ـ[إعجاز القرآن والبلاغة النبوية]ـ
المؤلف: مصطفى صادق الرافعي
الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت
الطبعة الثامنة - ١٤٢٥ هـ - ٢٠٠٥ م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
أعده للشاملة: أبو إبراهيم حسانين
1 / 20
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(رَبِّ أَؤزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ) .
الحمد لله بما حمد به نفسه في كتابه، والصلاة والسلام على نبيه وآله وأصحابه، أما بعد فإنا قد أفردنا هذا الجزء بالكلام في إعجاز القرآن الكريم وفي البلاغة النبوية، وقصرنا من ذلك على ما
كان مرجع أمره إلى اللغة في وضعها ونسقها والغاية منها، إلى ما يتصل بجهة من هذه الجهات، أو يكون مبدأ فيها أو سببًا عنها، أو واسطة إليها.
وهذا هو في الحقيقة وجه الإعجاز الغريب الذي
استبد بالروح اللغوية في أولئك العرب الفصحاء.
فاشتملت به أنفسهم على خلق من العزيمة الحذاء دائبًا لا يسكن كأنه روح زلزلة.
فلم تزل من بعده ترجُف بهم الأرض حيث انتقلوا.
ولا يخفين عليك أن ذلك في مرده كأنه باب من فلسفة اللغة، فهو لاحق بما قدمناه من أمرها يستوفي ما تركناه ثمة، ويُبلغ القول في محاسنها وأسرارها، فيكون بعض ذلك تمامًا على بعضه، إذ اللغة هناك مفردات واللغة ههنا تراكيب، وليس رجل ذو علم بالكلام العربي وصنعته
ينازع أو يرتاب في أن القرآن معجزة هذه في بلاغة نظمه واتساق أوضاعه وأسراره، فمن ثم كانت مادة الاتصال في نسق التأليف بين هذا الجزء والذي قبله.
على أن القوم من علماثنا ﵏ قد أكثروا من الكلام في إعجاز القرآن وجاءوا بقبائل من الرأي لونوا فيها مذاهبهم ألوانًا مختلفات وغير مختلفات بيد أنهم يمرون في ذلك عُرضًا
على غير طريق ويشتقون في الكلام ههنا وههنا من كل ما تتمرس به الألسنة في اللدد والخصومة، وما يأخذ بعضه على بعض من مذاهبهم ونحلهم، وليس وراء ذلك كله إلا ما تحصره هذه المقاييس من " صناعة الحق " وإلا أشكال من هذه التراكيب الكلامية، ثم فتنة متماحلة لا تقف عند غاية في اللجاج والعسر.
وقد كان هذا كله من أمرهم وعلمهم، وكان له زمن وموضع، وكانت تبعثهم عليه طبيعة ورغبة، والمرء بروح زمانه أشبه، وبحالة موضعه أشد مناسبة ولا بد من طبقة في الموافقة بين
1 / 21
الأشياء وأسبابها.
فإن تكن هذه الحوادث هي تاريخ الناس، فإن الناس أنفسهم تاريخ الحوادث.
ولا نطيل عليك باستقصاء القول في آرائهم وكتبهم في الإعجاز، فإن شيئًا من ذلك تفصيل يقع في موضعه مما تستقبل من هذا الكتاب؛ ولكنا نُنبهك إلى ما قسمناه لك من الرأي في هذا
الموضع، وما تكلفناه من الخُطة في هذا التأليف، فإنا لم نسقط عنك كل المؤنة، ولم نعطك إلى حد الكفاية التي تورِث الاستغناء، بل نهجنا لك سبيلًا إلى الفكر تتقدم أنت فيه، وأعنَّاك على جهة
في النظر تبلغ ما وراءها، وتركنا لك متنفسًا من الأمر تعرف أنت فيه نفسك، وجمعنا لك بالحرص والكد ما إن تدبرتهُ وأحسنتَ في اعتباره وأجريته على حقه من التثبت والتعرف، كان لك منْبهَة إلى
سائره، ومادة فيما يَجيشُ إليك من الخواطر التي لن تبرح يُنمي بعضها بعضًا.
ولسنا نزعم - حفظك الله - أن كتابنا هذا على ضعفه وقلة الحشد فيه قد أحاط بوجوه الإعجاز من كتاب الله، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنا لم ندع من ذلك لغيرنا ما يرفعه أو يضعهُ وما ينقصه أو يَتمّه، فإن من ادعى ذلك زعم باطلًا، وأكبر القولَ فيما زعم وبلغ
بنفسه لعَمري مبلغًا من السرَفِ لا قصدَ معه في التهمة له وسوءِ الظن به، ودعا إليه من النكير ما لا قِبلَ له برده أو بَسطِ العذر فيه، وكان خليقًا أن يكون قد جاء ببهتان يفتريه بين يديه، وأن يكون
ممن لا يَتحاشَؤن الكذب الصرف، ولا يضنون بكرامتهم على الألسنة.
فإن مكارهَ هذا البحث مما
لا يسعة طوق إنسان وإن أسرف على نفسه من القهرِ، ولا يَصلب عليه قلمُ كاتب وإن كان هذا القلم في يد الدهر، ولا بدَّ للباحث في أوله من فلتات الضجر، وإن اعتد، وفي أثنائه من سقطات العزم وإن اشتد، وفي آخره من العجز والانقطاع دون الحد.
على أنا مع ذلك استفرغنا الهمَّ، والتمسنا كل ملتمس، وبَرئنا إلى النفس من تبعة التقصير فيما يبلغ إليه الذرع أو تناله الحيلة، فنهضنا لذلك الأمر نَهضًا وسَبكنا فيه سبكًا مَحضًا، فإن قصرنا فضعف ساقه العجز إلينا، وإن قاربنا فذلك من فضل الله علينا.
وبعد فإنا نقول: إنه لا بد لمن ينظر في كتابنا من إطالة الفكر والتأمل.
فإن ذلك يحدث له روية، وتنشئ له الروية أسبابًا إلى الخواطر، وتفتح عليه الخواطر أبوابًا من النظر، ويهديه النظر
إلى الاستنباط والاستخراج، فإن وقع دون هذه الغاية فحظه من القراء حيث يقع، وإن بلغها فهناك مَداخل الحجج ومخارجها، وتصاريف الأدلة ومدارجها، ثم الإفضاءُ إلى مذاهب الحكمة على ما اشتهى، ثم الانتهاءُ حيث ترى كل حكيم انتهى.
1 / 22
القُرآن
آيات منزلة من حول العرش، فالأرض بها سماء هي منها كواكب، بل الجند الإلهي قد نشر له من الفضيلة علم وانضوت إليه من الأرواح مواكب، أغلقت دونه القلوب فاقتحم أقفالها،
وامتنعت عليها أعراف " الضمائر فابتز " أنفالها".
