Ибрагим Тани
إبراهيم الثاني
Жанры
إهداء الكتاب
الفصل الأول
الفصل الثانى
الفصل الثالث
الفصل الرابع
إهداء الكتاب
الفصل الأول
الفصل الثانى
الفصل الثالث
الفصل الرابع
Неизвестная страница
إبراهيم الثاني
إبراهيم الثاني
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازني
إهداء الكتاب
إلى كل «تحية» يشقى صبرها ببعلها ... أحيانا.
إبراهيم عبد القادر المازني
الفصل الأول
1
أصبح إبراهيم، ذات يوم مكتئبا، متبرما، يشكو إلى كل من يلقاه من الإخوان أنه لا قدرة له على فهم «هذه المرأة».
Неизвестная страница
ولم يكن يعنى امرأة خاصة على الرغم من اسم الإشارة. وإنما كان - وهو يتكلم ويبسط كفه، ويمد ذراعه، ويطوح بها فى الهواء - كأنما يومئ إلى «الجنس» كله ويدل عليه.
وكان فى العقد الخامس من عمره، ولكنه كان ذا وسواس. وكان أخوف ما يخاف، أن يكون قد شيخ، أو أشفى على الشيخوخة. ولم يكن لهذا الوهم ما يسوغه سوى إرباء إحساسه بالحياة على القدر الذى تتسنى به الراحة فيها. وكانت امرأته ذكية رحيبة أفق النفس، بعيدة مطارح العين. وكانت تتوخى أن تجدد نفسها له وتحرص على أن تحيطه بجو من «الشباب»، ولا تفتأ تدعو من ذوات القربى، أو من بنات المعارف، الفتيات الناهدات، واللاتى ما زلن فى عنفوان الشباب. وكانت ترجو بهذا أن يجد بعلها ما ينعشه وينشطه، ويميط عنه أذى الإحساس بالشيخوخة المخوفة أو المتوهمة. ولم تكن تخشى عليه الفتنة، فقد كانت تعرفه رزينا حكيما، وحييا محتشما. غير أن هذا الذى تحرته معه، كان يعمق شعوره بأنه ارتفع عن حد الشباب، ودخل فى الكهولة، أو هو على عتبتها الباردة. وصار يحس أن به حاجة إلى ما يطمئنه على شبابه الذى ينضب معينه بسرعة. وكان يعلم أن امرأته تحبه - أو لا تزال تحبه - غير أنه كان يخشى أن يكون حبها له عادة، أو بفضل الذاكرة وتشبثها بما نعمت به منه فى شبابهما. فاشتاق أن تحبه غيرها واشتهى أن يسمع كلمات الحب والإعجاب من فم آخر. ولم يكن يعدم ثناء سارا، بل ودا صريحا، من الفتيات اللواتى يحطن به. ولكنه كان يقول لنفسه إن هؤلاء غريرات لا خبرة لهن بالحياة ولا تجربة لهن فيها، فلا اعتداد برأيهن فيه. وكان يستريب بالمجربات الحاذقات، ولا يطمئن إلى صدقهن، وخلوص سريرتهن. فصار الأمر مشكلا، لا حب امرأته يقنعه، ولا مودة الغريرات بها اجتزاء، ولا ثقة له بغيرهن.
وعرف فتاة - فى بيته، وبفضل امرأته - اختلط أمرها عليه. فما كانت، فيما يرى، من الغريرات، ولا كانت تبدو ذات تجربة ما. وكانت متزنة ذات عين فاحصة ولكنها غير صارمة. وكانت أحلى ما تكون حين تبتسم وتتقارب جفونها حتى لتكاد تنطبق. وكانت على سكونها وهدوء مظهرها فى كل حال، لايشك الناظر إليها فى أنها زاخرة بالحياة الفوارة، بهذا كانت تنطق كل حركة وإيماءة، ونظرة، ولفتة. وكان اتزانها فيما يبدو له، كالسد الذى يحبس الماء وراءه، ويمنعه أن يتدفق. ولم تكن مع هذا يبدو عليها الكبت، ولا كان سكون طائرها تكلفا، بل كان خفرا طبيعيا واحتشاما مكتسبا بالعادة على الأرجح.
وما أسرع ما توادا، بل ائتلفا - لا يدرى كيف؟ - وصغا إليها، وصغت إليه. وأنس بها، وأنست به. التقيا مرة فى غير داره، اتفاقا، فوقفا هنيهة يتبادلان التحية والكلام الذى لا محصول وراءه. وكان يهم أن يدعوها إلى مرافقته فلا يسعفه لسانه. فلما وضعت يدها فى يده وهى تودعه وتفتر له عن ابتسامة رقيقة، وأيقن أنها ذاهبة، وأن الفرصة قد لا تسنح مرة أخرى، انطلق اللسان المحتبس، وزايله حذره المألوف فسألها هل تسمح بمقابلته فى يوم آخر؟ وكان يتوقع الاعتذار. وإذا بها تتقبل دعوته باغتباط وبساطة عجيبة.
وصارا يلتقيان. واتفقا على أيام معينة يخلوان فيها بنفسيهما بنجوة من الرقباء. وأعادته بسكونها، فهدأت ثورة القلق وذهبت عنه الوحشة التى كان يكابدها إذ يكون مع الناس. ونفثت فيه من حرارة شبابها فنسى أوهامه، وعادت إليه الثقة والاطمئنان - إلى حد ما - وصدق ظنه أن سكينتها سد وراءه فيض زاخر من الحيوية محتبس، حتى لصار يخشى جدا أن تنفتح «البوابات» كلها دفعة واحدة، فيغرقها - ويغرقه معها - التيار الجارف. وراح يقنع بعلمه باضطراب الماء واصطفاقه وراء الأبواب الموصدة. وسعد بها، وسعدت به، وصارت له، وصار لها، مألفة.
وكانت دائمة البشر والبشاشة، سلسة كالجدول الرقراق، فلا سورات غضب، ولا دلال تتكلفه، ولا هستيريا. وكان هو أيضا معها على هذا النحو الموافق من الرقة، ولين الجانب؟ لأنه أمن منها البطر وسوء السلوك.
