بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
مُقَدّمَة فِي علم التَّوْحِيد
علم التَّوْحِيد علم يعْنى بِمَعْرِفَة الله تَعَالَى وَالْإِيمَان بِهِ، وَمَعْرِفَة مَا يجب لَهُ سُبْحَانَهُ وَمَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ وَمَا يجوز سَائِر مَا هُوَ من أَرْكَان الْإِيمَان السِّتَّة وَيلْحق بهَا وَهُوَ أشرف الْعُلُوم وَأَكْرمهَا على الله تَعَالَى لِأَن شرف الْعلم يتبع شرف الْمَعْلُوم لَكِن بِشَرْط أَن لَا يخرج عَن مَدْلُول الْكتاب وَالسّنة الصَّحِيحَة وَإِجْمَاع الْعُدُول وَفهم الْعُقُول السليمة فِي حُدُود الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة وقواعد اللُّغَة الْعَرَبيَّة الأصيلة
لقد أنزل الله تَعَالَى الْقُرْآن على الْعَرَب وَغَيرهم بِلِسَان الْعَرَب وأسلوبهم وبيانهم مَعَ إعجازه هُوَ دون كَلَامهم ففهموه وعقلوا مَعَانِيه وَفسّر لَهُم رَسُول الله ﷺ بعض مَا احتاجوا إِلَى تَفْسِيره مِنْهُ
وتحدث إِلَيْهِم رَسُول الله ﷺ على أسلوب الْعَرَب وبيانهم فِيمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن الْكَرِيم شرحا وبيانا تقريرا وتفسيرا تَخْصِيصًا وتقييدا كَمَا تحدث بمسائل وَأَحْكَام لم تأت فِي كتاب الله تَعَالَى ففهموا ذَلِك مِنْهُ ﷺ وعقلوه
ثمَّ حِين دخل فِي الْإِسْلَام غير الْعَرَب لُغَة وجنسا وخفى عَلَيْهِم بعض أساليب الْقُرْآن الْكَرِيم وأعاريبه ومعاني بعض أَلْفَاظه ومقاصدها وَأخذت سليقة الْعَرَبيَّة فِي الْفساد عِنْد بعض الْعَرَب فَدخل لُغَة الْجمع من الطَّرفَيْنِ اللّحن وَالْخَطَأ ألهم الله تَعَالَى عمر وعليا ﵄ بالتوجه إِلَى تَقْرِير قَوَاعِد الْعَرَبيَّة وأعاريبها فَظهر علم النَّحْو ثمَّ ظَهرت سَائِر عُلُوم الْعَرَبيَّة من صرف وبلاغة ورتبت عُلُوم الْعَرَبيَّة واتسعت وتعددت موضوعاتها حَتَّى أضحى علم الْعَرَبيَّة علما لَهُ قَوَاعِده وأصوله وأساليبه وميادينه وأغراضه ومراميه وَله أَهله وأساتذته وَظَهَرت بِقصد خدمَة كِتَابه الْقُرْآن الْكَرِيم خَاصَّة نقط بعض الْحُرُوف وَوَصلهَا وشكلها وَفصل الْآي والتحزيب وَمَا إِلَى ذَلِك فَكَانَت بذلك الْفَائِدَة الْعُظْمَى فِي حفظ اللُّغَة الْعَرَبيَّة وخدمة كتابها الأول والأعظم
وَإِن ذَلِك من مَعَاني قَوْله تَعَالَى ﴿إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون﴾ وَالْحَمْد لله
1 / 7
وَحين اتَّصل الْمُسلمُونَ الْعَرَب بِغَيْر الْعَرَب من الشعوب مِمَّن أَسْلمُوا واطمأنت بِالْإِسْلَامِ قُلُوبهم أَو مِمَّن تظاهروا بِالْإِسْلَامِ ليكيدوا لَهُ من الدَّاخِل وصلت إِلَى مسامع الْمُسلمين الْأَوَائِل أُولَئِكَ عقائد ومعارف دينية غير الَّتِي عرفوها فِي الْقُرْآن وَالسّنة ألهم الله تَعَالَى كبار التَّابِعين وأتباعهم التَّوَجُّه إِلَى تَقْرِير قَوَاعِد الْإِسْلَام وأركان الْإِيمَان ومسائلها وبسطها وَضرب الْأَمْثِلَة عَلَيْهَا بِمَا يُوضح ويحقق الْيَقِين عِنْد غير الْعَرَب السَّابِقين خَاصَّة فِي قضايا الإعتقاد ومسائل الْإِيمَان ووفق الله تَعَالَى بعض أُولَئِكَ التَّابِعين لعرض مسَائِل عقائد الآخرين وَبَيَان فَسَادهَا وضلالها من خلال الْقُرْآن وَالسّنة وَالْعقل والفكر السَّلِيم فَظهر علم التَّوْحِيد أَو مَا سمي بِعلم الْكَلَام
وكما كَانَت كتابات اللُّغَة الْعَرَبيَّة أول أمرهَا وجيزة ويسيرة ثمَّ توسعت وتعمقت كَذَلِك كَانَ الْأَمر فِي علم التَّوْحِيد وَمَا يُقَال فِي هذَيْن العلمين يُقَال فِي سَائِر الْعُلُوم من التَّفْسِير وعلوم الْقُرْآن من الْفِقْه والْحَدِيث والسيرة والتاريخ
فَبعد أَن كتب التَّابِعِيّ الْجَلِيل الإِمَام أَبُو حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى (الْفِقْه الْأَكْبَر) الَّذِي لَا يزِيد على سِتّ صفحات من أصُول مسَائِل الإعتقاد رَأينَا بعد ذَلِك من توسع فِيهِ - تبعا للْحَاجة - فشرح الْمَوْجُود وأضاف مَا يرَاهُ من البحوث والموضوعات الَّتِي لَهَا علاقَة بِعلم التَّوْحِيد
وَبعد أَن كتب الْمُحدث الْفَقِيه الإِمَام أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ رَحمَه الله تَعَالَى رسَالَته فِي العقيدة وسماها (بَيَان السّنة وَالْجَمَاعَة) فِي عشر صفحات جَاءَ من يشرحها بعدة بقرون بعشرات من الصفحات ومئاتها وَهَكَذَا ثمَّ توسع وَشرح وأفاض فِي الْكِتَابَة فِي علم التَّوْحِيد الإمامان الجليلان أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ وَأَبُو مَنْصُور الماتريدي رحمهمَا الله تَعَالَى وهما - وَإِلَى الْآن - الْعُمْدَة لمن كتب بعدهمَا فِي علم التَّوْحِيد مثل الباقلاني وَالْغَزالِيّ وَالْفَخْر وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيرهم
قَالَ ابْن حجر الهيتمي رَحمَه الله تَعَالَى نسب علم الْكَلَام إِلَى الْأَشْعَرِيّ لِأَنَّهُ بَين مناهج الْأَوَّلين ولخص موارد الْبَرَاهِين وَلم يحدث فِيهِ بعد السّلف إِلَّا مُجَرّد الألقاب والإصطلاحات وَقد حدث ذَلِك فِي كل فن من فنون الْعلم وَمثل ذَلِك قَوْله
1 / 8
الإِمَام عَليّ الْقَارِي فِي الإِمَام الماتريدي فِي (الثِّمَار الجنية) لَهُ
لقد عرض الْقُرْآن الْكَرِيم لعقائد بعض أهل الشَّرَائِع والعقائد السَّابِقَة بأسلوبه الْخَاص وبإيجاز وَبَين فَسَادهَا وبطلانها بأسلوبه الْخَاص وبإيجاز كَذَلِك فخاطب الْمَلَاحِدَة المعطلة الَّذين يُنكرُونَ الْخَالِق قَائِلا أم خلقُوا من غير شَيْء أم هم الْخَالِقُونَ. أم خلقُوا السَّمَوَات وَالْأَرْض بل لَا يوقنون
وَقد حكى الله تَعَالَى محاورة إِبْرَاهِيم ﵇ قومه ومحاورته الْجَبَّار نمرودا وَكَيف أفحمهم إِبْرَاهِيم ﵇ ﴿فبهت الَّذِي كفر وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين﴾