وكم صدوا عن سبيله صدًا، ومن ذا يدافع
السيل إذا هدر؛ واعترضوه بالألسنة ردا، ولعمري من يرد على الله القدر؟ وتخاطروا له بسفهائهم كما تخاطرت الفحول بأذناب وفتحوا عليه من الحوادث كل شدق فيه من كل داهية ناب.
فما كان إلا نور الشمس: لا يزال الجاهل يطمع في سرابه ثم لا يضع منه قطرة في سقائه، ويلقي الصبي غطاءه ليخفيه بحجابه ثم لا يزال النور يتبسط على غطائه.
وهو القرآن كم ظنوا - مما انطوى
تحت ألسنتهم وانتشر - كل ظن في الحقيقة آثم، بل كل ظن بالحقيقة كافر، وحسبوه أمرًا هينًا لأنه أنزل في الأرض على بشر.
كما يحسب الأحمق في هذا السماء أرضًا ذات دواب نورانية لأن
هلالها كأنما سقط من حافر، وكم أبرقوا وأرعدوا حتى سالَ بهم وبصاحبهم السيل، وأثاروا من الباطل في بيضاء ليلها كنهارها ليجعلوا نهارها كالليل، فما كان لهم إلا ما قال الله: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) .
***
ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة، تذكر الدنيا
فمنها عمادها ونظامها وتصف الآخرة فمنها جنتها وصرامها، ومتى وعدت من كرم الله جعلت الثغور تضحك في وجوه الغيوب وإن أوعدت بعذاب الله جعلت الألسنة ترعَد من حمى القلوب.
ومعان بينا هي عذوبة ترويك من ماء البيان، ورقة تستروح منها نسيم الجنان، ونور تبصر به في مرآة الإيمان وجه الأمان. . .
وبينا هي ترف بندى الحياة على زهرة الضمير، وتخلق في أوراقها
من معاني العبرة معنى العبير، وتهب عليها بأنفس الرحمة فتَنِم بسر هذا العالم الصغير. . .
ثم بينا هي تتساقط من الأفواه تساقط الدموع من الأجفان، وتدع القلب من الخشوع كأنه جنازة ينوح
عليها اللسان، وتمثل للمذنب حقيقة الإنسانية حتى يظن أنه صنف آخر من الإنسان - إذ هي بعد ذلك إطباق السحاب وقد انهارت قَواعده والتمعَت ناره وقصفت في الجو رواعده، وإذ هي السماء
1 / 23
وقد أخذت على الأرض ذنبَها، واستأذنت في صدمة الفزع ربها، فكادت ترجف الراجفة تتبعها
الرادفة: وإنَّما هي عند ذلك زجرة واحدة: فإذا الخلق طعام الفناء وإذا الأرض " مائدة ".
* * *
توهموا السحر ما توهموه، فلما أنزل الله كتابه قالوا: هذا هو السحر المبين. وكانوا يأخذون في ذلك بباطن الظن فأخذوا هذا بحق اليقين (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (١٥) .
ومن الشعر ما تسمعونه أم أنتم لا تسمعون؛ بل إنه لسحر يغلب حتى يفرق بين المرء وعادته، وينفذ حتى ينصرف
بين القلب وإرادته. ويجري في الخواطر كما تصعد في الشجر قطرات الماء، ويتصل بالروح فإنما
يمد لها بسبب إلى السماء، وإنَّه لسحر، إذ هو ألحاظ لم تعهد كلم أحداقها، وثمرات لم تنبت في قلم أوراقُها، ونوز عليه رونَقُ الماء فكأنما اشتعلت به الغيوم، وماء يتلألأ كالنور فكأنما عصر من
النجوم (١)، وبلى إنه لشعر ولكن زنة مبانيه في معانيه، وزينة معانيه في مبانيه، فكل معنى ولا جرم
من بحر، وكل لفظ كلؤلؤة في النحر، وإنَّه لشعر، إذ هو آيات لا يجانس كلامها البديعُ غيرَ كمالها، وحقيقة في الوجود لم يكن يعرت غير خيالها، ومرآة في يد الله تقابل كل روح بمثالها.
* * *
يقولون مجنون بعض آلهتنا اعتراه، وأساطير الأولين اكتتبها أم يقولون افتراه، بلى إن العقل الكبير في كماله ليتمثلُ في العقول الصغيرة كأنه جنون، وإن النجم المنير فوق هلاله ليظهر
في العيون القصيرة كأنه نقطة فوق نون، وهل رأوا إلا كلامًا تضيء ألفاظه كالمصابيح، فعصفوا عليه بأفواههم كما تعصف الريح يريدون أن يطفئوا نور الله وأين سراجُ النجم من نفخة ترتفع إليه
كأنما تذهب تُطفيه، ونور القمر من كف يحسب صاحبها أنها في حجمه فيرفعها كأنما يخفيه!
وهيهات هيهات دون ذلك درْجُ الشمس وهي أم الحياة في كفَن، وإنزالها بالأيدي وهي روح النار في قبر من كهوف الزمن.
لا جَرَمَ أن القرآن سر السماء فهو نور الله في أفق الدنيا حتى تزول.
ومعنى الخلود في دولة الأرض إلى أن تدول، وكذلك تمادى العرب في طغيانهم يعمهون، وظلت آياته تلقف ما يأفكون،
فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون.
فصل
وبعد، فإنا سنقول في القرآن الكريم مما يتعلق بلغته ويتصل ببلاغته ويكشف عن أوجه الإعجاز في ذلك، لا ننفذ في غير سبب لما نحن بسبيله، ولا نذهب في الكلام عن نتيجة من
_________
(١) المراد بهذا الفصل تصوير ما يناسب التخييل السحري كما أن الفصل الذي يليه يرمي إلى ما يتعلق بمثل ذلك في الشعر.
1 / 24
نتائجه.
ولا يكون من شأننا أن نتزيد بما ينزل من غرضنا منزلة القافية، أو نتكثر مما وراءه بمثبتة أو نافية، فإن هذا القرآن ما زال يهدي للتي هي أقوم، وإن النول فيه ما برح كثير المذاهب متعدد
الجهات متصل الحدود يفضي بعضها إلى بعض، إذ هو كتاب السماء إلى الأرض مُستقرا ومُستودعًا، وقد جاء بالإعجاز الأبدي الذي يشهد على الدهر ويشهد الدهر عليه، فما من جهة من
الكلام وفنونه إلا وأنت واجد إليها متوَجهًا فيه، وما من عصر إلا وهو مقلب صفحة منه حتى
لتنتهي الدنيا عند خاتمته فإذا هي خلاءُ " من الجنة والناس ".