غير أنه أقلقه عليها - ومنها - ما علمه من صدها الخطاب وزهدها فى الزواج. وكان يقول لها، وهو يحاورها، إن هذه حياة غير طبيعية، فتقول إنها قانعة راضية وأنها لا تطمع فى غير ذلك، ولا تتطلع إلى ما يجاوزه، وأنها سعيدة هكذا فلماذا تغير الحال؟
وكان هذا يسره، ويسوءه. فأما وجه السرور فذاك أنه وجد فتاة لا ينقصها المعجبون والعشاق ترضى غروره بهذه القناعة به وتقوى شعوره بأنه ما زال كفؤا للحياة، وأن ما كان يخشاه لم يكن إلا وهما ووسواسا أورثه إياهما تلف الأعصاب. وأما ما ساءه - كما قال لها مرارا - فذاك أن عمر هذه الصلة لا يمكن أن يكون إلا محدودا. فإنه أسن منها أكثر من خمسة عشر عاما، فهى تستقبل الدنيا، وهو يستدبرها شيئا فشيئا.
فكان ردها الذى لا يختلف أنه لا يزال بينهما وبين هذه الخاتمة التى يراها محتومة أمد طويل، وما زال أوانها بعيدا، فلماذا تحمل همها سلفا؟
فيأبى أن يقتنع ويقول: «وهل تظنين أن الرغبة فيك ستظل كما هى الان بعد سنوات أخرى؟»
Неизвестная страница
فتقول: «ولم لا؟ إن لكل سن مزيتها، ولكل امرأة من يطلبها فى سنها. دعنا من هذا، خلنا فى الحاضر، فإن الغد غيب..».
وكان لتلف أعصابه يتطير أحيانا من هذا الكلام، ويذكر أن فتاة أخرى كانت لا تنفك تبدئ وتعيد فى أنها لن تتزوج، وقد صدقت وما تزوجت لأنها ماتت. فكان يحدث نفسه أن لعل هذا يحدث له أو لصاحبته فيموت أو تموت. وكانت تضحك من كلامه هذا وتصرفه عن هذا اللون الثقيل من التفكير وتقول له: «وماذا إذا مت أنا؟ أليس خيرا أن أموت سعيدة فى شبابى؟ أم تراك تريد أن ترانى شمطاء تشيح عنها الوجوه وتتحول عنها العيون نافرة، وتجفوها القلوب؟ لا يا سيدى..».
فيقول: «ولكن أنا؟ أنا؟ إنى أخب إلى الشيخوخة..».
فتقول: «يمكنك أن تثق أنى سأظل صديقة وفية ولا ألومك على شيخوخة لم تجنها على نفسك، ولم تدركك بفعلك، ولم تتعمد أن تبلغها لتكايدنى».
ولم يجد جدوى فى مثل هذا الحوار الذى كان ينتهى فى كل مرة إلى غير نتيجة يحسن السكوت عليها، أو يمكن الاقتناع بها. وراح يطفو معها على متن التيار، وكان تيارا رقيقا لا يطغى به ولا يعنف. وكانت هى قريرة العين، صريحة البشر في غير تعمل. وظلا سنتين على هذا الحال، لم يقع بينهما خلاف مرة، ولم تنظر إليه قط بغير الابتسام والبشاشة، وخلت حياتهما معا من العتاب والغيرة. وكان خير ما يسره منها أنها لا تعرف قولة «لا»، فما سمعها منها ولامرة واحدة فى عامين طويلين. وكانت تكل إليه أمرها واثقة مطمئنة، فكان لهذا حفيا بها، متحرزا من أجلها ساهرا عليها، لا هم له إلا أن يذيقها أقصى ما يدخل فى الطوق البشرى المحدود من السعادة الميسورة، وكانت كأنها على يقين من هذا.
إلى أن كان يوم وقعت فيه بينهما جفوة لسبب سخيف. وكانا قد استأجرا سيارة «تاكسى» ومضيا فى الطريق الزراعى الذى ينتهى إلى الإسماعيلية، لينعما بنضارة الخضرة على جانبيه.
فلما صارا على مسافة فراسخ من القاهرة، انثقبت إحدى العجلات، فوقف السائق ليضع مكانها العجلة الاحتياطية فإذا هى فارغة من الهواء. ولم يكن معه منفاخ، فحمل المسكين العجلتين وذهب بهما ليصلحهما. وبقيا على الطريق ينتظران ويتحدثان، ويتضاحكان. ولكن الانتظار طال فثقل عليها واربد وجهها. وحاول أن يسرى عنها ويعيد إلى محياها البشر المألوف الذى لم يعهد سواه فأخفق.
وبعد ساعات عاد السائق المسكين يحمل عجلة ويدحرج أخرى. ورجع بهما إلى القاهرة. فلما بلغاها أبت أن يصحبها وأصرت على ركوب الترام وحدها، وكانت مقطبة. وكثيرا ما عاد بها الترام وحدها فليس فى هذا جديد، ولكن الجديد هو التعبيس الذى يراه أول مرة فى عامين. ولم ير أن له ذنبا، أو أنه يستحق هذا التقطيب، وثارت نفسه على الظلم، وكره أن يفضى بهما الأمر إلى الشجار والنقار السخيفين، وعجز عن فهم البواعث التى جاءت بهذه السحب وعكرت صفاء وجهها ونفسها، فانصرف ناقما ساخطا، أثقل ما يعانيه أنه غير فاهم شيئا.
2
وظل بضعة أيام يحدث نفسه كالموسوس بتعبيس صاحبته «ميمى». وكان امرأ فى أصل طباعه الجد الصارم، وإن كان قد عود نفسه، ابتغاء الراحة، أن يأخذ الأمور من ماخذها السهلة، القريبة، وأن ينظر إلى الحياة من ناحيتها المشرقة الوضاءة، من غير أن تغيب عنه نواحيها الحالكة الكالحة. وكان مما راض به نفسه على ذلك قوله لها وهو يناجيها حين يخلو بها: «إن الدنيا ليست بالجنة، ولم تخلق على هوانا، ولا كان لنا رأى فى خلقنا نحن. وإنما جئنا لأن نواميس الحياة اقتضت أن نجىء، فغير عجيب أن يكون ثم ما يسخطنا ولا يرضينا. ولو ذهبنا نتسخط كل ما لا يرضينا لما عادت الحياة محتملة. فالصبر والحلم وتناول الأمور برفق وتسهل، أوجب ما يجب، وأدل شىء على حسن الفهم وحصة الإدراك. وليس هذا من قبيل قولهم ليس فى الإمكان أبدع مما كان، فإن كل ما فى الدنيا قابل لتحسين وإصلاح وتهذيب، وإن لم يكن فى ذاته غاية فى السوء والفساد».
