وما قرأت هذه الكلمات حتى أدركت ما يرمي إليه ديجنه من إهدائه إلي خليلته كما تهدى الجواري ... وما كان ديجنه على ما أعرف به من الصراحة ليفعل ما فعل تضليلا أو هزؤا، فهو لم يقدم على فعلته إلا ليلقنني درسا.
إن هذه المرأة كانت تحبه، وقد سمعني أثني عليها، فأراد أن يردعني عن التعلق بها في حالتي قبولي لها ورفضي.
فوجمت أتفرس في هذه المرأة ودموعها تنحدر على خديها ولا تجرؤ على مسحها؛ خشية أن أنتبه إلى بكائها، وما كنت لأعلم بماذا تهددها ديجنه حتى أطاعت؟ فقلت لها: لا بأس عليك؛ أيتها الآنسة؛ ارجعي من حيث أتيت.
فقالت: إذا أنا خرجت من غرفتك قبل بزوغ الفجر فإن ديجنه سيعيدني إلى باريس، وليس بوسعي أن أخالف أمره؛ فوالدتي فقيرة.
فأجبتها: إن فقرك يدفعك إلى تنفيذ أمر ديجنه إذا ما وافقت أنا عليه، ولقد يستهويني جمالك الرائع، ولكنك تبكين، وما تذرفين دموعك من أجلي، وأنا لا شأن لي في غير هذه الدموع. اذهبي وأنا كافل لك أن لا يرجعك ديجنه إلى باريس. •••
إذا كان التأمل صفة ثابتة من صفات العقل في أكثر الناس، فما هو عندي إلا كغريزة لا تتحكم إرادتي فيها، فإن التأمل يجتاحني كنوب عاطفية شديدة لا قبل لي بردها، فعندما خرجت هذه المرأة من غرفتي جلست وقد اعترتني نوبة التأمل، فإذا أنا أناجي نفسي قائلا: هذا قضاء الله فيك يا هذا ... لعل ديجنه كان على حق لاعتقاده بأنه إذا لم يرسل خليلته إليك لكنت تقع أسيرا في هواها.
أفما دققت في حسنها وجمالها فأدركت أنها آية في الخلق، وما تجود الطبيعة بمثلها إلا نادرا؟ ومع ذلك فإن الرجل الذي يريد أن يشفيك من دائك لم يجد وسيلة أجدى عليك من إلصاق شفتيك بشفتيها؛ ليمحو آثار الحب من قلبك.
ولكم رأى هذه الفتاة رجل قبلك فما استهدفوا للخطر الذي تراميت أنت عليه!
وهذا ديجنه تعبد جمالها، ولكنه لم يؤخذ به، فهل يحيا هذا الرجل بلا قلب؟ إن لهذا الرجل قلبا، ولكنه يختلف عن قلبك شعورا؛ لأنه لا يعتقد في شيء، ولا يهتم بأي أمر كان، ولكنه إذا أصيب بلسعة في رجله فإنه يرتعش خوفا، وهو المعتقد بانحصار الحياة في جسده، فإذا ما فقده فقد الكون بأسره. أيمكن للإنسان أن يحيا على هذه الوتيرة، فيجلد روحه بالسياط كما يجلد المتعبدون أجسادهم!
افتكر يا هذا واعتبر؛ إنك لترى رجلا يضم بين ذراعيه أجمل امرأة وهو مشتعل بحرارة الشباب، يعلن لهذه المرأة إعجابه بها، وتعلن هي حبها له، فيجيئه يوما صديق يثق به ويقول له: إن هذه المرأة مبتذلة، فيزول كل إعجاب وحب من قلبه، ولو أن هذا الصديق قال له: إن هذه المرأة جانية لما فعل هذا الوصف في قلبه ما فعلته كلمة «مبتذلة».
Неизвестная страница