ولقد أراد الله أن لا تضعف قوة هذا الكتاب، وأن لا يكون في أمره على تقادم الزمن خَضغ أو تَطامن، فجاءت هذه القوة فيه بأسبابها المختلفة على مقدار ما أراد، وهي قوة الخلود
الأرضي التي خرج بها القرآن مخرج الشذوذ الطبيعي، فلا سبيل عليه ليد الزمن وحوادثه مما تُبليه أو تستجدُّه، إنما هو روحٌ من أمر الله تعالى هو نزله وهو يحفظه، وقد قال سبحانه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩) .
(فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) .
بَيدَ أنه لا بد لنا من صدر نبتدئ به القولَ في تاريخه وجمعه وتدوينه وقراءته حتى تكون هذه سببًا إلى الكلام في لغته وبلاغته، ثم إعجازه في اللغة والبلاغة، لأن بعض ذلك يريد بعضه،
ونحن نستعين الله ونستمده ونستكفيه، فإن في يده مفتاحَ هذا الباب المغلق وما زال الناس قديمًا يأخذون في ناحيته ويختلفون إليه ويعتزمون في ذلك. وقليل منهم من وصل. وقليل من هؤلاء من
اتصل، فاللهم عَونَكَ وتيسيرَك.
1 / 25
تاريخ القُرآن
جمعُه وتدوينه
أنزل هذا القرآن مُنَجمًا في بضع وعشرين سنة، فربما نزلت الآية المفردة، وربما نزلت آيات عدة إلى عشر، كما صح عن أهل الحديث فيما انتهى إليهم من طرق الرواية، وذلك بحسب
الحاجة التي تكون سببًا في النزول، وليثبت به فؤاد النبي ﷺ، فإن آياته كالزلازل الروحية، ثم
ليكون ذلك أشد على العرب وأبلغ الحجة عليهم وأظهر لوجه إعجازه وأدعى لأن يجري أمره في مناقلاتهم ويثبت في ألسنتهم ويتسلسل به القول.
ولولا نزوله متفرقًا: آية واحدة إلى آيات قليلة، ما أفحمهم الدليل في تحديهم بأقصر سورة منه. إذ لو أنزل جملة واحدة كما سألوا لكان لهم في ذلك وجه من العذر يُلبِس الحق بالباطل،
وينفس عليهم أمر الإعجاز. ويهون في أنفسهم من الجملة بعضَ ما لا يهون من التفصيل، لأنهم قوم لا يقرأون ولا يَتدارَسون، ولكن الآية أو الآيات القصيرة تنزل في زمن يعرفون مقداره بما ينزل
في عقبها ثم هم يعجزون عن مثلها في مثل هذا الزمن بعينه، وفيما يربو عليه ويُضعِف، وعلى
انفساح المدة وتراخي الأيام بعد ذلك إلى نفس من الدهر طويل - أمر هو يشبه في مذهب الإعجاز
أن يكون دليل التاريخ عليه وأنه ليس في طبعهم ألبتةَ لا قوة ولا حيلة، فإن العجز عن صنع المادة
لا يثبت في التاريخ إلا إذا ثبتت مدة صنعها على وجه التعيين بأي قرينة من القرائن التاريخية.
وبخاصة إذا اعتبرتَ أن أكثر ما أنزل في ابتداء الوحي واستمر بعد ذلك من لَدُن كان رسول الله ﷺ يأتي حراء فيتحنثُ فيه الليالي، إلى أن هاجر من مكة - إنما هو من قصار السور،
على نَسق يترقى إلى الطول في بعض جهاته. وذلك ولا ريب مما تتهيأ فيه المعارضة بادئ الرأي
إذا كانت ممكنة، لأنه مفصَّل آيات، ثم لقرب غايته ممن ينشط إلى معارضته والأخذ في طريقته،
دون ما يكون ممتد النسق بعيد الغاية، فتصدفُ النفس عن جملته الطويلة، ويُخلف نشاطها فيه لأن
للقوة النفسية حدًا إذا حملت على ما وراءه كان من طبعها أن تنتهي إلى ما دونه، وهذا أمر يعرفه من يرى شاعرًا يَعذ أبيات القصيدة الرائعة قبل أن يقرأها، أو كاتبًا يظر في أعقاب الرسالة الجيدة
ولما يأخذ في أوائلها. وهلمَّ مما يجري هذا المجرى.
وقد كان ابتداء الوحي في سنة ٦١١ للميلاد بمكة، ثم هاجر منها النبي ﷺ في سنة ٦٢٢
إلى المدينة، فنزل القرآن مكيًا ومدنيًا.
وقد اختلفت الروايات في آخر آية نزلت وتاريخ نزولها،
1 / 26
وفي بعضها أن ذلك كان قبل موته ﵇ بأحد وثمانين يومًا، في سنة إحدى عشرة للهجرة،
وأي ذي كان فإن مدة نزول القرآن توفي على العشرين سنة. وإنَّما هي الحكمة التي أومأنا إليها في مذهب إعجازه، وحكمة أخرى معها: وهي استدراج العرب وتصريف أنفسهم بأوامره ونواهيه على
حسب النوازل وكفاءَ الحادثات، ليكون تحؤلهم أشبه بالسنة الطبيعية كما ينمو الحي من باطنه.
وسيقع تفصيل هذا المعنى فيما يأتي:
وكان بعض الصحابة يكتبون ما ينزل من القرآن ابتداء من أنفسهم، أو بأمر من النبي ﷺ
فيخطونه على ما اتفق لهم يومئذ من العُسُب والكرانيف واللخاف والرقاع وقطع الأديم وعظام الأكتاف والأضلاع من الشاة والإبل، وكل ما أصابوا من مثلها مما يصلح لغرضهم، يكتب كل
منهم ما تيسر له أو يسرته أحواله. ولكن ما ليس فيه ريب أن منهم قومًا جمعوا القرآن كله لذلك
العهد، وقد اختلفوا في تعيينهم، بيد أنهم أجمعوا على نفر، منهم: علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وهؤلاء كانوا مادة هذا الأمر من
بعدُ، فإن المصاحف حتى اختصت بالثقة كانت ثلاثة: مصحف ابن مسعود، ومصحف أبي، ومصحف زيد، وكلهم قَرَأ القرآن وعَرَضه على النبي ﷺ، فأما ابن مسعود فقرأ بمكة وعرض
هناك، وأما أبي فإنه قرأ بعد الهجرة وعرض في ذلك الوقت، وأما زيد فقرأه بعدهما وكان عرضه
متأخرًا عن الجميع، وهو آخر العرض إذ كان في سنة وفاته ﷺ وبقراءته كان يقرأ عليه الصلاة
والسلام وكان يصلي إلى أن لحق بربه، ولذلك اختار المسلمون ما كان آخر كما ستعرفه.
أما علي بن أبي طالب فقد ذكروا أن له مصحفًا جمعه لما رأى من الناس طيرةَ عند وفاة النبي ﷺ.