كَمَا حكى سُبْحَانَهُ محاورة مُوسَى ﵇ للظاغية فِرْعَوْن حَتَّى إِذا قَامَت الْحجَّة على فِرْعَوْن وَقَومه وَلم يبْق لَهُ سلَاح سوى الْبَطْش وَأَرَادَ ذَلِك أهلكه الله تَعَالَى وَمن مَعَه فِي الْبَحْر الَّذِي لَا تغرف فِيهِ بطة ثمَّ لَفظه الْبَحْر ليَكُون آيَة على قدرَة الله تَعَالَى وَصدق مُوسَى ﵇ وَفَسَاد راي فِرْعَوْن ودعوته
وَلما جَاءَ أبي بن خلف رَسُول الله ﷺ وَمَعَهُ عظم بَال يفتته وَقَالَ مستهزئا يامحمد أَتَرَى رَبك يحيي هَذَا بعد مَا رم وبلي قَالَ لَهُ رَسُول الله ﷺ فِي صدق ويقين نعم وَيَبْعَثُك الله وَيُدْخِلك النَّار وَأنزل الله سُبْحَانَهُ خَوَاتِيم سُورَة ياسين وَضرب لنا مثلا وَنسي خلقه قَالَ من يحي الْعِظَام وَهِي رَمِيم. قل يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أول مرّة وَهُوَ بِكُل خلق عليم
هَذَا وَأَمْثَاله من مسَائِل الِاعْتِقَاد يجب على الْمُسلمين أَن يعرفوه ويعقلوه إِجْمَالا على الْعَامَّة وتفصيلا على أهل الْعلم والدعوة وعَلى أهل الْقَلَم أَن يكتبوا فِيهِ وينشرو بَين النَّاس
إِلَّا أَنه قد دخل (علم التَّوْحِيد) بعد الْقرن الثَّالِث مَا عده بعض أهل الْعلم فِي وَقت مَا ضَرُورِيًّا من اساليب عقلية وقضايا منطقية فكرية، وفلسفية فِي بعض مسَائِل
1 / 9
الِاعْتِقَاد وَأَحْكَامه مثل إِثْبَات وجوب وجود الْخَالِق وحدوث مَا سواهُ يواجهون بذلك أساليب أَعدَاء الْإِسْلَام ليحاجوهم ويلزموهم الْحق من بَاب (من فمك أدينك) فأضحى علم التَّوْحِيد فِي ذَلِك الْعَصْر عِنْد بعض أهل الْعلم علما معقد الأسلوب معقد الفكرة تقلب الصفحات العديدة فِيهِ دون أَن تقْرَأ فِيهَا آيَة أَو حَدِيثا وابتعد بذلك عَن أسلوب الْقُرْآن الَّذِي يُخَاطب الْعقل والوجدان مَعًا وَيُقِيم الْحجَّة وَيَدْعُو إِلَى الانضواء تَحت لِوَاء الْإِسْلَام قلبا وقالبا وَكفى بِبَيَان كتاب الله تَعَالَى بَيَانا
كَانَ ذَلِك أسلوب الْوَقْت - ولوقت معِين - وَمن جماعات مُعينَة اجْتِهَادًا مِنْهَا ونظرا والمجتهد - أهل الإجتهاد - مثاب أصَاب فِي إجتهاده أَو أَخطَأ
فَإِنَّهُ لَا ريب أَن أسلوب الْقُرْآن وَبَيَان الْقُرْآن وأسلوب الرَّسُول ﷺ وَمَا يهديان إِلَيْهِ هما أجدى وَأقرب إِلَى الْحجَّة الْإِقْنَاع فِي ذَلِك الْعَصْر وَفِي كل عصر حَتَّى تقوم السَّاعَة وَالْحَمْد لله
ذكرت أَن بعض التَّابِعين كتبُوا كتابات وجيزة فِي علم التَّوْحِيد إِذْ لم يرَوا أَن يبينوا سوى الْحق بإيجاز وعَلى قدر الْحَاجة فَمن يَقُول إِن السّلف الصَّالح لم يخوضوا فِي علم التَّوْحِيد وَلم يكتبوا فِيهِ وَإِن ذَلِك بِدعَة ضَلَالَة هم مخطئون لِأَن الْإِسْلَام دين الخلود وَمن مُقْتَضى خلوده - وَهُوَ وَحده الْحق - أَن يُقرر كل حَقِيقَة وَأَن يدْفع كل فكرة ضَالَّة أَو عقيدة فَاسِدَة تنشأ فِي الْمُسلمين أَو نحلة ضَالَّة تجابه عقيدة الْإِسْلَام وعقائده وَأَهله وَيسْعَى أَن يضفي بنوره على قُلُوب النَّاس عَامَّة بِإِذن الله تَعَالَى
نعم إِن بعض السّلف كره الْخَوْض فِي محاورة أهل الْأَهْوَاء والضلالات لما فِي ذلكمن نقل أَقْوَالهم ثمَّ تفنيدها وَذَلِكَ مِمَّا يشغل الْقلب وَقد يَظْلمه ويشغل عَن الأهم من الْعُلُوم عِنْدهم - كَمَا نقل من إِنْكَار الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل على الإِمَام الْحَارِث المحاسبي رحمهمَا الله تَعَالَى خوضه فِي مسَائِل الإعتقاد وَالرَّدّ على أهل الضلال - وَأما إِذا حقت الْمَسْأَلَة وتحققت الْحَاجة فهم يَقُولُونَ فِيهَا بعقولهم الْعَظِيمَة من خلال أصُول الدّين لِأَن حفظ العقائد أهم الْعُلُوم وأولاها وَلَقَد سمى الإِمَام أَبُو حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى علم التَّوْحِيد الْفِقْه الْأَكْبَر وَلَقَد قيل إِن الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل رَحمَه الله تَعَالَى كتب رِسَالَة فِي الرَّد على الْجَهْمِية وَالله أعلم بِصِحَّة ذَلِك
1 / 10
قَالَ القَاضِي أَبُو الْمَعَالِي عبد الْملك من أعتقد أَن السّلف الصَّالح ﵃ نهوا عَن معرفَة الْأُصُول وتجنبوها أَو تغافلوا عَنْهَا وأهملوها فقد اعْتقد فيهم عَجزا وأساء بهم ظنا لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل فِي الْعقل وَالدّين عِنْد كل من أنصف من نَفسه أَن الْوَاحِد مِنْهُم يتَكَلَّم فِي مَسْأَلَة الْعَوْل وقضايا الْجد - مِيرَاث - وكمية الْحُدُود وَكَيْفِيَّة الْقصاص بفصول ويباهل عَلَيْهَا ويلاعن ويجافي فِيهَا ويبالغ أَو يذكر على إِزَالَة النَّجَاسَات عشْرين دَلِيلا لنَفسِهِ وللمخالف ويشقق الشّعْر فِي النّظر ثمَّ لَا يعرف ربه الْآمِر خلقه بالتحليل وَالتَّحْرِيم والمكلف عباده للترك والتعظيم
فهيهات أَن يكون ذَلِك وَأَنَّهُمْ أهملوا تَحْرِير أدلته وَإِقْرَار أسئلته وأجوبته فَإِن الله تَعَالَى بعث مُحَمَّد ﷺ فأيده بِالْآيَاتِ الباهرة والمعجزات الْقَاهِرَة حَتَّى أوضح الشَّرِيعَة وَبَينهَا وعلمهم مواقيتها وعينها فَلم يتْرك لَهُم أصلا من الْأُصُول إِلَّا بناه وشيده وَلَا حكما من الْأَحْكَام إِلَّا أوضحه ومهده لقَوْله سُبْحَانَهُ وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إليم ولعلهم يتفكرون فاطمأنت قُلُوب الصَّحَابَة لما عاينوا من عجائب الرَّسُول ﷺ وشاهدوا من صدق التَّنْزِيل ببدائة الْعُقُول والشريعة غضة طريه متداولة بَينهم فِي مواسمهم ومجالسهم يعْرفُونَ التَّوْحِيد مُشَاهدَة بِالْوَحْي وَالسَّمَاع ويتكلمون فِي أَدِلَّة الوحدانية بالطباع مستغنين عَن تَحْرِير أدلتها وتقويم حجتها وعللها كَمَا أَنهم كَانُوا يعْرفُونَ تَفْسِير الْقُرْآن ومعاني الشّعْر وَالْبَيَان وترتيب النَّحْو وَالْعرُوض وفتاوي النَّوَافِل والفروض من غير تَحْرِير الْعلَّة وَلَا تَقْوِيم الْأَدِلَّة
