خلت حياة جديدة تنبض في، كأن شخصي الأول تبدل بشخص آخر، وإذ سألت عن الأصوات الفخمة المتصاعدة من أعماق الكنيسة قالت والدتي: إن هذا نشيد الفصح. لم يتسن لي إلى اليوم معرفة ذلك النشيد الذي هبطت أنغامه على روحي ، ولا ريب أنه من تلك المزامير الرائعة التي تسربت إلى روح لوثر الصارمة. ولم أعد أسمعه مرة أخرى. أما الآن فعندما أصغي إلى موسيقى بيتهوفن أو مزامير مارسلو، أو أجواق هيندل، وأحيانا عندما أسمع الأغاني الساذجة في جبال اسكوتلندا والتيرول، أشعر بأن نوافذ كنيستي القديمة تسطع بنور باهر، وأن عالما جديدا ينفتح أمامي من عالم الكواكب وأعذب من عرف البنفسج.
هذا ما علق بذهني من تذكارات طفولتي يتخللها وجه أمي الحنونة وعينا أبي العميقتان، وحدائق وأشجار أعشاب مخملية الخضرة، ودالية تحمل العناقيد الناضجة، وكتاب جليل حافل بالصور الملونة، التوراة. هذا كل ما أميزه على الصفحات الأولى من ذاكرتي الذابلة.
لكن ما يعقبه واضح جلي. أرى ملامح الوجوه التي اعتدت مشاهدتها وأنادي أصحاب هذه الوجوه بأسمائهم: أبي وأمي، وأخواتي وإخوتي، والأصدقاء والمعارف والمعلمون وبعض الغرباء ...
أواه! يا لحلاوة تذكار تركه الغرباء في فؤادي! ويا لعمق موضع روحي نقشت فيه أسماؤهم!
الفصل الثاني
الذكرى الثانية
كان على مقربة من بيتنا وإزاء الكنيسة ذات الصليب المذهب بناية شاهقة تعلوها قبب كثيرة. عظمت حتى صغرت حيالها بناية الكنيسة ذاتها. وكانت قببها شهباء قديمة كقبب الكنيسة، إنما لم تظهر فوقها الصلبان المذهبة، بل قامت على الجوانح نسور حجرية وخفقت راية زرقاء على القبة العليا المطلة على المدخل، وقد امتد أمامه سلم يمنة وآخر يسرة ووقف جندي يحرس كلا منهما.
نوافذ المنزل عديدة تجللها من الداخل الحرائر القرمزية تتدلى منها الطرر الذهبية. وأشجار الليمون المنتصبة في الساحة الفيحاء تغطي الجدران بوريقاتها الغضة وتنشر على العشب أريج أزهارها.
كثيرا ما كنت أرفع عيني إلى هناك عند المساء إذ تطلق أشجار الليمون أعذب أنفاسها وترسل النوافذ أبهى أنوارها فأرى خيالات تجيء وتروح، وأسمع أنغام الموسيقى مترددة من أعالي القصر. ثم تمر المركبات إلى القصر فيرتجل الرجال والنساء ويصعدون على الدرجات وعلى وجوههم سيماء الصلاح والنبل، بينا نجوم الأوسمة تشع على صدور الرجال والورود والرياحين ترقص بين شعور النساء، فأفكر في بساطتي: «لماذا لا أذهب أنا كذلك؟»
أخذني والدي بيدي يوما وقال: «ها نحن ذاهبان إلى القصر، فتأدب. وإذا كلمتك الأميرة أجب باحتشام وقبل يدها.» وكنت في عامي السادس ففرحت فرح أهل هذا العمر. وكنت أسمع الثناء الكثير على أخلاق الأمير والأميرة صاحبي القصر وما فطرا عليه من ميل إلى الإحسان وعطف على الفقراء، فضلا عن عدل وإنصاف بهما يمثلان الله تعالى على الأرض في معاقبة الأشرار والمعتدين. فحسبتني أعرفهما، وحسبتهما نظير الصورة التي وضعتها لهما مخيلتي. بل هما كانا من معارفي القدماء لا كلفة بيننا ولا تكلف كأنهما بعض ألاعيبي وجنودي الخشبية.
Неизвестная страница