وفي " الفهرست " لابن النديم أنه رأى عند أبي يعلى حمزة الحسيني مصحفًا بخط علي يتوارثه بنو حسن، ونحن نحسب ذلك خبرًا شيعيًا، لأنه غير شائع. . .
وقبض رسول الله ﷺ والقرآن في الصدور، وفيما كتبوه عليه، ثم نهض أبو بكر بأمر
الإسلام، وكانت في مدّته حروب أهل الردة، ومنها غزوة أهل اليمامة، والمحاربون أكثرهم من
الصحابة ومن القراء، فقتل في هذه الغزوة وحدها سبعون قارئًا من الصحابة (ويقال سبعمائة)،
وكان قد قتل منهم مثل هذا العدد ببئر مَعُونة في عهد النبي ﷺ، فهال ذلك عمرَ بن الخطاب،
فدخل على أبي بكر رحمهما الله فقال: إن أصحاب رسول الله ﷺ باليمامة يتهافتون تهافُتَ الفَراش
في النار، وإني أخشى أن لا يشهدوا موطنًا إلا فعلوا ذلك حتى يُقتلوا، وهم حَمَلة القرآن، فيضيع القرآن وُينسى ولو جمعتَه وكتبته! فنفر منها أبو بكر، وقال: أفعلُ ما لم يفعل رسول الله ﷺ؟
فتراجعا في ذلك، ثم أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت. قال زيد: فدخلت عليه وعمرُ مُسربَل؛
1 / 27
فقال لي أبو بكر: إن هذا قد دعاني إلى أمر فأبيت عليه؛ وأنت كاتب الوحي، فإن تكن معه اتبعتكما، وإن توافقني لا أفعلُ، فاقتص أبو بكر قولَ عمرَ وعمرُ ساكت، فنفرتُ من ذلك،
وقلتُ: يفعل ما يفعل رسول الله ﷺ؟ إلى أن قال عمر كلمة: وما عليكما لو فعلتما ذلك؟ فذهبنا
ننظر، فقلنا: لا شيء والله، ما علينا في ذلك شيء.
وقال زيد: فأمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأدَم وكسَر الأكتاف والعُسُب.
وهذا الذي فعله أبو بكر كأنما استحيا به طائفة من القراء الذين استَحَر بهم القتل بعد ذلك في المواطن التي شهدوها، ولم يعْد به ما وصفنا، ولذا بقي ما اكتتبه زيد نسخة واحدة، وهو قد
تتبع ما فيها من الرقاع والعُسب واللخاف ومن صدور الرجال، إنما ائتمنه أبو بكر لأنه حافظ،
ولأنه من كتبة الوحي، ثم لأنه صاحب العَرضَة الأخيرة؛ وربما كان قد أعانه بغيره في الجمع والتتبع؛ فإن في بعض الروايات أن سالمًا مولى أبي حذيفةَ كان أحد الجامعين بأمر أبي بكر، أما
الكتابة فهي لزيد بالإجماع.
وبقيت تلك الصحف عند أبي بكر ينتظرُ بها وقتها أن يحين، حتى إذا توفي سنة ١٣ هـ
صارت بعده إلى عمر، فكانت عنده حتى مات، ثم كانت عند حَفصة ابنته صدرًا من ولاية عثمان،
ويومئذ اتسعت الفتوح وتفرق المسلمون في الأمصار، فأخذ أهل كل مصر عن رجل من بقية القراء.
فأهل دِمَشق وحمص أخذوا عن المقداد بن الأسود، وأهل الكوفة عن ابن مسعود، وأهل البصرة عن أبي موسى الأشعري - وكانوا يسمون مصحفه لباب القلوب - وقرأ كثير من أهل الشام
بقراءة أبي بن كعب، وكانت وجوه القراءة التي يؤدَّى بها القرآن مختلفة باختلاف الأحرف التي نزل
عليها، كما سيمر بك، فكان الذي يسمع هذا الاختلاف من أهل تلك الأمصار - إذا احتوتهم المجامع أو التقوا في المواطن على جهاد أعدائهم - يعجب من ذلك أن تكون هذه الوجوه كلها
على اختلاف ما بينها في كلام واحد، فإذا علم أن جميع القراءات مُسندة إلى رسول الله ﷺ وأنه
أجازها، لا يمنع أن يَحيك في صدره بعض الشك وأن ينطويَ منها على شيء. وإذا هو كان قد نشأ بعد زمن الدعوة وبعد أن اجتمع العرب على كلمة واحدة، فلا يلبث أن يجري دْلك الاختلاف
مجرى مثله من سائر الكلام، فيرى بعضه خيرًا من بعضه، ويظن منه الصريحَ والمدخولَ والعالي والنازل، والأفصح والفصيح، وأشباه ذلكَ، ويعتد ما يراه في القرآن من القرآن، وهذا أمر إن هو
استفاض فيهم ثم مَرَدُوا عليه خرجوا منه ولا ريب إلى المناقضة والملاحاة وإلى أن يرد بعضهم إلى بعض هذا يقول: قراءتي وما أخذت به وذلك يقول: بل قراءتي وما أنا عليه! وليس من وراء هذا
اللجاج إلا التكفير والتأثيم، ولا جرَمَ أنها الفتنة لا تفتأ بعد ذلك من دم.
ولقد نجمت هذه الناشئة يومئذ، فلما كانت غزوة إرمينية، وغزوة أذربيجان، كان فيمن غزاهما مع أهل العراق حذيفة بن اليمان، فرأى كثرة اختلاف المسلمين في وجوه القراءة، أنهم لا يجرون من ذلك على أصل في الفطرة اللغوية كما كان العرب يقرأون بلحونهم، ورأى ما يبدر على
1 / 28
ألسنتهم حين يأتي كل فريق منهم بما لم يسمع من غيره، إذ يتمارَؤن فيه حتى يكفر بعضهم بعضًا،
ولم يرَ عندهم نكيرًا لذلك ولا إكبارًا له، بل كانوا قد ألفوه بين أنفسهم، وصار من عاداتهم
وأمرهم، ففزع إلى عثمان فأخبرَه بالذي رأى، وكان عثمان قد رفع إليه أن شيئًا من ذلك يكون بين
المسلمين الذي يُقرئون الصبية ويأخذونهم بحفظ القرآن فينشأون وبهم من الخلاف بعضهم على
بعض، فأعظمَ ﵀ أمرَ هذه الفتنة، وأكبره الصحابة جميعًا، لأن الاختلاف في كتاب الله
مَدرَجَة إلى مخالفة ما فيه، ومتى أهملوا بعض معانيه لم يكن بد أن يتصرفوا ببعض ألفاظه، وإنما
هو اجتراء واحد فيوشِك أن يكون ذلكَ مساغ للتحريف والتبديل، فأجمعوا أمرهم أن ينتسخوا الصحفَ الأولى التي كانت عند أبي بكر، وأن يأخذوا الناس بها ويجمعوهم عليها، حذَارَ تلك
الردة المشتبهة، وإشفاقًا على الناس إن يصيروا كلما رُدْوا إلى الفتنة أركِسوا فيها، فأرسل عثمان
إلى حفصة فبعثت إليه بتلك الصحف، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت، وإلى عبد الله بن الزبير،
وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فامرهم أن ينسخوها في المصاحف ثم
قال للرهط القرشيين الثلاثة: ما اختلفتم فيه أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش فإنه بلسانهم.