ثمَّ لما انقرضت أيامهم وتغيرت طباع من بعدهمْ وَكَلَامهم وخالطهم أَقوام من غير جنسهم وَطَالَ بالسلف الصَّالح وَالْعرب العرباء عَهدهم وأشكل عَلَيْهِم تَفْسِير الْقُرْآن ومرن عَلَيْهِم غلط اللِّسَان وَكثر المخالفون فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع واضطروا إِلَى جمع الْعرُوض والنحو وتمييز الْمَرَاسِيل من المسانيد والآحاد من التَّوَاتُر وصنفوا التَّفْسِير وَالتَّعْلِيق وبينوا التدقيق وَالتَّحْقِيق وَلم يقل أحد إِن هَذِه كلهَا بدع ظَهرت وَأَنَّهَا محالات جمعت ودونت بل هُوَ الشَّرْع الصَّحِيح والرأي القويم وَكَذَلِكَ هَذِه الطَّائِفَة - يَعْنِي عُلَمَاء التَّوْحِيد - كثر الله عَددهمْ وقوى عَددهمْ بل هَذِه الْعُلُوم أولى
1 / 11
تجمعها لحُرْمَة علومها فَإِن مَرَاتِب الْعُلُوم تترتب على حسب معلوماتها والصنائع تكرم على قدر مصنوعاتها فَهِيَ من فَرَائض الْأَعْيَان وَغَيرهَا إِمَّا فَرَائض الكفايات أَو كالمندوب وَالْمُسْتَحب فَإِن من جهل صفة من صِفَات معلومه لم يعرف الْمَعْلُوم على مَا هُوَ بِهِ وَمن لم يعرف الْبَارِي سُبْحَانَهُ على مَا هُوَ بِهِ لم يسْتَحق اسْم الْإِيمَان وَلَا الْخُرُوج يَوْم الْقِيَامَة من النيرَان
وَقَالَ الإِمَام الْجُوَيْنِيّ رَحمَه الله تَعَالَى رَأَيْت إِبْرَاهِيم الْخَلِيل ﵊ فِي الْمَنَام فَأَهْوَيْت لِأَن أقبل رجلَيْهِ فَمَنَعَنِي من ذَلِك تكريما لي فاستدبرت فَقبلت عَقِبَيْهِ فَأَوَّلْته الرّفْعَة وَالْبركَة تبقى فِي عَقبي ثمَّ قلت يَا خَلِيل الله مَا تَقول فِي (علم الْكَلَام) فَقَالَ يدْفع بِهِ الشّبَه والأباطيل
وَأحب أَن أنبه إِلَى أَمر هام وَهُوَ أَنهم يعنون بِعلم التَّوْحِيد الْوَاجِب على الْمُسلم تَحْصِيله أَنه لَا يجب على الْمُسلم معرفَة مصطلحات علم التَّوْحِيد أَو الْكَلَام من الصَّانِع والهيولي والجوهر وَالْعرض وأمثالها بل الْمَقْصُود أَنه يجب على الْمُكَلف أَن يعرف الصَّانِع المعبود سُبْحَانَهُ بدلائله الَّتِي نصبها على توحيده سُبْحَانَهُ واستحقاقه ﷻ نعوت الربوبية وَالْمَقْصُود حُصُول النّظر وَالِاسْتِدْلَال الْمُؤَدِّي إِلَى معرفَة الله تَعَالَى وَإِنَّمَا اسْتعْمل المتكلمون تِلْكَ الْأَلْفَاظ من الْجَوْهَر وَالْعرض على سَبِيل التَّقْرِيب والتسهيل على المتعلمين وَالسَّلَف الصَّالح وَإِن لم يستعملوا هَذِه الْأَلْفَاظ فَلم يكن فِي معارفهم خلل وَالْخلف الَّذين استعملوا هَذِه الْأَلْفَاظ لم يكن ذَلِك لطريق الْحق مباينة ... وَلَا فِي الدّين بِدعَة كَمَا أَن الْمُتَأَخِّرين من الْفُقَهَاء عَن زمن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رضوَان الله عَلَيْهِم استعملوا أَلْفَاظ الْفُقَهَاء من الْعلَّة والمعلول وَالْقِيَاس ثمَّ لم يكن استعمالهم لذَلِك بِدعَة وَقل مثل ذَلِك فِي الْمُحدثين الَّذين أوجدوا مصطلحات وعناوين مُعينَة فِي رُوَاة الحَدِيث وفنونها من حَيْثُ الْقُوَّة والضعف وَالْقَبُول والرفض وَلم يكن اسْتِعْمَال ذَلِك مِنْهُم بِدعَة مُنكرَة معَاذ الله وَإِنَّمَا هِيَ اصْطِلَاحَات خَاصَّة قَامَت بِكُل فن وَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح
1 / 12
وَسُئِلَ الإِمَام عبد الْكَرِيم الْقشيرِي رَحمَه الله تَعَالَى فَقيل لَهُ أَرْبَاب التَّوْحِيد هَل يتفاوتون فِيهِ فَقَالَ إِن فرقت بَين مصل ومصل وَعلمت أَن هَذَا يُصَلِّي وَقَلبه مشحون بالفضلات وَذَاكَ يُصَلِّي وَقَلبه حَاضر فَفرق بَين عَالم وعالم هَذَا لَو طرأت عَلَيْهِ مشكلة لم يُمكنهُ الْخُرُوج مِنْهَا وَهَذَا يُقَاوم كل عَدو لِلْإِسْلَامِ وَيحل كل معضلة تعز فِي مقَام الْخِصَام وَهَذَا هُوَ الْجِهَاد الْأَكْبَر فَإِن الْجِهَاد فِي الظَّاهِر مَعَ أَقوام مُعينين وَهَذَا جِهَاد جَمِيع أَعدَاء الدّين وَهُوَ آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم وللخراج فِي الْبلدَانِ قانون مَعْرُوف إِذا أشكل خراج بقْعَة رَجَعَ النَّاس إِلَى ذَلِك القانون وقانون الْعلم بِاللَّه قُلُوب العارفين فرواة الْأَخْبَار خزان الشَّرْع والقراء من الْخَواص وَالْفُقَهَاء حفظَة الشَّرْع وعلماء أصُول الدّين هم الَّذين يعْرفُونَ مَا يجب ويستحيل وَيجوز فِي حق الصَّانِع وهم الأقلون الْيَوْم
(رمى الدَّهْر بالفتيان حَتَّى كَأَنَّهُمْ ... بِأَكْنَافِ أَطْرَاف السَّمَاء نُجُوم)
(وَقد كُنَّا نعدهم قَلِيلا ... فقد صَارُوا أقل من الْقَلِيل)
السّلف الصَّالح يَخُوضُونَ فِي علم التَّوْحِيد
حِين أخظ يظْهر فِي أَيَّام الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم شَيْء من التشويش على مسَائِل من علم التَّوْحِيد انبروا لبَيَان الْحق وردع الْبَاطِل وقمعه
أ - قَالَ الإِمَام الْقُرْطُبِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي تَفْسِيره الْعَظِيم عِنْد قَوْله تَعَالَى وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ فيتبعون مَا تشابه مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة وابتغاء تَأْوِيله الرَّابِع الحكم فِيهِ الْأَدَب البليغ كَمَا فعله عمر بصبيغ وَقَالَ أَبُو بكر الْأَنْبَارِي وَقد كَانَ الْأَئِمَّة من السّلف يعاقبون من يسْأَل عَن تَفْسِير الْحُرُوف والمشكلات فِي الْقُرْآن لِأَن السَّائِل إِن كَانَ يَبْغِي بسؤاله تخليد الْبِدْعَة وإثارة الْفِتْنَة فَهُوَ حقيق بالنكير وَأعظم التعزيز وَإِن لم يكن ذَلِك قَصده اسْتحق العتب بِمَا اجترم من الذَّنب إِذْ أوجد لِلْمُنَافِقين الْمُلْحِدِينَ فِي
1 / 13
ذَلِك الْوَقْت سَبِيلا إِلَى أَن يقصدوا ضعفة الْمُسلمين بالتشكيك والتضليل فِي تَحْرِيف الْقُرْآن عَن مناهج التَّنْزِيل وحقائق التَّأْوِيل فَمن ذَلِك مَا حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق القَاضِي أَنبأَنَا سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن يزِيد بن حَازِم عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَن صبيغ بن عسل قدم الْمَدِينَة فَجعل يسْأَل عَن متشابه الْقُرْآن وَعَن أَشْيَاء فَبلغ ذَلِك عمر ﵁ فَبعث إِلَيْهِ عمر فَأحْضرهُ وَقد أعد لَهُ عراجين من عراجين النّخل فَلَمَّا حضر قَالَ لَهُ عمر من أَنْت قَالَ أَنا عبد الله صبيغ فَقَالَ عمر ﵁ وَأَنا عبد الله عمر ثمَّ قَامَ إِلَيْهِ فَضرب رَأسه بعرجون فَشَجَّهُ ثمَّ تَابع ضربه حَتَّى سَالَ دَمه على وَجهه فَقَالَ حَسبك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فقد ذهب - وَالله - مَا كنت أجد فِي رَأْسِي