Неизвестная страница
واكتسب بالأناة، على الأيام، الإنصاف حتى من نفسه. وصارت له قدرة نادرة على وضع نفسه فى موضع غيره، وتصور ما يصدرون عنه من بواعث، وكيف يجيبون ما يهيب بهم من هواتف. وما أكثر ما حزن وتألم، ولكنه كان يستطيع، وهو يعانى ما يعانى، أن يمهد العذر للذى أورثه الألم أو الحزن.
وقال لنفسه: «إن ميمى تظلمنى، فما لى ذنب فيما كان. وتظلمنى ظلما ثانيا حين يثقل على كاهل صبرها أنها حرمت ما كانت تتطلع إليه، فقد كان الحرمان نصيبى أنا أيضا. ثم إنها تنسى ما أتجشم فى سبيلها لأنيلها أكبر حظ من السعادة. وإنى لأعرض عن فتيات كثيرات فى وسعى أن أصل سببى بأسبابهن بغير عناء. وإنى لأنفق فوق ما يشير به حسن التدبير، فما أنا بذى سعة عظيمة فى الرزق. وأكون على موعد معها فلا أبالى ما يفوتنى فى سبيل لقائها، وأكون مريضا، أو متعبا، فأتحامل على نفسى فألقاها ولا أكون معها إلا هاشا باشا - ضاحكا مازحا - لأسرها. ولقد حرمت زوجتى بعض حقها، حين اختصصت ميمى بهذه العناية. فما من شك فى أنى أهمل امرأتى بعض الإهمال، وما جنت شيئا تستحق به ذلك، ولا ذنب لها فيما اعترانى من ملل لطول العشرة وفرط الألفة. وإنها أيضا لجديرة أن تمل وتسأم ولعلها تفعل، غير أنها تتجلد وتتشدد، ولا تبدى لى إلا الود والعطف، وإلا الفرح والإعجاب والزهو بى.. بى أنا المتلهى عنها بميمى.. أفلا تكون هذه الزوجة معذورة إذا اقتاست بى واحتذت مثالى، وذهبت تنشد التسلى والتلهى برجل آخر أصبى منى؟ رجل تكون فى عينه جديدة كميمى فى عينى؟ كل هذا تنساه أو تغض عنه ولا تحفله ميمى، ويسوءها - فتتجهم - أن عجلة انثقبت فقعدنا فى الطريق ساعة ننتظر إصلاحها وفاتنا ما يسهل اجتناؤه فى يوم آخر. وكان جمال الطريق مبتغانا، فتملينا بحسنه قاعدين، لا رائحين غادين. وتأخرت عن موعد عودها إلى بيتها قليلا».
وأحس أن ثورة نفسه تتفاقم، لا على ميمى، بل على نفسه وعلى الدنيا كلها، وما أصاره إلى هذا الحال، وعلى كفرانه حق زوجته. فقد كان فى قرارة نفسه يحبها ويجلها، ولا يستطيع أن يتصور دنياه خالية منها، ولكن إلفه لها فتره، فذهب يلتمس ما به يتجدد، وينشط، وينبعث.
وأراد أن يكبح هذه الثورة فقال لنفسه: «وميمى؟ ألا تتجشم فى سبيلى مثل ما أتجشم؟ ما حاجتها إلى؟ إن فى وسعها أن تتزوج وتهنأ، ولكنها لا تفعل. وليست فقيرة إلى مالى، فما لى مال يطمع فيه طامع، وما عرفت فيها الطمع، والقليل الذى أهديه إليها، تهدى إلى خيرا منه وأنفس. وهى تحرص على لقائى فى مواعيده ولو انطبقت السماء على الأرض. وأمها لا ينقضى عجبها لهذا الخروج فى أيام لا تختلف ساعة ولا تتقدم أو تتأخر دقيقة واحدة، ولا تنفك تلح عليها بالسؤال، وتلج فى استكشاف السر ، ولم تستطع فى عامين طويلين أن تهتدى إلى الحقيقة. ولو شاءت ميمى، أو طاشت، لورطتني عمدا أو عفوا. ولكنها لا تتطلع إلى شىء ولا تبغى إلا أن أكون معها.. هكذا.. ليس إلا.. وما عرفتها ندمت أو قلقت، أو عنيت بأن تمد عينها إلى الغد المحجوب، وما عسى أن يكون حالها فيه. وإنى لأحاول أن أحملها على تدبر هذا الغد، فتأبى إلا أن تصدف عنه وتعرض، لا يأسا منه، ولا مجازفة، بل لأنها راضية قانعة. وما أكثر ما قلت لها إنها تضيع شبابها معى، وإنها لتعيرنى من حرارته، ولكنها لا تستطيع أن ترد على شبابى بما تنفث فى من حرارة شبابها، وأنه أولى بها أن تكون ذات بعل شاب مثلها، فتصغى بعناية ولكن بابتسام ساخر، ثم تقول: «شاب؟ شاب إيه؟ ماذا أصنع بالشباب؟ الطيش والغرور؟ إذا حاولت أن أضع له اللجام، نبا فى العنان، وإذا ألقيته له جمح. وأنا الشقية فى الحالين. ثم الأولاد.. والبيت.. والمطبخ.. لا ياسيدى.. بدرى.. بدرى.. كل شىء فى أوانه. ثم ما عيبك أنت؟ رجل رزين حكيم، مجرب، ولم يذهب شبابك كما لا تفتأ تزعم. أو تحسب أن الشباب سواد الشعر ونضارة الجلد؟ إنك بنفسك أصبى من ألف شاب. وأنا أجد فى صحبتك ما لا يعرف الشبان كيف يتيحونه لى.. إن لى كل يوم جديد متعة أفيدها منك، وقد رفعتنى إليك، وأخلق بالشاب أن يهبط بى معه. ومنحتنى ما كان خليقا أن يفوتنى لولاك.. مزيتك هى مزية الكهولة الناضجة - لا تقاطع - لا تقل إنك لست الوحيد فى الدنيا أو الذى لا ند له، فإنى أعرف ذلك. ولكنى لا أعرف، ولم أعرف سواك. ثم إنى معك فى أمان من المخاوف. لا سوء عاقبة، ولا طرد من الجنة. أتذكر يوم قلت لى ليت أبانا آدم أكل من شجرة الحياة، ولم يأكل من شجرة المعرفة؟ لقد دار هذا فى نفسى مذ سمعته منك، فهل تعلم أنك أطعمتنى من شجرة الحياة، ومن شجرة المعرفة جميعا؟ ثق أنى معك أحيا، وأتعلم، وبلا ثمن أيضا، أو بثمن هين. وإنى لاكون شقية لو استقللت ذلك.. ثم مالك أنت ما دمت أنا راضية قريرة العين؟»
فكان يدهشه منها حكمة الطبع، وهى فى مثل سنها الغضة عجيبة نادرة.