قال زيد - في بعض الروايات عنه -: فلما فرغتُ عرضتُهُ عرضة فلم أجد فيه هذه الآية: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (٢٣) .
قال: فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنها، فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدها عند خُزيمة - يعني ابن ثابت - فكتبتها " ثم
عرضته عرضة أخرى فلم أجد فيه هاتين الآيتين: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) - إلى آخر السورة فاستعرضت المهاجرين فلم أجدها عند أحد
منهم، ثم استعرضت الأنصار أسالهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها مع رجل آخر
1 / 29
يدعى خزيمة أيضًا فأثبتها في آخر براءة ولو تمت ثلاث آيات لجعلها سورة على حدة، ثم عرضته
عرضة أخرى فلم أجد فيه شيئًا، ثم أرسل عثمان إلى حفصة يسألها أن تعطيه الصحيفة، وحلف لها
ليرُدنها إليها فأعطته فعرض المصحف عليها فلم يختلف في شيء، فردها إليها وطابت نفسه، وأمر
الناس أن يكتبوا مصاحف، فلما ماتت حفصة أرسل إلى عبد الله بن عمر في الصحيفة بعزمه
فأعطاهم إياهم فغسلت غسلًا.
قلنا: وكلام زيد نص قاطع في أنه كان يحفظ القرآن كله، لم يذهب عنه شيء منه، إذ كان
يعرض ما في الصحف على ما رُبط في صدره وثبت في حفظه، ثم هو نص كذلك على أن زيدًا
كان لا يكتفي بنفسه بل يذهب يستعرض الناس حتى يجد من يؤدي إليه، كيلا ينفرد هو بالحفظ خشيةَ أن يكون موضع ظِنة وإن كان الصحابة ﵃ قد أجمعوا على الثقة به، فلم
يثبت ما أثبته إلا بشاهدين: أحدهما من حفظ غيره. والآخر من حفظه.
ثم بعث في كل أفق بمصر من تلك المصاحف، وكانت سبعة - في قول مشهور - فأرسل
منها إلى مكة، والشام، واليمن، والبحرين، والبصرة، والكوفة.
وحبس بالمدينة واحدًا، وهو مصحفه الذي يسمى الإمام ثم أمر بما عدا ذلك من صحيفة أو مصحف أن يحرق، ولم يجعل
في عزيمته تلك رخصة سائغة لأحد. وكان جمع عثمان في سنة ٢٥ للهجرة.
وإنما أراد عثمان بذلك حَسم مادة الاختلاف، لأنه أمر يمد مع الزمن وتنشعب الأيام به.
وهو إن أمن في عصره لم يَدْر ما يكون بعد عصره، وقد أدرك أن العرب لا يستمرون عربًا على الاختلاف والفتوح، وأن الألسنة تنتقل، واللغات تختلف. ثم هو رأى ما وقع في الشعر وروايته،
وأن الاختلاف كان بابًا إلى الزيادة والابتداع، فلم يفعل شيئًا أكثر من أنه حَصَّن القرآن وأحكم الأسوار حوله، ومنع الزمن أن يتطرق إليه بشيء، وجعله بذلك فوق الزمن.
ولم تكن المصاحف التي كتبت قبل مصحف عثمان على هذا الترتيب المعروف في السور إلى اليوم. فإنما هو ترتيب عثمان أما فيما وراء ذلك فقد رووا أن رسول الله ﷺ كان إذا نزلت
سورة دعا بعض من يكتب فقال: ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا، فكان
القرآن مرتب الآيات، غير أنه لم يكن مجموعًا بين دفتين، فلا يؤمن أن يضطرب نَسق مجموعه في أيدي الناس باضطراب القطع التي كتب فيها تقديمًا وتأخيرًا: ولم يلزم الناس القراءة يومئذ بتوالي
السور، وذلك أن الواحد منهم إذا حفظ سورة أو كتبها ثم خرج في سرية فنزلت سورة أخرى
1 / 30
فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه، وكتابته، ويتبع ما فاته على حسب ما تسَهَّلَ له أكثره أو قله، فمن ثم يقع فيما يكتبه تأخير المقدم وتقديم المؤخر، فلما جمعه أبو بكر برأي
عمر كتبوه على ما وقَفَهم عليه رسول الله ﷺ، ثم كانوا في أيام عمر يكتبون بعض المصاحف
منتسقة السور على ترتيب ابن مسعود، وترتيب أبي بن كعب، وكلاهما قد سرده ابن النديم في كتابه (الفهرست)،
وقال ابن فارس: إن السور في مصحف علي كانت مرتبة على النزول، فكان أوله سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)، ثم المدثر، ثم المزمل، ثم تبَّت، ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكي والمدني، ولا حاجة بنا أن نتع في استقصاء هذا الخلاف.
أما ترتيب مصحف عثمان فهو نسق زيد بن ثابت. وهو صاحب العرضة الأخيرة ولعله كان ترتيب مصحف أبي بكر أيضًا، لما مرَّ في الرواية عن زيد من أنه قابل بين الاثنين معارضة، والله أعلم.
ولم يكن بعد انتشار المصاحف العثمانية وانتساخها على هيئتها إلا أن استوثقت الأمة على
ذلك بالطاعة وأحرق كل امرئ ما كان عنده مما يخالفها ترتيبًا أو قراءة، وأطَبق المسلمون على
ذلك النسق وذلك الحرف، ثم أقبلوا يجدون في إخراجها وانتساخها.
ولقد روى المسعودي أنه رُفع من عسكر معاوية في واقعة صفين نحو من خمسمائة مصحف، وهي الخُدعة المشهورة التي
أشار بها عمرو بن العاص في تلك الواقعة، ولم يكن بين جمع عثمان إلى يوم صفين إلا سبع سنوات.