ب - قَالَ يحيى بن يعمر رَحمَه الله تَعَالَى كَانَ أول من قَالَ فِي الْقدر بِالْبَصْرَةِ معبد الْجُهَنِيّ فَانْطَلَقت أَنا وَحميد بن عبد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِي حاجين أَو معتمرين فَقُلْنَا لَو لَقينَا أحدا من أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُول هَؤُلَاءِ فِي الْقدر فوفق لنا عبد الله بن عمر دَاخِلا الْمَسْجِد فاكتنفته أَنا وصاحبى أَحَدنَا عَن يَمِينه وَالْآخر عَن شِمَاله فَظَنَنْت أَن صَاحِبي سيكل الْكَلَام إِلَيّ فَقلت يَا ابا عبد الرَّحْمَن إِنَّه قد ظهر قبلنَا نَاس يقرءُون الْقُرْآن ويتقفرون الْعلم وَذكر من شَأْنهمْ وَأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَن لَا قدر - أَي الله تَعَالَى لم يقدر الْأَشْيَاء أَنَّهَا حِين تكون بإرادته كَيفَ تكون وَأَن الْأَمر أنف - فَقَالَ إِذا لقِيت أُولَئِكَ فَأخْبرهُم أَنِّي بَرِيء مِنْهُم وهم بَرَاءَة مني وَالَّذِي يحلف بِهِ ابْن عمر لَو لأَحَدهم مثل أحد ذَهَبا فأنفقه مَا قبله الله مِنْهُ حَتَّى يُؤمن بِالْقدرِ ثمَّ ذكر حَدِيث الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَالْإِحْسَان وَفِيه (أَن تؤمن بِالْقدرِ) رَوَاهُ مُسلم وَأَصْحَاب السّنَن
ج - وَظهر فِي عهد عَليّ ﵁ الْخَوَارِج الَّذين يكفرون بالذنب، فَمن مَاتَ مذنبا عِنْدهم فَهُوَ إِلَى النَّار مَعَ الْكَافرين المنكرين وأنكروا شَفَاعَته ﷺ فِي الْمُسلمين المذنبين
قَالَ يزِيد بن صُهَيْب الْفَقِير كَانَ قد شغفني رَأْي من رأى الْخَوَارِج وَكنت رجلا شَابًّا فخرجنا فِي عِصَابَة ذَوي عدد نُرِيد أَن نحج ثمَّ نخرج على النَّاس قَالَ فمررنا
1 / 14
بِالْمَدِينَةِ - على ساكنها الصَّلَاة وَالسَّلَام - فَإِذا جَابر بن عبد الله يحدث الْقَوْم من حَدِيث رَسُول الله ﷺ جَالس إِلَى سَارِيَة وَإِذ قد ذكر الجهنميون فَقلت لَهُ يَا صَاحب رَسُول الله ﷺ مَا الَّذِي يحدثُونَ وَالله تَعَالَى يَقُول ﴿رَبنَا إِنَّك من تدخل النَّار فقد أخزيته﴾ و﴿كلما أَرَادوا أَن يخرجُوا مِنْهَا أعيدوا فِيهَا﴾ فَمَا هَذَا الَّذِي يَقُولُونَ قَالَ أَي بني أَتَقْرَأُ الْقُرْآن قلت نعم قَالَ سَمِعت بمقام مُحَمَّد ﷺ الْمَحْمُود الَّذِي يَبْعَثهُ الله يَوْم الْقِيَامَة فِيهِ قلت نعم قَالَ فَإِنَّهُ مقَام مُحَمَّد الْمَحْمُود الَّذِي يخرج الله بِهِ من يخرج من النَّار قَالَ ثمَّ نعت وضع الصِّرَاط وَمر النَّاس عَلَيْهِ قَالَ الرَّاوِي فَأَخَاف أَن لَا أكون حفظت ذَاك غير أَنه قد زعم أَن قوما يخرجُون من النَّار بعد أَن يَكُونُوا فِيهَا كَأَنَّهُمْ عيدَان السماسم قَالَ فَيدْخلُونَ نَهرا من أَنهَار الْجنَّة فيغتسلون فِيهِ فَيخْرجُونَ كَأَنَّهُمْ الْقَرَاطِيس الْبيض قَالَ فرجعنا فَقُلْنَا وَيحكم أَتَرَوْنَ هَذَا الشَّيْخ يكذب على رَسُول الله ﷺ قَالَ فرجعنا فرجعنا فوَاللَّه مَا خرج منا أحد غير رجل وَاحِد وَفِي رِوَايَة أُخْرَى قَالَ جَابر ﵁ الشَّفَاعَة بيّنت فِي كتاب الله تَعَالَى ﴿مَا سلككم فِي سقر قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين وَلم نك نطعم الْمِسْكِين وَكُنَّا نَخُوض مَعَ الخائضين وَكُنَّا نكذب بِيَوْم الدّين حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين فَمَا تنفعهم شَفَاعَة الشافعين﴾ يَعْنِي أَن الشَّفَاعَة تدْرك الْمُسلمين دون الْكَافرين
ثمَّ حِين ظهر فِي الْمُسلمين من نفى رُؤْيَة الْمُؤمنِينَ رَبهم فِي الْجنَّة وَمن زعم أَن الْقُرْآن الَّذِي هُوَ كَلَام الله مَخْلُوق وَمن زعم أَن الْإِنْسَان لَا اخْتِيَار لَهُ وَلَا كسب بل هُوَ كالريشة فِي مهب الرّيح كَمَا ظهر من وصف الله تَعَالَى بِصِفَات من الْجِسْم والطول وَالْعرض والعمق وَمن نفى باسم التنزية بعض صِفَات الله تَعَالَى الثَّابِتَة لَهُ فِي الْقُرْآن وَالسّنة وَغير ذَلِك
فَكَانَ كلما ذَر فِي حَيَاة الْمُسلمين قرن الْفِتْنَة والبدعة قَامَ عُلَمَاء الْمُسلمين يثبتون الْحق ويظهرونه ويردون الْبَاطِل ويقمعونه فأتبع بذلك مَادَّة علم التَّوْحِيد وَكَثُرت مسَائِله قَالَ الونشريسي وَأجْمع السّلف وَالْخلف من أثمة الْهدى على حِكَايَة مقالات
1 / 15
الْكَفَرَة والملحدين فِي كتبهمْ ومجالسهم وبينوها للنَّاس وينقضوا شبهها وَإِن كَانَ وَقع لِأَحْمَد بن حَنْبَل إِنْكَار لبَعض هَذَا على الْحَارِث المحاسبي فقد صنع احْمَد مثله فِي رده على الْجَهْمِية والقائلين بالمخلوق هَذِه الْوُجُوه السَّابِقَة حِكَايَة عَنْهَا فَأَما ذكرهَا على غير هَذَا من حِكَايَة سبه أَو الإزدراء بمنصبه على وَجه الحكايات والأسمار والطرف وَأَحَادِيث النَّاس ومقالاتهم فِي الغث والسمين ومضاحك المجان ونوادر السخفاء والخوض فِي قيل وَقَالَ وَمَا لَا يَعْنِي فَكل هَذَا مَمْنُوع وَبَعضه أَشد فِي الْعقُوبَة من بعض
فَهَل يعاب على عُلَمَاء الْمُسلمين الْأَوَائِل أَن كتبُوا فِي علم التَّوْحِيد وبينوا وحققوا ومحصوا وحفظوا عقائد الْمُسلمين سليمَة نقية كلا وَهل يعاب على عُلَمَاء الْمُسلمين أَن يكتبوا على كل حَال فِي علم التَّوْحِيد ويحققوا العقائد والأفكار ليحفظوا عقائد الْمُسلمين كلا ثمَّ كلا
أَقُول إِنَّه من الْحق الْوَاجِب الْيَوْم أَيْضا أَن ينبري عُلَمَاء الْمُسلمين ليبينوا الْحق ويمحصوه أَمَام تِلْكَ الأفكار والنحل والمعتقدات المادية والروحية الَّتِي خرج بهَا فِي الْمُسلمين جهال مِنْهُم ومنحرفون ضلال دخلاء عَلَيْهِم أَو كفار مَا رقون يُرِيدُونَ أَن يدخلُوا ذَلِك الْفساد فِي عقائد الْمُسلمين أَو يجعلوها تعيش مَعَ عقائدهم فِي قلب وَاحِد وَذَلِكَ محَال وأنى يجْتَمع النُّور والظلام فِي مَكَان أَو يجْتَمع فِيهِ الْكفْر وَالْإِيمَان