وانتهى من هذا الحوار مع نفسه إلى أن الأولى أن ينتظر حتى يلقاها مرة أخرى فيرى ما يكون منها. فإذا عاد إليها بشرها تناسى الأمر كله. وإلا.. وإلا.. وإلا ماذا؟ لا يدرى.. ولكنه لا يطيق هذا التعبيس، وما من موجب لاحتمال ثقله، ثم إنه لا يفهم لماذا يتكلف الناس ما يفسدون به حياتهم؟ والتكلف جهد على الحالين فلماذا يتكلف الناس ما ينغص العيش ولا يتكلفون ما به يطيب؟
ولقيها فى الموعد المضروب. وكان ينتظرها على رصيف مسجد، وراها قبل أن تراه. وكان يسره منها أنها لا تتثنى فى مشيتها، ولا تتقصع، وأنها تسير غير ملتفتة أو عابئة بأحد. وسره منها فى يومه هذا أنها جاءت فى أحب ثيابها إليه وأشرحها لصدره، وكانت لا زاهية ولا قاتمة، ولا قطعة واحدة بل اثنتين، واحدة كالصدرية، بيضاء مخططة خطوطا زرقاء، دقيقة النسج، رحيبة، ولكنها لا فضفاضة ولا محبوكة، ولا تحجب ما يحسن أن يظهر من فتنة الصدر الممتلئ، ولا تبدى ما يجب - رفقا بطينة الإنسان - أن يستر. والكمان إلى القرب من المرفق، ففيهما من الاحتشام ما لا يمنع أن تحس العين لين الساعد ونعومته ورقته.
وقالت له: «كدت أتأخر.. جاءت بنت خالتى لزيارتنا ودعتنى للخروج معها لقضاء حاجات لها، واضحك.. لما دقت الجرس لم أكن أعرف من الزائرة أو الزائر فخفت أن أتأخر. وكان باقيا على موعد الخروج ربع ساعة فأسرعت وتناولت هذه الثياب فطرحتها على كرسى بحيث يراها من يدخل فيعرف أنى كنت أتهيأ للبسها أى للخروج فلا يطيل.. وقد سألتنى حين رأت الثوب: «أكنت خارجة؟» قلت: «نعم»، وشرعت فى ارتدائها أمامها، فقالت: طيب نخرج معا. قلت: لا يا ستى.. طريقى غير طريقك.. أنا مستعجلة.. فإذا كنت غير مستعجلة، فأنت فى بيتك. وقد كان. خرجت وتركتها، فما رأيك؟ أو لعل الأولى أن أسأل عن رأى أمى حين أعود فأسمعه منها».
وكانت تضحك وهى تروى له هذا الخبر. وكانت تقص عليه كل شىء فهى لا تقصد إلى المن. فنسى ما كان أمضه فى لقائهما السابق، وقال لها: «أظنك أخطأت حين تركتها.. كان ينبغى أن تبقى معها قليلا.. فما فى وقوفى لحظة أنتظر من بأس ما دام لك هذا العذر».
قالت: «لا يا سيدى ... لا بنت خالتى ولا بنت عمتى ... ومالك أنت على كل حال؟»
Неизвестная страница
وكانت هذه العبارة أقوى حججها، فلهج بها فى سره، وصار يقول لنفسه: «ومالى أنا على كل حال؟» غير أنه لم يقتنع، فقد كان يؤثر - ويعنيه - أن لا تتعرض لخلاف مع أهلها بسببه.
وحدث نفسه وهو يرى طلاقة وجهها وإقبالها عليه، وسرورها به، أنه لا يزال عاجزا عن فهم «هذه المرأة».. كانت غاضبة ثم رضيت. ففيم كان الغضب؟ وفيم كان الرضى؟
3
وكانت ميمى فتاة يسعها أن تكون مستقلة، وسيدة نفسها، وأمرها جميعه بيدها، ولكنها نشأت على ما «كان» عودها أبوها، من أن تكون «بنت ناس» ومؤدبة مهذبة. والأدب والتهذيب فى عرف «أبى حمزة» كما يكنى نفسه، أن تلزم بيتها لا تريمه، فإذا احتاجت أن تخرج لحاجة لها فليكن ذلك بصحبة أمها أو إحدى قريباتها العجائز، أو «ولد» من ذوى قرابتها. والشرط بعد ذلك أن يكون الخروج نهارا والإياب قبل المغرب، وعليها أن لا تبدى زينتها فى الطريق أو من النافذة، وأن تكون فى كل حال متجملة محتشمة.
وكان أبو حمزة يريد البنين. فلما لم تجئه امرأته - فى عشر سنوات - بغير هذه الفتاة، ضجر ونفد صبره، فطلقها وترك القاهرة وعاد إلى قريته - على مقربة من دمنهور - واتخذ زوجة غيرها ولدت له ما لم يكن يبغى من بنات وفوق ما كان يبغى من بنين، ولزم القرية إلا فى بعض الأعياد والمواسم الكبرى. ولكنه لم يهمل مطلقته وفتاته، فكان يرسل إليهما نفقة كافية من الأرز والزبد والقمح والجبن وما إلى ذلك. ولا يقتر على ابنته «القاهرية» فيما يتطلبه تعليمها وتثقيفها. ولا ينفك معنيا بها وبأمها، ومتعهدا لهما «بالمراسلة»، فما طلق امرأته كراهة لها، بل كراهة لبقائها فى عصمته وهو مع غيرها فى بلد ناء، فأبرأ ذمته وأرضى شعوره بواجبه لنفسه ولبنته، ولما يفهم من معنى «العرض» بهذه الطريقة التى لا تخلو من غرابة.
ولم يكن أغرب منه إلا مطلقته، فقد حرصت على أن يكون سلوكها حياله وهى مطلقة كما يجب أن يكون وهى زوجة. كانت رسائله إليها فى منزلة الأوامر التى تطاع ولا تعصى فتفعل ما يأمر، وتتقى ما ينهى عنه، أو ما كان خليقا أن ينهى عنه لو كان معها.