وهنا أمر لا مذهبَ لنا دون التنبيه عليه، وذلك أن جمع القرآن كان استقصاء لما كتب،
1 / 31
واستيعابًا لما في الصدور، فكانوا لا يقبلون إلا بشهادة قد امتحنوها، أو حلف قد وثقوا من صاحبه، وإلا بعد العرض على من جمعوا وعرضوا على رسول الله ﷺ. فإن الصحابة كانوا
يحسنون التهجي، وقد يكتبون ما يقرأون على وجه من وجوه الكتابة، أو يكتبون بحرف من القراءات، كالذي رواه ابن فارس بسنده عن هانئ قال: كتبت عند عثمان رضي الله تعالى عنه
وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتِف شاة إلى أبي بن كعب فيها
(لم يَتسَن) و(فأمهل الكافرين)، و(لا تبديل للخلق) قال: فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين، وكتب " لخلق الله " - ومحا
" فأمهل " وكتب (فمهل) وكتب (يَتسَنه) ألحق فيها هاء والقراءة على هذا الرسم.
فذهب جماعة من أهل الكلام ممن لا صناعة لهم إلا الظن والتأويل، واستخراجُ الأساليب الجدَلية من كل حكم وكل قول " إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء، حملا على ما وصفوا من كيفية جمعه، وهو باطل من الظن، لما علمته من أنباء حَفَظته الذين جمعوه وعرضوه،
ثم لما رأيت من تثبتهم في ذلك حتى جُمعت لهم الصحة من أطرافها، ثم لإجماع الجم الغفير من الصحابة على أن ما بين دفتي المصحف هو الذي تلقوه عن رسول الله ﷺ لم يأته الباطل من بين
يديه ولا من خلفه، ولا اقتطع منه الباطلُ شيئًا.
ونحن فما رأينا الروايات تختلف في شيء من الأشياء فضلَ اختلاف، وتتسَنم في الروايات والتأويل كل طريق وعر؛ كما رأينا من أمرها فيما عدا نصوص ألفاظ القرآن، فإن هذه الألفاظ متواترة إجماعًا لا يَتدارأ فيها الرواة، مَن علا منهم ومَن نزل، وإنما كان ذلك لأن القرآن أصل هو
الدين وما اختلفوا فيه إلا من بعد اتساع الفتن؛ وتألب الأحداث وحين رجع بعض الناس من النفيس
إلى أشد من الأعرابية الأولى، وراغ أكثرهم عن موقع اليقين من نفسه، فاجترأوا على حدود الله
وضربتهم الفتنُ والشبهات مقبلًا بمدبر ومدبرًا بمقبل. فصار كل نزع إلى الاختلاف، يريد أن يحمل
من القرآن ما يختلف معه أو يختلف به، وهيهات ذلك إلا أن يَتَدسس في الرواية بمكروه يكون
معه التأويل والأباطيل، وإلا أن يفتح الكلمة السيئة ويبالغ في الحمل على ذمته والعنف بها فهي
أشياء لا ترد إلى الله ولا إلى الرسول، ولا يعرفها الذين يستنبطون من الحق، بل لا يعرفون لها من الحق وجهًا.
ونحسب أن أكثر ذلك مما افترته الملحِدة وتزيْدت به الفئة الغالية، وهم فرق كثيرة يختلفون فيه بغيًا بينهم، وكلهم يرجع إلى القرآن بزعمه ويرى فيه حجته على مذهبه وبَينتَه على دعواه
1 / 32
ثم أهل الزيغ والعصبية لآرائهم في الحق والباطل، ثم ضعاف الرواة ممن لا يميزون أو ممن تعارضهم الغفلة في التمييز، وذلك سواء كله ظلمات بعضها فوق بعض، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) .
وقد وردت روايات قليلة في أشياء زعموا أنها كانت قرآنًا ورفع. على أن
رسول الله ﷺ كان يقرر الأحكام عن ربه إذا لم ينزل بها قرآن، لأن السنة كانت تأتي مأتاه، ولذلك
قال ﵊: " أوتيت الكتاب ومثلَه معه " يعني السنن.
وعلى هذا الحديث يخرج في رأينا كل ما رووه مما حسبوه كان قرآنًا فرفع وبطلت تلاوته على قلة ذلك إن صح. لأنه يكون وحيًا، وليس كل وحي بقرآن، على أن ما ورد من ذلك ورد
معه اضطرابهم فيه وضعف وزنه في الرواية، وأكبر ظنًا أنها روايات متأخرة من محدثات الأمور،
وأن في هذه المحدثات لما هو أشد منها وأجدى بشؤمه. ولو كان من تلك شيء في العهد الأول
لرويت معها أقوال أخرى لأئمة الإثبات الذين كان إليهم المفزعُ من أصحاب رسول الله ﷺ وهم
كانوا يومثذ متوافرين، وكلهم مُقرن لذلك قوي عليه؛ وكانوا يعلمون أن المراء في القرآن كفر وردة، وإن إنكار بعضه كإنكاره جملة، وإن أجمعوا على ما في مصحف عثمان وأعطوه بَذلَ ألسنتهم في الشهادة، أي قوتها، وما استطاعت من تصديق.
ونحن من جهتنا نمنع كل المنع، ولا نعبأ أن يقال إنه ذهب من القرآن شيء، وإن تأولوا لذلك وتمحلوا، وإن أسندوا الرواية إلى جبريل وميكائيل ونعتد ذلك السوأة الصلعاء التي لا يرحُضها من جاء بها ولا يغسلها عن رأسه بعد قوله الله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) أفترى باطلهم جاءه من فوقه إذن؟ . .
ولا يتوهمن أحد أن نسبة بعض القول إلى الصحابة نص في أن ذلك القول الصحيح ألبتة،
فإن الصحابة غير معصومين، وقد جاءت روايات صحيحة بها أخطأ فيه بعضهم من فهم أشياء من
القرآن على عهد رسول الله ﷺ وذلك العهد هو ما هو، ثم بما وَهِل عنه بعضهم مما تحدثوا من
أحاديثه الشريفة، فأخطاوا في فهم ما سمعوا، ونقلنا في باب الرواية من تاريخ آداب العرب أن بعضهم كان يرد على بعض فيما يشبه لهم أنه الصواب خوف أن يكونوا قد وهموا.
وثبت أن عمر ﵁ شك في حديث فاطمة بنت قيس، بل شك في حديث عمار بن ياسر في التيمم لخوف الوهم، مع أن عمارًا ممن لا يتهم بتعمد الكذب، ولا بالكذب وهلة،
لصحبته وسابقته مع رسول الله ﷺ ولذلك أذن له عمر في رواية هذا الحديث مع شكه هو في صحته.
1 / 33
على أن تلك الروايات القليلة إن صحت أسانيدها أو لم تصح: فهي على ضعفها وقلتها مما لا حفل به؛ ما دام إلى جانبها إجماعُ الأمة وتظاهر الروايات الصحيحة وتواتر النقل والأداء على التوثيق.