قَالَ الشَّيْخ الْفَقِيه الْمُحدث مُحَمَّد زاهد الكوثري رَحمَه الله تَعَالَى وَفِي كَلَام الْمُتَقَدِّمين من الْمُتَكَلِّمين مَا يجب أَن يسترشد بِهِ القائمون بالدفاع عَن الدّين فِي كل عصر وَمن الْبَين أَن طرق الدفاع عَن عقائد الْإِسْلَام ووسائل الْوِقَايَة من تسرب الْفساد إِلَى الْأَخْلَاق وَالْأَحْكَام مِمَّا يَتَجَدَّد فِي كل عصر تجدّد أساليب الأخصام وَهِي فِي نَفسهَا ثَابِتَة عِنْد حد الشَّرْع لَا تتبدل حقائقها فَيجب على الْمُسلمين فِي جَمِيع أدوار بقائهم أَن يتفرغ مِنْهُم جمَاعَة لتتبع الآراء السائدة فِي طوائف الْبشر والعلوم المنتشرة بَينهم وفحص كل مَا يُمكن أَن يَأْتِي من قبله ضَرَر على الْمُسلمين لَا سِيمَا فِي المعتقد الَّذِي لَا يزَال ينبوع كل خير راسخا رصينا وَيصير منشأ كل فَسَاد إِن اسْتَحَالَ واهنا واهيا فيدرسون هَذِه الآراء
1 / 16
والعلوم دراسة أَصْحَابهَا أَو فَوق دراستهم ليجدوا فِيهَا مَا يدْفَعُونَ بِهِ الشكوك الَّتِي يستثيرها أَعدَاء الدّين بوسائط عصرية حَتَّى إِذا فَوق مقتصد سَهْما مِنْهَا نَحْو التعاليم الإسلامية من مُعْتَقد وَأَحْكَام وأخلاق ردوهَا إِلَى نَحره اعْتِمَادًا على حقائق تِلْكَ الْعُلُوم وتجاربها واستنادا على إبداء نظريات تقضي على نظريات المشككين - وَجل الدّين الإسلامي أَن يصطدم مَعَ حقائق الْعُلُوم - وَأَقَامُوا دون تسرب تلبيساتهم سورا حصينا واقيا وعبأوا حزب الله على أنظمة يتطلبها الزَّمن فِي غير هوادة وَلَا توان ودونوا مَا استخلصوه من تِلْكَ الْعُلُوم من طرائق الدفاع فِي كتب خَاصَّة بأسلوب يعلق بالخاطر وتستسيغه الْعَامَّة لتَكون سدا محكما مدى الدَّهْر دون مفاجأة جوارف الشكوك وَإِن لم يَفْعَلُوا ذَلِك يسهل على الْأَعْدَاء أَن يَجدوا سَبِيلا إِلَى مَوَانِع خصبة بَين الْمُسلمين تنْبت فِيهَا بذور تلبيساتهم بِحَيْثُ يصعب اجتثاث عروقها الفوضوية بل تسري سموم الْإِلْحَاد فِي قُلُوب خَالِيَة تتمكن فِيهَا فَيهْلك الْحَرْث والنسل وقانا الله تَعَالَى شَرّ ذَلِك وأيقظنا من رقدتنا
أَقُول وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه فَلَقَد غزت قُلُوب كثير من الْمُسلمين عقائد وأفكار وَنحل ومبادىء وَأَحْكَام وآراء واستولت على بعض تِلْكَ الْقُلُوب الَّتِي زين لَهَا الشَّيْطَان أَن لَا تعَارض بَين تِلْكَ الآراء والعقائد وَبَين الْإِسْلَام وَأَن لَا حرج على الْمُسلم أَن يكون مُسلما وشيوعيا فِي آن ... حَتَّى خرج الْإِسْلَام من تِلْكَ الْقُلُوب وَتمكن فِيهَا الْإِلْحَاد والزندقة معَاذ الله وَإِن على كثير من الْمُسلمين القادرين علما وقلما نَصِيبا من الْمُؤَاخَذَة على مَا آل إِلَيْهِ قُلُوب كثير من الْمُسلمين إِن لم يَقُولُوا وَلم يدرسوا وَلم يكتبوا وينشروا
وَمن الْحق أَن يقْرَأ عُلَمَاؤُنَا خَاصَّة ويقرئوا فِي دروسهم ويقولوا ذَلِك فِي خطبهم مِمَّا هُوَ حق وصريح فِي رد الْإِلْحَاد وقمعه وَفِي هَذَا الْعَصْر الْكتب التالية موقف الْعقل وَالْعلم لشيخ الْإِسْلَام مصطفى صبري رَحمَه الله تَعَالَى فِي أَربع مجلدات وقصة الْإِيمَان للشَّيْخ نديم الجسر رَحمَه الله تَعَالَى فِي مُجَلد وصراع مَعَ الْمَلَاحِدَة حَتَّى الْعظم والعقيدة
1 / 17
الإسلامية كِلَاهُمَا للشَّيْخ البحاثة عبد الرَّحْمَن حبنكة الْمدرس بجامعة أم الْقرى بِمَكَّة المكرمة وكبرى اليقينياتونقض الماديه الجدليه كِلَاهُمَا للشَّيْخ الدكتور مُحَمَّد سعيد رَمَضَان البوطي الْأُسْتَاذ بجامعة دمشق وأمثالها من الْكتب النافعة فَإِن فِيهَا خيرا كثيرا ونورا مُبينًا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
نموذج علمي فِي بَيَان بطلَان أكذوبة مَا تزَال تعيش فِي أفكار المثقفين من الْمُسلمين على أَنَّهَا حَقِيقَة علمية معَاذ الله قَالَ الْأُسْتَاذ فيصل تليلاني من كَلَام إِن الإكتشاف العلمي الَّذِي هدم نظرية دارون من أساسها هُوَ اكتشاف وحدات الوراثة الَّتِي أَثْبَتَت اسْتِحَالَة تطور الْكَائِن الْحَيّ وتحوله من نوع إِلَى آخر هُنَاكَ عوامل وراثية فِي خلية كل نوع تحتفظ لَهُ بخصائص نَوعه وتحتم أَن يظل فِي دَائِرَة النَّوْع الَّذِي نَشأ مِنْهُ وَلَا يخرج قطّ عَن نَوعه وَلَا يتطور إِلَى نوع جَدِيد فالقط أَصله قطّ وسيظل قطا على توالي الْقُرُون وَالْكَلب كلب والثور ثَوْر والحصان والقرد وَالْإِنْسَان وكل مَا يُمكن أَن يَقع حسب نظرية الوراثة هُوَ الإرتقاء فِي حُدُود النَّوْع نَفسه دون الإنتقال إِلَى نوع آخر هَذَا الاكتشاف العلمي الَّذِي أعدم نظرية دارون وأقبرها وَقضى عَلَيْهَا، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الفيلسوف برتراندراسل حِين قَالَ فِي كِتَابه (النظرية العلمية) لقد أَخطَأ دارون فِي قوانين الوراثة حَتَّى غيرتها قوانين منْدَل تغييرا كليا وَقَالَ والاس إِن من المستحيل أَن يكون الْإِنْسَان قد تمّ تكوينه على طَريقَة التطور والإرتقاء حَيْثُ إِن الإرتقاء بالانتخاب الطبيعي لَا يصدق على الْإِنْسَان وَقَالَ الدكتور الفسيولوجي إيلي دوستون الداروينية لَا تقوم إِلَّا على حكايات مخترعة لَا تعلو قيمتهَا العلمية على قيمَة حكايات المرضعات
لقد رفع مدير مَرْكَز الأبحاث العلمية فِي سان ديجو دَعْوَى قضائية على إدارة مدرسة إبتدائية بِاعْتِبَارِهِ أَبَا لأحد تلاميذها وحجته فِي دَعْوَاهُ أَن الْمدرسَة تقوم بتدريس نظرية دارون فِي النشوء والإرتقاء فِي علم الْأَحْيَاء دون الْمُقَارنَة أَو الْإِشَارَة إِلَى أصل الْخلق الإلهي للكائنات الَّذِي جَاءَ فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل ... فَمَاذَا يجب أَن يَقُول وَيفْعل الْآبَاء الْمُسلمُونَ وَعِنْدهم الْكتاب الْحق وَالَّذِي فِيهِ ﴿لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم﴾ وهم يرَوْنَ أَوْلَادهم يدرسون تِلْكَ النظرية وَلَو كَانُوا فِي الْحَرَمَيْنِ