وكانت تتوخى فى تربية «ميمى» ما تعلم أن فيه مرضاة أبيها. وكانت «ميمى» تؤثر أن تدرس الطب، ولكن أباها أبى ذلك كل الإباء. فلما ثقل عليه إلحاحها وضاق صدره بلجاجتها، قطع عنها نفقة التعليم. وكان لها من صلابته وعناده حظ غير ضئيل، فلما رأت منه ذلك تحولت عن الطب إلى مدرسة للمعلمات، نزوعا منها إلى الاستقلال والاستغناء عن والد يغضب فيقطع النفقة. فجفاها أبو حمزة زمنا، ثم غلبه الحب والحنو فعاد إلى الرضى وألقى لها الحبل على الغارب، فصارت معلمة فى وسعها - كما أسلفنا - أن تستغنى عن معونته، إلا أنها ورثت عن أمها لينها ووفاءها فبقيت على توقيرها له.
ولم تكن تخالط إلا ذوى قرابتها وقليلين جدا من المعارف من بينهم أسرة إبراهيم. وكان لها ابن خالة اسمه «صادق» لم يكد يفرغ من التعليم الابتدائى حتى مل وكف، وعجز أبوه - وكان فى سعة - عن كبحه فرمى إليه بالزمام، وأطلق له، غير مخير، أن يصنع ما بدا له، فصار نهاره ليله، وليله نهاره، وأمله المفرد ومطمعه الوحيد، أن يكون «منولوجست» مشهورا يذيع «قطعه» فى الراديو، وراح على سبيل التمهيد يجمع حوله لفيفا من أترابه وأشباهه العاطلين، وسربا من بنات الحى ويقضى الوقت مع هؤلاء وأولئك فى التدرب. وكانت له ملكة فى الزجل، وطبع فى الموسيقى، ولكن التحصيل ينقصه فبقى حيث هو، لا يبلغ شيئا، ولا يدرك غاية، ولا يزيد على أنه عاطل.
وكان صادق هذا يتودد إلى ميمى، وهى لا ترى فيه إلا أخيب الخياب وأفشل الفشلة، ولكن زرايتها به كانت لا تمنع أن تشعر بمزاياه وإن كان التدليل قد أفسدها أو حجبها وحال دون الانتفاع بها. وكان طويلا نحيفا، وفى نظرته شدة، وفى مشيته خفة كخفة القط. وكان أكثر ما يروعها - ويرعبها - سكونه وقسوته واستخفافه بكل شىء، وسخريته من كل شىء. وكانت تشعر - حين تكون معه - أنه يجذبها ويدفعها فى ان معا. يجذبها بقوة الشخصية وسحر النظرة الثابتة الفاحصة، ويدفعها وينفرها لإثارة شكوكها فى صدقه وإخلاصه وبما يبديه من السخر من كل ما تعده جليلا، والتهكم على كل ما نشأت على الحرص عليه والتعلق به، من مبادئ وعقائد وتقاليد. وكانت ربما كبر فى وهمها أنه ليس إلا وحشا فى ثياب إنسان، وكان هذا يقلقها منه - وعليه - وكثيرا ما أفضت إلى إبراهيم ببواعث قلقها هذا، فكان يسرى عنها ويقول لها: «هونى عليك. فما الإنسان إلا حيوان، وكلنا ذلك الحيوان إذا أردت الحقيقة. وليست المدنية سوى صقل لا يمنع أن الحيوانية - وهى الأصل - كامنة متحفزة للظهور على الرغم من كل هذا الصقل إذا أتيحت لها الفرصة، أو استثارها مستثير قوى. وما زالت أساليبنا فى حياتنا هى أساليب الحيوان، أو الوحش الضارى، ولكنها ملطفة مهذبة مرققة، أو قولى إنها «منظمة» بالقوانين، والتقاليد والعادات المرعية، ومن هنا تخفى حقيقتها، ومن هنا يروعك صادق لأن فيه تمردا على الظواهر والطلاء، وإخلاصا للأصل».
وكانت ميمى إذا سمعت منه هذا التأويل تهز رأسها غير مقتنعة، أو مطمئنة، وهو الأصح، وتقول له: «إن دأبك أن تنظر إلى الأمور هذه النظرة الهادئة المريحة وأن تحاول أن تنصف غيرك. ولكن ألا يخطر لك أنى أنا أيضا جديرة بالإنصاف؟»
Неизвестная страница
فيسألها: «كيف؟ ماذا تعنين؟»
فتقول: «إن حياتى مثلا تجرى فى مجرى سلس. ولكن صادقا وأضرابه يحدثون فيه اضطرابا شديدا».
فيقول لها: «إنى إنما أحاول أن أريك الجانب الذى ينبغى أن تنظرى إليه حين تتدبرين هذا القريب المثير. إنه لم يجد من يصقل له جانبه الخشن أو يقلم له أظافر الوحشية الكامنة فى نفوسنا، وفى وسعك أن تفعلى ذلك بأن تبدى له صفحة الود والتقدير. إنك بذلك - لا بالنفور والتحقير - تستطيعين أن تظهرى وتنمى بذور الخير والفضيلة فى نفسه، وثقى أن فى نفسه - فى نفس كل إنسان - بذورا كثيرة للخير. ولكن صادقا لم يلق من يعينه على معرفة نفسه، ولقى، على العكس، من يستفزه، ويحنقه، ويستثير شر ما فى نفسه، بالتحقير والنفور والسخط والانصراف عنه يأسا منه، والقول أبدا أنه خائب لا خير فيه ولا أمل ... امنحيه ودك يا ميمى وانظرى ماذا يكون منه ... امنحيه الثقة على الخصوص، فإن ظمأه إليها - تلهفه عليها - أعظم مما تتوهمين. صدقينى.. إن إيلاءه الحب والثقة خليق أن يجعل منه إنسانا جديدا.. جربى.. عرفيه بنفسه المطوية.. أديرى له عينه فيها ... افتحيها له عليها ... لا تجعلى بالك إلى ثرثرة لسانه بما دفعه جهل الناس وسوء سيرتهم معه إلى اللغط به. فإن هذه الثرثرة ليست منه إلا من قبيل الدفاع عن النفس ... أهله جميعا يستخفون به، ويحقرونه، وينفضون أيديهم منه، ولا يرونه جديرا بأدنى عناية، أو أضأل حظ من الثقة. كفروا به جميعا، فهل يلام إذا ثار، وتمرد، وكفر هو أيضا بهم وبما يمثلون مما أغروه بكرهه؟ ولا تقولى إنى أنصفه دونك.. فإنى أنصفك أيضا.. أنت تظلمينه وأنا أحاول أن أريك كيف تنصفينه وترفعينه إلى منازل الكرامة والشرف والفضيلة عندك. فإذا استطعت هذا - وأنا واثق أنك تستطيعين - فإن هذا يكون انتصارا لك.. فماذا تبغين من الإنصاف أكثر من هذا؟»
وقد أطاعته ميمى فكفت عن مجافاة صادق. ولكنها ظلت تخشاه فى قرارة نفسها، وإن كانت تكتم هذا ولا تبديه ولا تدعه يظهر على وجهها أو فى سلوكها معه. وفرح صادق بهذا التحول من ميمى إلى محاسنته، فسلس قياده فى يدها، ولكنه طمع أيضا، أو على الأصح زاد طمعه فيها، فكان أحيانا ينظر إليها وكأنه يريد أن يأكلها، فتفزع وتعانى مشقة عظيمة فى كتمان ما يساورها من الخوف وتستعين على التجلد والتشدد بما قاله إبراهيم. وكانت ثقتها به كبيرة واطمئنانها إلى حكمته وسداد رأيه عظيما، بل تاما، فوطنت نفسها على أن تروض هذا الحيوان وأن تكون له أما رءوما، وإن كانت ربما حدثت نفسها أن ما لها هى. ولم يكن عندها جواب لذلك، سوى أنه يطاردها، وإن الصد والنفور لم تعد لهما أى جدوى، فما هو بالذى يصده شىء، فلعل الرفق يكون خيرا، وعسى أن تكون الحسنى أرد عائدة.