وبعد فما تلك الردة التي كانت بعد وفاة رسول الله ﷺ والفتن التي تعاقبت والأحداث التي
استفاضت، والانشقاق الذي ارفضت به عصا الإسلام - بأقل شأنًا ولا أضعف خطرًا من هذا كله
ومثله معه من ضروب الأقاويل؛ حتى لا يقتحم مجترئ ولا يستهدف مفتر ولا يبالغ مبطل ولا ينحرف متأول، وحتى لا يروى من أشباه ذلك دقيق أو جليل؛ وإنَّما قياس الباطل بالعلم الحق،
وقياس الظن باليقين الثقة، وأنت تعلم أن كل ما رووه لم يأت من قِبَل الإجماع، وليس له من هذه
الحجة مادة ولا قوة، ولو أن الأمر كان إلى الرأي والنظر لقلنا: لعله ولعلنا، ولكنها الرواية وملاكها، والأدلة واشتراكها (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ) .
1 / 34
القراءة وطرق الأداء
وهذا الفصل مما نتأذى به إلى الكلام في لغة القرآن، فهو سبيلنا إليها في نَسق التأليف، إذ القراءة والأداء أمران يتعلقان باللفظ ويبنيان على وجوه اللغة التي قام بها.
وليس من همنا فيما نأتي به إلا نقضي حق التاريخ اللغوي، منصرفين ما وَسعنا الانصراف عن الجهة الفنية التي هي جانب من علمي القراءات والتجويد، فإن الكلام في هذه الجهة يتسع،
وهو غير ما نحن فيه، وما زالت الجهة الفنية من كل علم هي فرغ من أصله في التاريخ.
نزل القرآن على رسول الله ﷺ بأفصح ما تسمو إليه لغة العرب في خصائصها العجيبة وما
تقوم به، مما هو السبب في جزالتها ودقة أوضاعها وإحكام نظمها واجتماعها من ذلك على تأليف صوتي يكاد يكون موسيقيًا محضًا، في التركيب، والتناسب بين أجراس الحروف والملاءمة بين طبيعة المعنى وطبيعة الصوت الذي يؤديه، كما بيناه في بابه من الجزء الأول
فكان مما لا بدَّ منه بالضرورة أن يكون القرآن أملكَ بهذه الصفات كلها، وأن يكون ذلك التأليف
أظهرَ الوجوهِ التي نزل عليها، ثم أن تتعدد فيه مناحي هذا التأليف تعددًا يكافئ الفروع اللسانية
التي سبقت بها فطرة اللغة في العرب، حتى يستطيع كل عربي أن يوقع بأحرفه وكلماته على لحنه الفطري ولهجة قومه، توقيعًا يطلق من نفسه الأصوات الموسيقية التي يشيع بها الطرب في
هذه النفس، بما يسمونه في لغة العرب بيانًا وفصاحة. وهو في لغة الحقيقة الموسيقى اللغوية.
وإذا تم هذا النظم للقرآن مع بقاء الإعجاز الذي تحدى به، ومع اليأس من معارضته،
على ما يكون في نظمه من تقلب الصور اللفظية في بعض الأحرف والكلمات بحسب ما يلائم تلك الأحوال في مناطق العرب، فقد تم له التمام كله، وصار إعجازه إعجازًا للفطرة اللغوية في
نفسها حيث كانت وكيف ظهرت ومهما يكن من أمرها: ومتى كان العجز فطريًا فقد ثبت بطبيعته، وإن لجَّ فيه الناس جميعًا، لأنه شيء في تلك الفطرة يفهم منه صريحا ثم لا تنكر هي
موضعه منها وموقعه، وإن كابرت فيه الألفاظ وبالغت الأهواء في جَحده والانتفاء منه مراءً ومغالبة.
والطبيعة قد توجد في مفردات لغتها مترادفات، بحيث يكون الشيئان لمعنى واحد، ولكن لا توجد فيها الأضداد بحال من الأحوال، فلا يكون الشيء الطبيعي محتملًا بصورته الواحدة لأن
بكون إقرارًا وإنكارًا معًا، ومن ثم لا يستقيم للعرب أن يعارضوا القرآن، إذ كان مأتى العجز من
1 / 35
فطرتهم اللغوية، ولا يتوهم ذلك وإن انتشرت لهم في الخلافِ كل قالة.
ذلك فيما ترى هو السبب الأول الذي من أجله اختلفت بعض ألفاظ القرآن في قراءتها
وأدائها اختلافًا صح جميعه عن رسول الله ﷺ وصحت قراءته؛ وهو كان أعلمَ العرب بوجوه
لغتها، كما سيأتي في موضعه؛ إذ لا وجه عندنا للاختلاف الصحيح إلا هذا، فإن القرآن لو نزل
على لفظ واحد ما كان بضائره شيئًا وهو ما هو إحكامًا وإبداعًا، فهذه واحدة.
وحكمة أخرى، وهي تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين لم يكن حفظ الشرائع مما عرفوه فضلًا عن أن يكون مما ألفوه.
وثالثة تلحق بمعاني الإعجاز، وهي أن تكون الألفاظُ في أختلاف بعض صورها مما يتهيأ معه استنباط حكم أو تحقيق معنى من معاني الشريعة، ولذا كانت القراءات من حجة الفقهاء في
الاستنباط والاجتهاد، وهذا المعنى مما انفرد به القرآن الكريم ثم هو مما لا يستطيعه لغوي أو بياني
في تصوير خيالٍ فضلًا عن تقرير شريعة.
ومن أعجب ما رأيناه في إعجاز القرآن وإحكام نظمه، أنك تحسب ألفاظَه هي التي تنقاد لمعانيه. ثم تتعرف ذلك وتتغلغل فيه فتنتهي إلى أن معانيه منقادة لألفاظه، ثم تحسب العكس وتتعرفه متثَبتًا فتصير منه إلى عكس ما حسبت وما إن تزال مترددًا على منازعة الجهتين كلتيهما،
حتى ترده إلى الله الذي خلق في العرب فطرة اللغة، ثم أخرج من هذه اللغة ما أعجز تلك الفطرة.
لأن ذلك التوالي بين الألفاظ ومعانيها. وبين المعاني وألفاظها، مما لا يعرف مثله إلا في الصفات
الروحية العالية. إذ تتجاذب روحان قد ألفت بينهما حكمة الله فركبتهما تركيبًا مَزجيًا بحيث لا يجري حكم في هذا التجاذب على إحداهما حتى يَشملها جميعًا.
ووجوه الاختلاف الطبيعي - كاختلاف القراءات في العرب - مما لا تفهم له تلك الطباع المختلفة به وجهًا، لأن كل عربي قد ثَبت على لحنه في النطق أو القراءة فيحسب ذلك الاختلاف مما لا يحتمله الشيء الثابت.