1 / 18
فصل
الْكَلَام فِي ذَات الله تَعَالَى وَصِفَاته
اتّفق أهل الْعقل والفطرة السليمة من الْجِنّ وَالْإِنْس على وجود الله تَعَالَى بل وجوب وجوده سُبْحَانَهُ وكما دلّ على هَذِه الْحَقِيقَة الْكُبْرَى الْفطْرَة السليمة المودعة فِي النُّفُوس والعقول الْخَالِصَة من الْهوى والمودعة فِي الرؤوس فقد دلّ كَذَلِك البراهيم والحجج الْقَائِمَة فِي الْإِنْسَان من جسم وَنَفس وروح وعقل وعاطفة وَفِي الْحَيَوَان والنبات وَفِي الأَرْض والرمل وَالتُّرَاب وَالْحجر والسهل والجبل وَفِي السَّمَاء من ريَاح وأمطار وليل ونهار فِي جَمِيعهَا آيَات تدل على الْخَالِق الْوَاحِد الْأَحَد سُبْحَانَهُ
جَمِيع الْمَخْلُوقَات مهيأة بالفطرة لوظيفة فِي حَيَاتهَا يحفظها ويقيها المهالك مَا استقامت على الْفطْرَة إِلَى مَا شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ الله تَعَالَى وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء
فَكل الْأَحْيَاء من حشرات وزواحف وفقاريات وَمن طَائِر يطير بجناحيه فِي الْهَوَاء وَمن حَيَوَان مائي وبرمائي وبري وجبلي مَا من مَخْلُوق من هَذِه الْمَخْلُوقَات إِلَّا وَهِي تنتظم فِي أمة ذَات خَصَائِص وَاحِدَة وَطَرِيقَة فِي الْحَيَاة وَاحِدَة خلقت مفطورة على اتجاه معِين فِي الْحَيَاة ونظمت خلايا تكوينها على شكل لَا يُمكن أَن يخرج بِسَبَبِهَا حَيَوَان من فطرته ونظامه وَلَا نَبَات عَن جنسه وَمَا أودع الله تَعَالَى فِيهِ فَلَنْ يَنْقَلِب كَمَا لم يحصل قطّ القط إِلَى كلب وَلَا السّمك إِلَى حَيَوَان بري وَلَا الثوم بصلا وَلَا الْبَصَر كراثا
وَمن يقْرَأ فِي الْإِنْسَان الْإِنْسَان ذَلِك الْمَجْهُول والطب محراب للْإيمَان وَفِي أعماق الْإِنْسَان يجد مَا يُقَوي يقينه فِي الْخَالِق البارىء سُبْحَانَهُ وَمن يقْرَأ مَعَ الله فِي السَّمَاء وَمَعَ الله فِي الأَرْض والجائزة أَو لماذا أومن وَحِكْمَة الْمَخْلُوقَات للْإِمَام الْغَزالِيّ وَالْعلم يزحف تأليف جيمس ستوكلي وآيات الْخَالِق الكونية والنفسية للأستاذ رشيد رشدي العابري وأمثالها يَزُول عَن عقله كل لوثة شُبْهَة فِي وجود الْخَالِق البارىء المصور سُبْحَانَهُ ﴿الَّذِي خلق فسوى﴾ وَلَكِن من سبقت لَهُ الشقاوة فركن إِلَى الْهوى وَلم
1 / 19
يسمع نِدَاء الله تَعَالَى وَلم يعقل آيَات الله تَعَالَى المودعة فِي كل شَيْء لَا يجدي مَعَه دَلِيل وَلَا يثنيه عَن باطله أَيَّة آيَة ﴿وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير فَاعْتَرفُوا بذنبهم فسحقا لأَصْحَاب السعير﴾ الْملك
من لَا يُؤمن بِاللَّه تَعَالَى اخْتِيَارا فيفوز بسعادة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة يُؤمن بِهِ عملا وضرورة فجسمه وحواسه وقوته وَضَعفه وسقمه وشيخوخته وَمَوته كل ذَلِك يخضع لنظام وَضعه الله تَعَالَى لَهُ وَلَا يُمكن لذَلِك الْإِنْسَان الكنود أَن يخرج على ذَلِك النظام بِحَال
وَلَا عجب أَن يَقُول الله تَعَالَى بعد ذَلِك فِي الْإِنْسَان الْكَافِر ﴿إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون﴾ لَكِن الله تَعَالَى غيب لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَلَا تحيط بِهِ الْعُقُول وَلَوْلَا أَنه سُبْحَانَهُ عرف عباده على نَفسه مَا عرفوه كَمَا هُوَ لقد عرف الله تَعَالَى عباده على نَفسه من خلال أَسْمَائِهِ وَصِفَاته وَلَوْلَا تَعْرِيفه نَفسه بذلك إِلَى خلقه مَا عرفوه سُبْحَانَهُ كَمَا هُوَ لذا كَانَ من الْخَطَأ والخطر والمجازفة وَالْخُرُوج على الْحُدُود أَن يَقُول الْإِنْسَان فِي حق الله تَعَالَى سوى مَا قَالَ عَن نَفسه فَلَا يُسَمِّيه سُبْحَانَهُ بسوى مَا سمى بِهِ نَفسه أَو سَمَّاهُ رَسُول الله ﷺ من الْأَسْمَاء وَلَا يُسَمِّيه طبيعة وَلَا رَحْمَة وَلَا سَمَاء وَلَا غيبا وَلَا وَالِد وَلَا ولد لَا مهندسا للكون وَلَا عَارِفًا وَلَا يصفه كَذَلِك بسوى مَا وصف بِهِ نَفسه أَو وصف بِهِ رَسُوله ﷺ من الصِّفَات وَلَا يصفه بالجرأة والتعلم وَالْحَاجة والتعب والراحة والندم والبكاء وَلَا بالتبدل من حَال إِلَى حَال والانتقال من مَكَان إِلَى مَكَان لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير الشورى ١١
وَإِذا كَانَ الله تَعَالَى كَمَا قَالَ لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير فَحق على الْمُؤمن أَن يقف عِنْد حُدُود مَا ذكر لَهُ فِي ذَلِك فِي الْقُرْآن وَالسّنة الصَّحِيحَة ويؤمن بِاللَّه تَعَالَى وأسمائه وَصِفَاته دون محاولة تَشْبِيه الله تَعَالَى بخلقه أَو تَشْبِيه اُحْدُ من خلقه بِهِ سُبْحَانَهُ ﴿قل هُوَ الله أحد الله الصَّمد لم يلد وَلم يُولد وَلم يكن لَهُ كفوا أحد﴾ سُورَة الْإِخْلَاص
ثمَّ يحِيل مَا يَتْلُو من نُصُوص متشابهات فِي صِفَات الله تَعَالَى إِلَى النُّصُوص الواضحات
1 / 20
المحكمات مِنْهَا فَإِنَّهُنَّ ﴿أم الْكتاب﴾ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ
قَالَ الإِمَام أَبُو حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى لَا يَنْبَغِي لأحد أَن ينْطق فِي الله تَعَالَى بِشَيْء من ذَاته وَلَكِن يصفه بِمَا وصف بِهِ نَفسه وَلَا يَقُول فِيهِ شَيْئا بِرَأْيهِ تبَارك الله رب الْعَالمين نَقله القَاضِي أَبُو عَلَاء صاعد بن مُحَمَّد فِي كتاب الِاعْتِقَاد عَن أبي يُوسُف عَن الإِمَام أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى من قَوْله
فَائِدَة قَالَ الإِمَام أَبُو مَنْصُور عبد القاهر بن طَاهِر التَّمِيمِي الْبَغْدَادِيّ الْمُتَوفَّى سنة ٤٢٩ فِي كِتَابه الْعَظِيم (أصُول الدّين) مَا يَلِي
الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة فِي تَرْتِيب أَئِمَّة الدّين فِي علم الْكَلَام