وطمأنها قليلا أنها استطاعت ذات ليلة أن تقنعه - على ما بدا لها - بأن يدع ذكر الحب واللغط به، وأن يقنع منها بالصداقة. وقد سخر فى البداية من هذه الصداقة التى تعرضها بديلا من الحب، ولكنها لطفت به، ولم تزل تحاوره وتداوره، حتى سكن وأمسك، ثم أظهر لها الرضى والاقتناع، وقال بابتسامة لم تخل من سخره المعهود: «ألا تعطيننى عربونا لهذه الصداقة التى جملتها فى عينى؟»
ولمحت السخر الذى فى عينه، وتوجست شرا من نبرة صوته، ولم تكن عبارته مما يبعث الاطمئنان، ولكنها تشددت وتحاملت على نفسها، وآلت لتمضين فى التجربة إلى نهايتها المقدورة، ومالت عليه فلثمت جبينه، فرفع إليها فمه وقال: «هنا موضع التقبيل ... ثم ألسنا قد صرنا صديقين؟» فامتقع وجهها وحدثت نفسها بأن هذه التجربة «الإبراهيمية» قد تؤدى إلى كثير لم يكن فى الحسبان، ولكنه أدهشها بوداعته وقناعته، فلم يحاول إطالة القبلة، ولم يهم بالضم والعناق، وارتد عنها مغتبطا ومضى إلى الباب. ثم كأنما أبى إلا إزعاجها وإقلاقها فقال ويده عليه: «لا أدرى من أشكر على هذه القبلة الأخوية. وأكبر الظن أنى مدين بالشكر للأستاذ ...».
ولم يفته تغير لونها عند ذكر إبراهيم، فقال: «اشكريه عنى من فضلك إذا لقيته قبلى». وتركها مبلبلة موسوسة.
الفصل الثانى
1
لم يكن إبراهيم حين استقر رأيه على الزواج من تحية يعرف قبل ذلك بدقائق - أى نعم بدقائق - أنه سيتزوجها، أو ينوى ذلك، أو يفكر فى زواج.
Неизвестная страница
وكان ابن عمته حامد - أو ابن بنت عمة أبيه إذا أردت الدقة - قد دعاه إلى ضيعته لقضاء أيام مع لفيف من الأهل والأصهار، وقال له فيما قال إن أسرة «طاهر بك» - عميد إحدى القرى المجاورة - ستكون هناك.
ومعها ابنتها «تحية».
وابتسم ...
فقال إبراهيم: «هذا الجمع يحشد إذن لهذا؟»
فقال حامد: «الحقيقة أنها فى حكم الخطيبة، وإن لم يجر كلام فى الموضوع».
قال إبراهيم: «إنك تذكرنى بمن قال لأمه إنه سيتزوج بنت السلطان، فما ينقصه إلا أن يوافق السلطان وبنته. هل أعرفها؟»
قال حامد: «لا أظن. فقد تعلمت فى الإسكندرية حيث اتخذ أبوها دارا فى الرمل قريبا من دارنا التى بعناها. وفى دارنا عرفناها وأعجبت بها. وأنت تعرف رغبة أبى فى تزويجى، ولكن بلدتنا ليس فيها كفؤ لنا. وقد أدرت عينى فى مركزنا كله فلم أجد من هو أكرم وأرفع منزلة من طاهر بك وإن كان دوننا ثروة».
فتبسم إبراهيم وقال: «يخيل إلى من يسمع كلامك أنك ستتزوج طاهر بك أو بقراته وعجوله أو أرضه، أو جاهه..».
فهم حامد بكلام صرفه عنه إبراهيم بقوله: «لا تقل شيئا.. إنى فاهم. هذا أنت.. كالريال النمسوى الذى ضرب فى القرن التاسع عشر.. يتعاملون به فى الحبشة، وقد بطل استعماله فى بلاده».
وأزجى إليه التهنئات «سلفا» ووعد بالسفر.
Неизвестная страница
وخطر له وهو فى القطار أنه آن لحامد أن يتزوج، فقد ناهز الخامسة والثلاثين، ولأبيه الحق فى الإلحاح عليه فما رزق من الولد غيره. ولا خير فى العزوبة لرجل انقطع للعمل فى الأرض فما يفارق القرية إلا فى الندرة القليلة ولأمر تستدعيه مطالب الزراعة. وحدث نفسه أن حامدا حكيم حازم، وأن أباه موفق. ومن حكمته أنه أقنع أباه بالتخلص من الدار التى بالرمل؟ فإن الإقامة فيها معظم شهور السنة تنأى عن «الغيط»، وتكل أمره إلى الأجراء الذين لا يبالون أجاد الزرع أم كندت به الأرض.
