لمست يدها وهممت بتقبيلها. ولكنها أوقفت حركة يدي وضغطت عليها قائلة: «هذا خير. إلى الملتقى!»
هوامش
الفصل الخامس
الذكرى الخامسة
يتعذر علي التعبير عن أفكاري وعواطفي بعد عودتي إلى البيت. هناك «أفكار بلا ألفاظ».
1
يعزفها الإنسان لنفسه في الساعات الخطيرة. لم أشعر بفرح ولا بحزن بل بدهشة فائقة. وصار مثل الهواجس والتصورات المخترقة ضميري كمثل النيازك الهابطة من الجو على الأرض، ما أدركت غايتها إلا بعد الانطفاء والاستحالة إلى حجارة سوداء. وكما نقول لأنفسنا في الحلم أحيانا «أنت تحلم» كذلك قلت لنفسي «أنت يقظان. وهذه هي.» ثم حاولت استجماع خواطري ولم شعث فكري بقولي: «إنها لفتاة لطيفة ذكية الجنان وقادة الذكاء.» وأخذتني منها شفقة وطفقت أحصي ساعات هنيئة سأقضيها وإياها في هذه العطلة. لكن لا، لا. لم تكن هذه سوى سوانح عبرت لباب خاطري، وذلك اللباب أن هذه الفتاة هي منتهى ما بحثت عنه، وفكرت فيه، ورجوته وآمنت به إلى الآن. هذه نفس بشرية عذبة كصباح الربيع، عطرة كشذا البنفسج، لامعة كلواحظ الكواكب. لقد تبينت منذ النظرة الأولى قيمتها المعنوية وكل ما أودعت من بهاء وسناء، ورحب كل منا برفيقه لأن الروحين تعارفا. خيل إلي أن «ملكي الحارس» مضى وتلاشى، وحاولت أن أناديه فلم تجبني نفسي إلا بما دلني على أن في العالم مكانا واحدا أجده فيه.
وبدأ لنا عيش رغيد، إذ كنا نجتمع كل مساء فشعرنا بمتانة صداقتنا ورسوخها وأضحى ضمير الجمع «أنتم» طفيليا بيننا فعمدنا بالمخاطب المفرد «أنت» نستعمله كأننا لم نفترق منذ الطفولة أصلا. لم تصف عاطفة إلا تهادى خيالها في نفسي ولم أبسط فكرة إلا أشارت مصادقة كمن يقول «هذا فكري أيضا.» كنت سمعت أعظم أساتذة الموسيقى في عصرنا يرتجل وشقيقته ألحانا على البيانو فأذهلني أن يتآلف فكر شخصين اثنين ويتوحد شعورهما فيوضحان إلهامهما الموسيقي في آن واحد على أتم انسجام لا تخونهما شاردة ولا تشد في إبداعهما واردة. أما الآن فقد اتسع فكري فأدركت. اتسع فكري فعلمت أن روحي لم تكن فارغة مدقعة قاحلة، وإنما توهمتها كذلك لاحتجاب الشمس عنها وهي كفيلة بإخراج البراعم والأزهار إلى الوجود والحياة. ورغم ذلك كان الربيع حزينا وخيمت منه فوق نفسينا أوشحة رمادية لأن شهر مايو/أيار ورونقه لم ينسنا أن الورود سريعة العطب وأن كل مساء ينزع من زهرة اجتماعنا ورقة. سبقتني هي إلى الشعور بذلك وذكرته يوما دون أن تبدي أسفا أو ألما، فانقلبت أحاديثنا جدية هادئة ينيلها كل مساء يمر رصانة وجلالا.
قمت أودعها مرة فقالت: «ظننت الموت قريبا عندما أعطيتك الخاتم، ولم أتوقع أن أعيش هذه السنوات. ولكني عشتها وتمتعت بالجمال كثيرا. كذلك تألمت شديدا. إنما المرء ينسى هذا في السعادة. والآن وقد قربت ساعة الفراق فكل دقيقة توازي كنوزا. مساء الخير. لا تبطئ غدا.»
دخلت عليها يوما وعندها مصور إيطالي. كان حديثهما بالإيطالية، ومع أن الرجل كان أقرب إلى العامل منه إلى الفنان كانت لهجتها لطيفة وديعة يخالطها شيء من الاحترام، فتجلى لدي عندئذ شرفها الحقيقي أي شرف النفس لا شرف المولد. وبعد ذهاب المصور قالت: «أريد أن أريك صورة أصلها في قصر اللوفر في باريس. قرأت وصفها فشئت أن تنقل لي.» ثم أرتني الصورة وانتظرت حكمي. وكانت تلك صورة كهل في الزي الألماني القديم، تلوح على محياه سيماء التفكر والامتثال لقوة عليا، وقد بدا في هيئته وأوضاع جسمه معنى الحياة العميق، فلم أرتب قط في أنه عاش يوما ولم تبدعه مخيلة مصور. كان اللون البني القاتم متغلبا في الصورة، على أن الجزء الخلفي استحضر مشهدا طبيعيا نيرا وظهرت في الأفق أشعة الفجر الآتي. لم يذهلني من تلك الصورة شيء إنما أوحت إلي عاطفة هادئة استطعت معها التحديق في الرسم طويلا. فقلت: «لا صدق يفوق صدق الهيئة البشرية. وإن روفائيل نفسه ليعجز عن إبداع صورة صادقة كهذه إن لم يعش صاحبها يوما.»
Неизвестная страница