أول متكلمي أهل السّنة من الصَّحَابَة عَليّ بن أبي طَالب لمناظرته الْخَوَارِج فِي مسَائِل الْوَعْد والوعيد ومناظرته الْقَدَرِيَّة فِي الْقدر وَالْقَضَاء والمشيئة والاستطاعة ثمَّ عبد الله ابْن عمر فِي كَلَامه على الْقَدَرِيَّة وبراءته مِنْهُم وَمن زعيمهم الْمَعْرُوف بمعبد الجهمي وَادعت الْقَدَرِيَّة أَن عليا كَانَ مِنْهُم وَزَعَمُوا أَن زعيمهم وَاصل بن عَطاء المعتزلي أَخذ مذْهبه من مُحَمَّد وَعبد الله ابْني عَليّ ﵁ وَهَذَا من بهتهم وَمن الْعَجَائِب أَن يكون ابْنا عَليّ قد علما واصلا رد شَهَادَة عَليّ وَطَلْحَة وَالشَّكّ فِي عَدَالَة عَليّ أفتراهما علماه إبِْطَال شَفَاعَة عَليّ شَفَاعَة صهر الْمُصْطَفى ﷺ
وَأول متكلمي أهل السّنة من التَّابِعين عمر بن عبد الْعَزِيز وَله رِسَالَة بليغة فِي الرَّد على الْقَدَرِيَّة ثمَّ زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب وَله كتاب فِي الرَّد على الْقَدَرِيَّة من الْقُرْآن ثمَّ الْحسن الْبَصْرِيّ وَقد ادَّعَتْهُ الْقَدَرِيَّة فَكيف يَصح لَهَا هَذِه الدَّعْوَى مَعَ رسَالَته إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز فِي ذمّ الْقَدَرِيَّة وَمَعَ طرده واصلا عَن مَجْلِسه عِنْد إِظْهَاره بدعته ثمَّ الشّعبِيّ وَكَانَ من أَشد النَّاس على الْقَدَرِيَّة ثمَّ الزُّهْرِيّ وَهُوَ الَّذِي أفتى عبد الْملك بن مَرْوَان بدماء الْقَدَرِيَّة
وَمن بعد هَذِه الطَّبَقَة جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق وَله كتاب فِي الرَّد على الْقَدَرِيَّة وَكتاب فِي الرَّد على الْخَوَارِج ورسالة فِي الرَّد على الغلاة من الروافض وَهُوَ الَّذِي قَالَ أَرَادَت الْمُعْتَزلَة أَن توَحد رَبهَا فألحدت وأرادت التَّعْدِيل فنسبت الْبُخْل إِلَى رَبهَا
1 / 21
وَأول متكلميهم من الْفُقَهَاء وأرباب الْمذَاهب أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فَإِن ابا حنيفَة لَهُ كتاب فِي الرَّد على الْقَدَرِيَّة سَمَّاهُ الْفِقْه الْأَكْبَر وَله رِسَالَة أملاها فِي نصْرَة قَول أهل السّنة إِن الإستطاعة مَعَ الْفِعْل وَلكنه قَالَ إِنَّهَا تصلح للضدين وعَلى هَذَا قوم من أَصْحَابنَا وَقَالَ صَاحبه أَبُو يُوسُف فِي الْمُعْتَزلَة إِنَّهُم زنادقة وَللشَّافِعِيّ كِتَابَانِ فِي الْكَلَام أَحدهمَا فِي تَصْحِيح النُّبُوَّة وَالرَّدّ على البراهمة، وَالثَّانِي فِي الرَّد على أهل الْأَهْوَاء وَذكر طرفا من هَذَا النَّوْع فِي كتاب الْقيَاس وَأَشَارَ فِيهِ إِلَى رُجُوعه عَن قبُول شَهَادَة الْمُعْتَزلَة وَأهل الْأَهْوَاء
فَأَما المريسي من اصحاب أبي حنيفَة فَإِنَّمَا وَافق الْمُعْتَزلَة فِي خلق الْقُرْآن وأكفرهم فِي خلق الْأَفْعَال ثمَّ من بعد الشَّافِعِي تلامذته الجامعون بَين الْفِقْه وَالْكَلَام كالحارث ابْن أَسد المحاسبي وَأبي عَليّ الْكَرَابِيسِي وحرملة الْبُوَيْطِيّ وَدَاوُد الْأَصْبَهَانِيّ وعَلى كتاب الْكَرَابِيسِي فِي المقالات معول الْمُتَكَلِّمين فِي معرفَة مَذَاهِب الْخَوَارِج وَسَائِر أهل الْأَهْوَاء وعَلى كتبه فِي الشُّرُوط وَفِي علل الحَدِيث وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل معول الْفُقَهَاء وحفاظ الحَدِيث وعَلى كتب الْحَارِث بن أَسد فِي الْكَلَام وَالْفِقْه والْحَدِيث معول متكلمي أَصْحَابنَا وفقهائهم وصوفيتهم
ولداود صَاحب الظَّاهِر كتب كَثِيرَة فِي أصُول الدّين مَعَ كَثْرَة كتبه فِي الْفِقْه وَابْنه أَبُو بكر جَامع بَين الْفِقْه وَالْكَلَام وَالْأُصُول وَالْأَدب وَالشعر
وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاس بن شُرَيْح أنزع الْجَمَاعَة فِي هَذِه الْعُلُوم وَله نقض كتاب الجاروف على الْقَائِلين بتكافؤ الْأَدِلَّة وَهُوَ أشْبع من نقض ابْن الراوندي عَلَيْهِم فَأَما تصانيفه فِي الْفِقْه فَالله يحصيها
وَمن متكلمي أهل السّنة فِي أَيَّام الْمَأْمُون عبد الله بن سعيد التَّمِيمِي الَّذِي دمر علم الْمُعْتَزلَة فِي مجْلِس الْمَأْمُون وَفَضَحَهُمْ ببيانه وآثار بَيَانه فِي كتبه وَهُوَ أَخُو يحيى بن سعيد الْقطَّان وَارِث علم الحَدِيث وَصَاحب الْجرْح وَالتَّعْدِيل وَمن تلامذة عبد الله بن
1 / 22
سعيد عبد الْعَزِيز الْمَكِّيّ الْكِنَانِي الَّذِي فَضَح الْمُعْتَزلَة فِي مجْلِس الْمَأْمُون
وتلميذه الْحُسَيْن بن فضل البَجلِيّ صَاحب الْكَلَام وَالْأُصُول وَصَاحب التَّفْسِير والتأويل وعَلى نكته فِي الْقُرْآن معول الْمُفَسّرين وَهُوَ الَّذِي استصحبه عبد الله بن طَاهِر وَالِي خُرَاسَان إِلَى خُرَاسَان فَقَالَ النَّاس إِنَّه قد أخرج علم الْعرَاق كُله إِلَى خُرَاسَان
وَمن تلامذة عبد الله بن سعيد أَيْضا الْجُنَيْد شيخ الصُّوفِيَّة وَإِمَام الْمُوَحِّدين وَله فِي التَّوْحِيد رِسَالَة على شَرط الْمُتَكَلِّمين وَعبارَة الصُّوفِيَّة
ثمَّ بعْدهَا شيخ النّظر وَإِمَام الْآفَاق فِي الجدل وَالتَّحْقِيق أَبُو الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل الْأَشْعَرِيّ الَّذِي صَار شجا فِي حلوق الْقَدَرِيَّة والنجارية والجهمية والجسمية وَالرَّوَافِض والخوارج وَقد مَلأ الدُّنْيَا كتبه وَمَا رزق أحد من الْمُتَكَلِّمين من التبع مَا قد رزق لِأَنَّهُ جَمِيع أهل الحَدِيث وكل من لم يتعزل من أهل الرَّأْي على مذْهبه وَمن تلامذته الْمَشْهُورين أَبُو الْحسن الْبَاهِلِيّ وَأَبُو عبد الله بن مُجَاهِد وهما اللَّذَان أثمرا تلامذة هم إِلَى الْيَوْم شموس الزَّمَان وأثمة الْعَصْر كَأبي بكر مُحَمَّد بن الطّيب قَاضِي قُضَاة الْعرَاق والجزيرة وَفَارِس وكرمان وَسَائِر حُدُود هَذِه النواحي وَأبي بكر مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن فورك وَأبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد المهراني وقبلهم أَبُو الْحسن عَليّ بن مهْدي الطَّبَرِيّ صَاحب الْفِقْه وَالْكَلَام وَالْأُصُول وَالْأَدب والنحو والْحَدِيث وَمن آثاره تلميذ مثل أبي عبد الله بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد البزازي صَاحب الجدل والتصانيف فِي كل بَاب من الْكَلَام
