فارتمت على المقعد وهي تفرك يديها ألما وتصرخ: ويحك! إنك ستجهل الحب طول حياتك. - لعلك تقولين الحق، ولكنني أستشهد الله على أنني أعرف العذاب، لقد قلت: إنه لا بد لك من حبي، فلا بد لك أيضا من إبداء الجواب، وما أنا مبارح موقفي حتى ولو اضطرني إصراري إلى فقدك، حتى ولو سقطت هذه الجدران علي قبل أن أطلع على هذا السر الذي يقض مضجعي منذ شهر. إنني تاركك إذا لم تتكلمي. لقد أكون مجنونا، لقد أكون مقدما على هدم حياتي بيدي، ولقد يكون من الخير لي أن أتجاهل ما أطلب إيضاحه، فلا أثير بيننا أمورا قد تقتل سعادتنا وتمزق شملنا، وتحول دون هذا السفر الذي حصرت أماني فيه، لقد يكون كل هذا ولكنني لا أرتجع عن عزمي. تكلمي أو أتخلى عن كل شيء. - لا ... لا ... لن أتكلم. - بل سوف تتكلمين. أفتحسبين أنني أخدع بأكاذيبك؟ أيخيل إليك أنني جاهل أمرك وأنت تتبدلين بين صبح ومساء متقلبة كتقلب الظلمة والنور؟ وتلجئين إلى تبرير موقفك بإبرازك رسائل لا تستحق أن ألقي عليها نظرة واحدة. وهكذا تقنعين بأنني أكتفي بأول تعليل يخطر لك تقديمه. أوجهك وجه تمثال من الجير لتضمحل وراءه أشباح عواطفك؟ فما هو اعتقادك في يا ترى؟ إنني لا أنخدع بنفسي على قدر ما يلوح لك، فحذار أن ينم لي سلوكك عما تبذلين لستره كل هذه الجهود. - وماذا تعتقد أن يكون هذا السر الذي أخفيه؟ - أإلي يوجه هذا السؤال؟ وما تقصدين من هذا التحدي الصريح إذا لم يكن ما ترمين إليه إحراجي لإثارة كرامتي الجريحة حتى إذا انفجر غيظي تخلصت مني.
إنك تتوقعين مني تصريحا لتقابليه بخبث الأنوثة. تريدين أن أتهمك لتردي علي بقولك: إن امرأة مثلك لا تتنازل للدفاع عن نفسها. إن أشد النساء لؤما تعرف كيف تتشح ببرود العظمة، وتذود عن نفسها بسلاح التحقير؛ فالصمت أقوى ما تتمنع به المرأة، وما تعلمت هذه الحقيقة من أمس. إنك تراودين الإهانة بالسكوت، ولكن إذا كان بوسعك أن تحاربي قلبي لأن قلبك خافق فيه، فأنت أضعف من أن تهاجمي تفكيري. إن رأسي أقسى من الفولاذ وفيه من المعرفة ما لا تعلمين. - يا لك من ولد مسكين! أفلا تريد أن نرحل؟ - لا. إنني لن أسافر إلا بصحبة خليلتي، وما أنت بخليلتي الآن . لقد جاهدت طويلا، وتعذبت كثيرا وأنا أقرض شغاف فؤادي. لقد طال ليلي، وآن للصبح أن ينجلي. فهل أنت موردة جوابك أم لا تزالين مصرة على السكوت؟ - لن أجاوب. - ليكن ما تريدين؛ فأنا مصر على الانتظار.
وذهبت لأنطرح على مقعد في آخر الغرفة مصمما على عدم الحركة حتى أعرف ما أريد معرفته. أما هي فأخذت تتمشى أمامي رافعة رأسها وقد انطبعت آثار التفكير على جبينها المتجهم.
وبت أتبعها بأنظاري، وكلما استغرقت في صمتها أوغلت في غضبي، وكنت أحاول إخفاء ثورتي، فتوجهت إلى النافذة وصرخت بالخدم أن يؤدوا للسائق أجره، معلنا عدولي عن السفر هذا المساء.
فقالت بريجيت: مسكين أنت!
وأقفلت النافذة، وعدت إلى مقعدي متظاهرا بأنني لم أسمع شيئا وفي أحشائي نار تتقد تجاه هذا الصمت الجليدي، وهذه القوة السلبية، ولو أنني كنت في موقف عاشق تيقن خيانة محبوبته له لما كنت شعرت بضنك أشد على روحي من هذا الضنك.
وما قررت البقاء في باريس إلا وأنا مصمم على استنطاق بريجيت مهما كلفني الأمر، فأخذت أستعرض الوسائل توصلا لبغيتي فلا أجد، وأتمنى لو خطرت لي وسيلة ناجعة أبذل في اتخاذها كل ما أملك.
ما العمل؟ ماذا أقول؟ وهي واقفة أمامي هادئة تحدجني بنظرات ملؤها الأسى.
وسمعت قرقعة حوافر الخيل وقد حلت من مرابط العربة، وما لبث حتى ساد الصمت على الشارع، وقد كان بوسعي أن أقف وأصرخ لأسترجعها، غير أنني جمدت مكاني كأن القضاء قد حتم بابتعادها دون معاد.
تقدمت إلى الباب ودفعت مزلاجه وأنا أسمع في أذني همسا يقول لي: لقد أصبحت وحدك تجاه المخلوقة التي في يدها حياتك أو موتك.
Неизвестная страница