وانثنى إلى نفسه فقال إنه هو أيضا فى مثل سنه أو أعلى منها، ولا علاقة هناك تؤذن بزواج. وطافت برأسه صور الماضى فنحاها، كما يهش المرء الذباب. وليس له أرض يحمل همها، فقد كان له أخ أسن منه - عليه رحمة الله - «كنس ومسح » كما تقول العامة وأعفاه من هذا العناء. وقد عنيت أمه بتعليمه، وآتته القدرة على كسب رزقه بعرق الجبين، فما حاجته لأرض؟ وإنه ليكسب كثيرا، ولكنه متلاف لايبقى على شىء ولا يحسن أن يدخر قرشا أبيض ليوم أسود، أترى هى الوراثة؟ وإن ابن عمته ليرى إنفاقه عن سعة فيتوهمه أغنى منه وخيرا حالا.. وضحك إبراهيم وقال: إن هذا هو «الستر» الذى لا ينفك الجمهور الأكبر من الناس يسألون الله أن يضفيه عليهم. ولقد عمل فى الصحافة - وإنه الان لحر - يكتب فى الصحف والمجلات، ويؤلف الكتب، و«يدبج» التقارير والمذكرات لمديرى الشركات بالعربية الذين يحسنون غيرها، ولا يجحد فضل الله عليه.
وما زالت أمه تحثه على الزواج وتدعوه إليه وتقول له: إنها مريضة، إحدى رجليها فى الدنيا والأخرى فى ... العياذ بالله.. ولا قدر الله. وكبر فى وهمه أنه خليق بأن يضل ويشقى إذا فقد أمه؟ فإنها عصمة له. وثقلت عليه وطأة هذا الخاطر، فنفاه بجهد، وذهب يفكر فى تحية، كيف هى ياترى؟ وماذا عسى أن يبلغ من صبرها على حياة الريف وهى بنت الإسكندرية، المشرقة الوضاءة؟
وبلغ القرية، وقد مالت الشمس للمغيب، فاستقبله على الجسر، عند مدخلها خادم أبلغه أنه أعد له «الكشك» الذى فى الجزيرة، وأركبه زورقا إليها، وكان الجو سجسجا، وأشعة الشمس الذهبية ترقص على الماء، فانشرح صدره، وأمر الخادم أن يكف عن التجديف، فبقى - الخادم - كالتمثال، ومقبضا المجدافين فى حجره، وطرفاهما يقطر منهما الماء، والزورق يسبح على غير هدى. وصارت الشمس فى عينيه فرفع كفه وحجبها، فعاد يرى النهر المتوهج و«الكشك» القائم على شاطئه والخضرة اليانعة حوله، وود فى هذه اللحظة لو أنه كان إلى جانبه.. من؟ وأحس أن حياته ناقصة.. ودار فى نفسه ما يشبه الحسد لقريبه، فأنكر هذا، وبادر فقال إنه يرجو له السعادة مع تحية ... ترى كيف هى؟ طويلة؟ قصيرة؟ ثقيلة؟ خفيفة؟ ومتكلفة أم على الفطرة؟ وهز كتفه ومط بوزه، وتنهد. وأمر الخادم أن يرسو به.
وكان الكشك عبارة عن بيت من خشب، فيه غرفتان أرضيتان، واحدة للخادم والأخرى متخذة مخزنا لما عسى أن يحتاج إليه الضيف، وفوقهما غرفتان أخريان للنوم والجلوس، وحولهما شرفة من جهات ثلاث. والأثاث بسيط مريح: طارقتان - كنبتان - بينهما «كليم» من نسج الصعيد، فوقه منضدة مستديرة عليها رخامة، وإلى جانبها كرسيان من الخيرزان، ورف بجانب الباب عليه أكواب وفناجين للقهوة والشاى. وفى غرفة النوم سرير وكرسى هزاز، ومشجب ومنضدة صغيرة. وعلى حافة الشرفة قلل شتى الأحجام والأشكال ملأى بالماء ليبترد، وعلى أرضها وسائد منتثرة للجلوس.
وصرف الخادم وأخرج من حقيبته زجاجة ويسكى صب منها قيراطين فى كوب وشعشعه بالماء، وقعد على كرسى خرج به إلى الشرفة، وتبسم وقد تذكر أنه كتب مرة إلى صديق، من هذه الجزيرة - ومن هذا الكشك - يصف له الموقع والمقام، فما كان من صديقه إلا أن بعث إليه بالرد بهذا العنوان: «بكشك بجزيرة فى مجرى النيل بين قريتى كذا وكذا، لا يمكن أن يخطئها عامل البريد إلا إذا غلط وركب النيل على فرعه الاخر».
وخطر له وهو ينظر إلى الماء والخضرة، أنه لا يريد أن يعبر إلى حيث القوم فى «الدوار»، وماذا يصنع فى ذلك الزحام؟ إن حاجته إلى هذا السكون المريح. وقد يستغربون تخلفه عن العشاء معهم، ولكن فى وسعه أن يعتذر غدا بطول الرحلة وتعب السفر ووجع الرأس. وعلى ذكر ذلك قال لنفسه إن رأسه سيوجعه على التحقيق إذا ظل يعب فى هذا الشراب.
ونهض وانحدر على درجات السلم الخشبى وتلفت فلم يجد أحدا، حتى الزورق اختفى، لابد أن يكون «آدم» قد عاد به إلى الضفة الثانية. إذن سيجىء على الأرجح بحمولة أخرى. وقطب، فقد كان يؤثر أن يظل وحده فى هذه الجزيرة الساكنة، وأن يسعه أن يقول كما قال الشاعر بلسان مستفرد وحاد فى جزيرة كهذه: «إنى ملك على كل ما أرى!». وراح يتمشى، فأشرف على مزرعة بطيخ، فنزع واحدة صغيرة ودقها على ركبته فانفلقت وانشطرت، فإذا هى حمراء مغرية، فقضم، فاستحلاها، فعكف على القضم، وابتل أنفه وخداه، وهو لا يحفل ذلك، ورمى القشرة البيضاء الماسخة، واستأنف المشى غير جاعل باله إلى الوقت.
ودخل الليل فقعد على الأرض، ومد ساقيه، ومد بصره أيضا ليرى الماء. وكان يسمع خريره، ولا يبصر إلا سوادا يخلطه فى رأى العين بالأرض، إلا حين تلتمع صفحته من بعيد. وشاع فى نفسه الاغتباط، فصح عزمه على التخلف عن العشاء هناك. وحدث نفسه أنه اعتاد، فى حياته المضطربة أن يتقبل بقبول حسن ما تجيئه به الساعة التى يكون فيها، وأن لا يضيع أو يفسد ما يفيد فيها بالطمع فيما عسى أن يجنى من سواها. وإنه لكذلك.