وَقبل هَذِه الطَّبَقَة شيخ الْعُلُوم على الْخُصُوص والعموم أَبُو عَليّ الثَّقَفِيّ وَفِي زَمَانه كَانَ
1 / 23
إِمَام أهل السّنة ابو الْعَبَّاس القلانسي الَّذِي زَادَت تصانيفه فِي الْكَلَام على مائَة وَخمسين كتابا وتصانيف الثَّقَفِيّ ونقوضه على أهل الْأَهْوَاء زَائِدَة على مائَة كتاب
وَقد أدركنا مِنْهُم فِي عصرنا أَبَا عبد الله بن مُحَمَّد وَمُحَمّد بن الطّيب قَاضِي الْقُضَاة وَمُحَمّد بن الْحُسَيْن بن فورك وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد المهراني وَالْحُسَيْن بن مُحَمَّد البزازي وَعلي منوال هَؤُلَاءِ الَّذين أدركناهم شَيخنَا وَهُوَ لإحياء الْحق كل وعَلى أعدائه غل
وَقَالَ الْعِزّ بن عبد السَّلَام عبد الْعَزِيز عِنْد حَدِيث قلب الْمُؤمن بَين أصبعين من أَصَابِع الرَّحْمَن إِن لله مستول عَلَيْهِ بقدرته وتصريفه كَيفَ يَشَاء من كفر وإيمان ... إِلَى أَن قَالَ وَلَيْسَ الْكَلَام فِي هَذَا بِدعَة قبيحة وَإِنَّمَا الْكَلَام فِيهِ بِدعَة حَسَنَة وَاجِبَة لما ظَهرت الشُّبْهَة وَإِنَّمَا سكت السّلف عَن الْكَلَام فِيهِ إِذْ لم يكن فِي عصرهم من يحمل كَلَام الله وَكَلَام رَسُوله على مَالا يجوز حمله وَلَو ظَهرت فِي عصرهم شُبْهَة لكذبوهم وأنكروا عَلَيْهِم غَايَة الْإِنْكَار فقد رد الصَّحَابَة وَالسَّلَف على الْقَدَرِيَّة لما أظهرُوا بدعتهم وَلم يَكُونُوا قبل ظُهُورهمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي ذَلِك وَلَا يردون على قَائِله وَلَا نقل عَن أحد من الصَّحَابَة شَيْء من ذَلِك إِذْ لَا تَدْعُو الْحَاجة إِلَيْهِ ... وَالله أعلم الفتاوي لَهُ ص ٥٦
1 / 24
فصل
افْتِرَاق أمة رَسُول الله ﷺ
وَكَانَ مَا لَا بُد أَن يكون وَوَقع مَا قدر الله تَعَالَى وُقُوعه وقضاه وَهُوَ أَن تفترق أمة رَسُول الله ﷺ إِلَى ثَلَاث وَسبعين فرقة كلهَا فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَة وَهِي الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا رَسُول الله ﷺ وصحابته ﵃
ونجد أَخْبَار تِلْكَ الْفرق فِي كتاب الإِمَام أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ مقالات الإسلاميين وَكتاب الإِمَام عبد القاهر الْبَغْدَادِيّ الْفرق بَين الْفرق والفصل فِي الْملَل والأهواء والنحل لِابْنِ حزم والملل والنحل للشهرستاني وَغَيرهَا
وَالَّذِي ندير فِيهِ الحَدِيث هُنَا أَن تِلْكَ الْفرق يُمكن بِشَيْء من التمحل والتنزل أَن تجْعَل طرفين حادين وهما منحرفان ووسط هُوَ الْعدْل وَالْحق
الطرفان أَحدهمَا المشبهة والمجسمة الَّذين يشبهون الله تَعَالَى بخلقه وَيدعونَ أَنه جسم كالأجسام أَولا كالأجسام
وَالثَّانِي المعطلة ونعني بهم هُنَا الَّذين يعطلون الله تَعَالَى فينفون عَنهُ صِفَات وينسبون إِلَيْهِ النَّقْص وَمِنْهُم طَائِفَة متعقلون يجْعَلُونَ الْعقل حكما وحاكما يردون بعض نُصُوص الْقُرْآن الْكَرِيم وَالسّنة الصَّحِيحَة المثبتة لصفات الله تَعَالَى بعقولهم وأفكارهم
وَالْوسط السَّلِيم الْمُسْتَقيم يُؤمن بِاللَّه تَعَالَى وَصِفَاته جَمِيعهَا وينزهه سُبْحَانَهُ عَن المشابهة والجسمية وَيثبت لله تَعَالَى من الصِّفَات مَا أثْبته لنَفسِهِ وأثبته لَهُ رَسُول الله ﷺ وَهَذَا هُوَ الَّذِي بعث رَسُول الله ﷺ بِهِ وَعلم أَصْحَابه إِيَّاه وَهُوَ الَّذِي خلف عَلَيْهَا أَصْحَابه ثمَّ
1 / 25
خِيَار التَّابِعين وَالْعُلَمَاء الفاقهين وَمِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة ومدارسهم وأمثالهم من الْعلمَاء الصَّالِحين فِي زمانهم وَبعد زمانهم وَهُوَ وسط صَحِيح حق بَاقٍ إِلَى قرب قيام السَّاعَة بِإِذن الله تَعَالَى والساعة لَا تقوم وَفِي النَّاس مَا يَقُول الله الله كَمَا جَاءَ فِي صَحِيح مُسلم
وكما قيض الله تَعَالَى للْجمع بَين طرفِي الرَّأْي وَالنَّص نَاصِر السّنة الإِمَام مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى، فِيمَا سمي فِي كتب الْأُصُول بالتوفيق بَين أهل الرَّأْي وَأهل الحَدِيث فقد قيض الله تَعَالَى نَاصِر السّنة الإِمَام أَبَا الْحسن الْأَشْعَرِيّ لإِظْهَار سلوك الْوسط السَّلِيم الْمُسْتَقيم وَذَلِكَ برد المعطلة من الْمَلَاحِدَة ونفاة الصِّفَات من جِهَة والمشبهة والمجسمة من جِهَة أُخْرَى إِلَى الجادة الْوسط فَأثْبت رُؤْيَة الْمُؤمنِينَ لله تَعَالَى فِي الْجنَّة جعلنَا الله مِنْهُم وَمَعَهُمْ وَنفى التَّشْبِيه والكيفية وَأثبت كَلَام الله تَعَالَى وَقَالَ إِن كَلَام الله تَعَالَى غير مَخْلُوق وَإِن فعل العَبْد فِي الْقُرْآن من الْقِرَاءَة وَالْكِتَابَة مَخْلُوق وَأثبت سَائِر صِفَات الله تَعَالَى مَعَ التَّنْزِيه عَن المشابهة لأحد من خلقه أَو مشابهة أحد من خلقه لَهُ سُبْحَانَهُ وأمثال ذَلِك كثير
وَلَقَد جمع الله تَعَالَى جُمْهُور الْمُسلمين على توجهه وتوجيهه فَكَانَ رَحمَه الله تَعَالَى آيَة من آيَات الله وَحجَّة من حججه على خلقه قَالَ ابْن حجر الهيثمي رَحمَه الله تَعَالَى نسب علم الْكَلَام إِلَى الْأَشْعَرِيّ لِأَنَّهُ جمع مناهج الْأَوَّلين ولخص موارد الْبَرَاهِين وَلم يحدث فِيهِ بعد السّلف إِلَّا مُجَرّد الألقاب والإصطلاحات وَقد حدث ذَلِك فِي كل فن من فنون الْعلم
وَلَقَد كتب رَحمَه الله تَعَالَى فِي بَيَان الطَّرِيق الْوسط التآليف العديدة مِنْهَا مَا هِيَ صَحَائِف وَمِنْهَا مَا هِيَ أَجزَاء ومجلدات وَحين خرج من الدُّنْيَا كَانَ قد خلف أَكثر من مائَة وَخمسين كتابا فِي بَيَان عقيدة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة ورد وَإِبْطَال مَا سواهَا وَالْحَمْد لله
وَحقّ أَن يُقَال فِيهِ مَا ذكره ابْن خلكان أَنه نُودي يَوْم وَفَاة الْأَشْعَرِيّ الْيَوْم مَاتَ
1 / 26