ومحكم دون حكمة نحو الخط الحسن الذي لا غرض فيه، وحكمة دون محكم نحو الخط الذي لا تميز حروفه لنفع مسلم، ولا يوجد في أفعال الباري تعالى إلا ما فيه الحكمة والإحكام أو الحكمة دون الإحكام ونحن نقطع بأن الأفعال المحكمة قد صحت منه ابتداء والمراد وجودها على سبيل الصحة والاختيار كما مر. وبيان الاستدلال على إرادة ذلك أن يقال قد وقع الفعل المحكم من الله تعالى فأما أن يقع على جهة الإيجاب أو على جهة الاختيار، باطل وقوعه على جهة الإيجاب لأنه كان يلزم وقوع العالم دفعة واحدة ولأنه يلزم من ذلك قدم العالم فإذا بطل أن يكون وقوعه على جهة الإيجاب ثبت أنه على سبيل الاختيار. وذهب صاحب الخلاصة إلى أن المراد بالصحة الإمكان الذي يقابل الاستحالة كما مر في مسألة قادر، وتبعه المؤلف هنا أيضا وقد ألزم فيما صدر عن العلل والأسباب أن الصحة ثابتة وثبوتها لا يدل على أن المؤثر فيها عالم.قال الدواري:يمكن الاعتذار بأن الصحة التي ثبتت لما ذكر ليست صحة لفعل محكم، وأما صحة الفعل المحكم فهي لا تصدر إلا من فاعل مختار فاستدلالنا على أن ذلك غير مستحيل يكشف عن صدوره من مختار. وأخذ المصنف في إتمام تحرير الدليل فقال:والأفعال المحكمة لا تصح إلا من عالم والدليل على أن الأفعال المحكمة قد صحت منه ابتداء أنه أوجد العالم على سبيل الترتيب والنظام معناهما واحد وذلك ظاهر في ملكوت السماوات والأرض وما بينهما مع إحالة الفكر، لأن فيه من بدائع الحكمة وعجائب الصنعة ما يزيد على كل صناعة محكمة في الشاهد من بناء وكتابة وغيرهما،فإنا نظرنا فوجدنا العالم موجودا على مطابقة مصلحة الخلق واتساق مرافقهم ألا ترى أنه خلق المخلوقات أصنافا حيوانا وغير حيوان ونام وغير نام ومائع وجامد إلى غير ذلك،ثم جعل لكل صنف أصلا،إذا أراد قاصد حصول ذلك الصنف عمد إلى ذلك الأصل، بدليل أن الواحد منا إذا أراد حصول ولد عمد إلى الوطئ لآدمية، وإذا أراد حصول حيوان عمد إلى ما ينتج ذلك الحيوان فإذا أراد فرسا أنزى ذكور الخيل على إناثها، وإن أراد إبلا فكذلك، وإن أراد بقرا فكذلك، وإن أراد صنفا من النبات عمد إلى بذره فألقاه في الأرض ثم سقاه، واطردت العادات بجميع ذلك بحيث لاتختلف، هذا كما مر رفقا بنا ومطابقة لمصلحتنا، حتى لو لم يكن كذلك وأراد أحدنا شيئا من ذلك لم يهتد إلى تحصيله، ثم انظر إلى خلق السماء ورفعها وكونها كالسقف ثم إلى بسط الأرض ثم إلى ما أعد الله فيها من النبات والأمواه الجارية المستخرجة والجبال الراسية والأخاديد والآكام والشم الشوامخ ليعمد كل واحد إلى ما تميل إليه نفسه من ذلك، ثم زينت السماء بالقمرين والشهب فهي كالمصابيح المضيئة، فمثل السماء والأرض كمثل البيت المسقوف ومثل القمرين والنجوم كالمصابيح المعدة للاهتداء بها إلى رؤية ما في البيت وغير ذلك، والواحد منا كالمالك يتصرف في بيته مع الشموع المشعلة والمصابيح المضيئة. ثم انظر إلى تركيب ابن آدم وما فيه من لطائف الحكمة وعظيم التدبير إذ هو العالم الصغير كما قال الحكماء وقد أكثر الحكماء في الإشارة إلى بيان طرف من الحكمة في خلق ابن آدم منهم أمير المؤمنين عليه السلام فقال: عجبا لابن آدم ينظر بشحم، ويتكلم بلحم، ويتنفس من خرق ، ويسمع بعظم، ثم انظر إلى كون وجهه في أعلاه وهو أعظم أعضاءه هيئة وجمالا، والعينان في رأس الوجه صيانة لهما من أن ينالهما ما ينال الرجلين، ثم الجفنان عليهما يغطيانهما أحيانا صيانة لهما وينفتحان أحيانا بالإحساس وغيره، ثم انظر إلى اللسان إذ هو لحمة تتقلب وما يتفجر منه من الكلام والحكم ويبلغ صاحبه به إلى الإبانة ويكشف عن كل ما يريد وغيره من اللحم إذا قلب لم يصدر منه شيء من ذلك، ثم الريق في الفم الذي لأجله يتهيأ للأكل الأكل بحيث لو كثر ماء الفم أو نقص لتعذر عليه ذلك وغيره، ثم انظر إلى الحكمة في جعل مقدم الأسنان حدادا مصطفة لكونها كذلك أجمل في الخلقة وحدادا لتقطع ما نهشته ثم تلقيه إلى الدواخل وهي عراض مسطحة سفلا وعلوا كالرحا لطحن وما يلقى فيها فإذا طحنت ألقته إلى الحلق فيزدرده ثم يصير إلى البطن وازدراد ذلك إلى الحلق ثم إلى البطن بسهولة وإن كان الفم في بعض الأحوال سفلا والحلق علوا لكن تجذب ذلك القوة التي دبرها قادر الذات عالمها، ولو رام جسم أن يعتمد على الطعام الذي في الفم ليلقيه إلى الحلق ثم إلى البطن لم يتهيأ ذلك إلا بعد مشقة شديدة وألم الأكل، ثم انظر إلى تشريح أعضاء الإنسان ونفع كل عضو النفع الذي لا يقوم غيره مقامه، (ثم انظر إلى مفاصل العظام التي لو لم تكن لتعذر كثير من نفع الأعضاء) ، ثم انظر إلى تركيبها ملائمة للطبع فلو كان باطن الكف ذي شعر لتنغص الأكل ولم يستمر ما يؤكل، ثم انظر إلى مخرج الأذى من السبيلين عند الحاجة وكيف يخرج ذلك بسهولة من غير جاذب ولا دافع وفي غير حاجة الخروج محتبس من غير أن يكون ثم حابس بل مخارجها على حالها لم يحصل هناك حتم ولاسد، فسبحان من رجعت العقول حسيرة عن إدراك حكمته وتدبيره في أصغر مخلوقاته حجما ولو أحيلت العقول في فهم يسير من ذلك لجلد ما يكثر من الكتب والإشارة تكفي اللبيب.
Страница 54