ولهذا جاءت بعض روايات عن الصحابة ﵃
تصف نبضًا من الشك ربما كانت تضرب به قلوبهم، حين يسمعون الاختلاف بين قراءة وقراءة
حتى يصرف الله عنهم ذلك ويربط على قلوبهم كما روي عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت
هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقانَ في حياة رسول الله ﷺ، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على
حروف كثيرة لم يقرئنِيها رسول الله ﷺ كذلك، فكدت أساوره في الصلاة فصبرت حتى سلَّم،
فلما سلَّم لبَّبته بردائه فقلت. مَن أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها؛ قال: أقرأنيها
1 / 36
رسول الله ﷺ، فقلت: كذبت، فوالله إن رسول الله ﷺ لهو أقرأني هذه السورة. فانطلقت به أقوده
إلى رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان. فقال رسول الله جتَ: " اقرأ يا هشام "، فقرأ عليه القراءة التي
سمعته يقرؤها، فقال: " هكذا نزلت "، ثم قال: " اقرأ يا عمر "، فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله لمجم، فقال: " هكذا نزلت "، ثم قال: " إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منها ".
فتأمل قوله " ما تيسر " تصِب منها شرحًا طويلًا، وسنقول في هذه السبعة بعد.
ورووا أن عبد الله بن مسعود لما خرج من الكوفة اجتمع إليه أصحابه فودعهم ثم قال: لا تَنازعوا في القرآن، فإنه لا يختلف ولا يتلاشى ولا ينفَد لكثرة الرد. وإنه شريعةَ الإسلام وحدوده
وفرائضه فيه واحدة، ولو كان شيء من الحرفين ينهَى عن شيء يامر به الآخر كان ذلك الاختلافُ.
ولكنه جامع ذلك كله، لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائضُ ولا شيء من شرائع الإسلام، ولقد رأيتُنا نتنازعُ فيه عند رسول الله ﷺ فيأمرنا نقرأ عليه فيخبرنا أن كلنا محسن؛ ولو
أعلم أحدًا أعلم بما أنزلَ الله على رسوله مني لطلبتُه حتى أزدادَ علمه إلى علمي، ولقد قرأت من لسان رسول الله ﷺ سبعين سورةَ، وقد كنت علمتُ أنه يعرضُ عليه القرآن في كل رمضان، حتى
كان عامُ قبِضَ فعُرض عليه مرتين، فكان إذا فرغ أقرأ عليه فيخبرني أني مُحسن.
فمن قرأ على قراءتي فلا يدعتَها رغبة عنها، ومن قرأ على شيء من هذه الحروف فلا يدعئه رغبة عنه، فإن من
جحد بآية جحد به كلهِ.
هذا حين كان الاختلاف مما تقتضيه الفطرة اللغوية ومذاهبها، فلما انتَفَضت هذه الفطرة، واختبلت الألسنة بعد اتساع الفتوح، وانسياح العرب في الأقطار، ومخالطتهم الأعاجمَ - لمَ يعد
لذلك الاختلاف وجه يتصل بحكمة من الرأي، بل صار كأنه دُرْبةَ لإفساد هذا الأمر واختلاف المادة نفسها على وجه يُنكرُ من حقيقتها بما يضيفُ إليها أو يخلط بها أو يغير منها، وإلى هذا نظر
رسول الله ﷺ حين عرض عليه القرآنُ العرضةَ الأخيرة، وما كان يعلم أنها الأخيرة لولا ما علمه
الله، فاختار قراءة زيد بن ثابت صاحب هذه العرضة، وبها كان يقرأ وكان يصلي إلى أن انتقل إلى جوار ربه. ومن ثم اختارها المسلمون بعده وكتبوا القرآن عليها زمن أبي بكر كما مر، ثم تركوا
1 / 37
للناس أسانيدهم، إذ كانت الفطرة سليمة بعد.
فلما كانت الطيرة والاختلاف لعهد عثمان، وأشفقوا من الضلال في معَاسف الرأي ومعاني حملوا الناسَ عليها حملًا وكتبوا بها المصاحف كما تقدم.
1 / 38
القُرَّاء
يرجعُ عهد القراء الذين أقاموا الناسَ على طرائقهم في التلاوة إلى عهد الصحابة رضي الله
عنهم، فقد اشتهر بالإقراء منهم سبعة: عثمان، وعلي، وأبي، وزيدُ بن ثابت، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري؛ وعنهم أخذ كثير من الصحابة والتابعين في الأمصار، وكلهم يُسنِدُ
إلى رسول الله ﷺ. فلما كانت أواخر عهد التابعين في المائة الأولى تجرد قوم واعتنَوا بضبط
القراءة أتم عناية، لِما رأوا من المساسِ إلى ذلك بعد اضطراب السَّلائق، وجعلوها علمًا، كما فعلوا يومئذ بالحديث والتفسير، فكانوا فيها الأئمة الذين يُرحَلُ إليهم ويؤخَذُ عنهم؛ ثم اشتهر منهم
ومن الطبقة التي تَلتهُم أولئك الأئمة السبعة الذين تُنسبُ إليهم القراءات إلى اليوم، وهم: أبو عمرو بن العلاء شيخُ الرُّواة المتوفى سنة ١٥٤ هـ،
وعبد الله بن كثير المتوفى سنة ١٢٠ هـ،
ونافعُ بن نعيم المتوفى سنة ١٦٩ هـ، وعبد الله بن عامر اليَحصُبي المتوفى سنة ١١٨ هـ، وعاصمُ بنُ بَهدَلة الأسَدي المتوفى سنة ١٢٨ هـ، وحمزةُ بن حبيب الزيات العِجلي المتوفى سنة ١٥٦ هـ،
وعلي بن حمزة الكِسائي إمام النحاة الكوفيين المتوفى سنة ١٨٩ هـ.
وقراءات هؤلاء السبع هي المتفقُ عليها إجماعًا، ولكل منهم سَنَد في روايته، وطريق الرواية عنه؛ وكل ذلك محفوظ مثبَت في كتب هذا العلم.
ثم اختاروا من أئمة القراءة غير مَن ذكرناهم ثلاثة صخت قراءتهم وتواترت وهم: أبو جعفر يزيدُ بن القَعقاع المدني المتوفى سنة ١٣٢ هـ، ويعقوب ابن إسحاق الحضرمي المتوفى سنة ١٨٥ هـ، وخلفُ بن هشام بن طالب (ولم نقف على تاريخ وفاته) . وهؤلاء وأولئك هم أصحاب
القراءات العَشر، وما عداها فشاذ، كقراءة اليزيدي، والحسن، وأعمش، وغيرهم.
ولا يذهَبن عنك أن هذا الاختيار إنما هو للعلماء المتأخرين في المائة الثالثة، وإلا فقد كان الأئمة الموثوق بعلمهم كثيرين، وكان الناس على رأس المائتين بالبَصرة، على قراءة أبي عمرو
1 / 39