وإذا بحفيف توهمه بادئ الأمر من أوراق الشجر، وكان الظلام والسكون قد أرهفا سمعه، فخيل إليه أن أحدا قادم، فحدق فى الليل فلم ير شيئا. وكانت الكلاب تنبح - على الناحية الأخرى من النيل - والضفادع تنقنق حوله، ولكن هذه الأصوات كانت تزيد السكون عمق وقع فى نفسه.
Неизвестная страница
وخاطبه صوت عذب فيه نبرة الشباب: «وحدك؟»
فوثب إلى قدميه من الدهشة، فقد كان صوت فتاة، ما فى ذلك شك. واضطرب وهو ينهض بسرعة، فكاد يقع، لعجلته ولقلة استواء الأرض، وامتدت يداه كأنما يحاول أن يمسك شيئا يعتمد عليه فيتقى الوقوع. فعل ذلك بالغريزة، ولو أتيح له أن يفكر لما دفع يديه. وكانت دهشته أعظم لما التقت يداه وهما تذهبان فى الهواء بجسم لين، ولو فكر لما تعجب.
وقالت: «لا تفعل هذا مرة أخرى. كدت توقعنى فى الماء».
كأنما كان قد تعمده.
فقال - وفاته أن يعتذر -: «لم أكن أدرى أن الماء قريب من هنا». وكان لا يرى منها إلا ثوبها الأبيض، وكان مع ذلك غامضا.
ولم يسمع جوابا فقال: «أنا إبراهيم ... قريب حامد».
وانتظر، فجاءه الجواب فى الظلام الدامس: «أنا تحية.. تحية طاهر».
وأضحكه أنه كان ينحنى لها فى الظلام، ولكنه صد نفسه عن هذا العبث وقال: «ستكونين سعيدة مع حامد.. رجل طيب جدا.. لا لأنه قريبى. بل لأنه طيب».
فلم تجب عن هذا، وقالت: لأ أظنك تتعجب وتتساءل عما جاء بى إلى هنا؟ وحدى فى الليل ... لا ألومك إذا تعجبت ... ولكنه لم يكن يسعنى إلا أن أفعل ... كان لابد أن أفر ... لم أعد أطيق الزحام ... ضاق صدرى جدا ... عمتك ست طيبة جدا ... غريبة ... لا متعلمة ولا.. مثقفة.. ولكنها ذكية.. ذكية جدا.. أدركت حاجتى إلى الهواء الطلق.. وإلى البعد من هذا الزحام.. والراحة من الضجة.. ورافقتنى إلى هنا!. وضحكت ثم قالت: «لفت نفسها بملاءة سوداء، كأن أحدا يمكن أن يراها فى هذا الظلام، وجاءت معى، تركتها فى الكشك، وخرجت أبحث لها عنك، فما جاءت إلا من أجلك. تالله ما أطيبها ... تحبك كحامد».
ولم يستغرب ما أنبأته به، فقد كان يعرف حبها له، ولا عجب فإنها بنت عمة أبيه. ولكنها كانت تحنو عليه حنوا شديدا، ولعل كل هذه الرقة منها له، مصدرها حبها لأمه هو؟ فقد كانتا صديقتين. امرأة طيبة على كل حال، ولها عنده منزلة تقارب، وإن كانت لا تعادل، منزلة أمه. فإن هذه لا شريك لها ولا مزاحم وكلهم يعرف ذلك، وما من أحد يسوءه أن منزلته عنده دون منزلتها.
Неизвестная страница
وقالت تحية: «إنهم هناك يلغطون بغيابك».
قال: «أحسب أنى فررت سلفا. كما تفرين من الضجة».
وسكتا.
وراعه بعد هنيهة أنها تدندن - بصوت خافت ولكنه يسرى إليه - بكلام لا يتبينه.
ثم قالت وقطعت الغناء: «لست أحسن أن أغنى. ولكن هذا الليل الساجى ... وهذه الجزيرة المنعزلة.. والماء الذى يومض من بعيد وإن كان أدنى شىء ... كل هذا أغرانى ... سامحنى».
فلم يقل شيئا.
وبقيا واقفين برهة، ثم قالت، وخيل إليه أنها تبتسم: «إن حديثنا عبارة عن فترات من الصمت، هل نعود؟»
فمشى خلفها صامتا، وسمعها تقول، كأنها تحدث نفسها: «غريب ... منذ نصف ساعة كنت بين عشرين أو يزيدون، وإذا بى أشعر فجأة أنى وحدى ... أحسست بوحشة عجيبة وسط القوم.. أعنى أنى لم أشعر فى نفسى بوجودهم حولى.. كيف تعلل ذلك؟»
قال: «لعله الحب».
وندم على ما قاله، وود لو كان لسانه استل أو قطع، ولم يقله، وخشى أن تحمله على محمل السخرية أو التقريع.
Неизвестная страница
وخيل إليه أنها استدارت ونظرت إليه. على أنها لم تقل شيئا، حتى بلغا الكشك.
2
وراها فى الكشك - على ضوء مصباح بترول تحمله حلقة مدلاة من السقف - وخيل إليه أن وجهها متهضم، ولونها باهت، وأن شفتيها ذابلتان، وأن جسمها كله صغير منحوف لا ترى عليه نعمة، وخطر له أن لعل هذا اليبس والسهوم من ضوء المصباح، أو لعلها أساءت اختيار الثوب ولونه أو لم تحسن تفصيله على قدها، ونصف جمال المرأة يستفاد من تفصيل الثوب ولونه.
وقالت له عمته، بعد أن رحبت به، وربتت عليه، ولثمت جبينه، ولثم هو يدها: «يا ابنى. لماذا أبطأت علينا؟»
فقال بإيجاز: «السفر، والكسل، والاسترخاء».
قالت: «لا. هذه آفة العزوبة الطويلة، اعتدت الوحدة». وابتسمت فانبسطت أسارير وجهها المخدد، وقالت: «عندى لك عروس. تعال، وتمل بالنظر إلى حسن وجهها».
قال: «من تكون المسكينة؟»
قالت: «إيه؟ لا تقل هذا، إنك لقطة».
فقهقه وقال: «أنت وأمى ... لا أدرى أيكما شر؟»
واشتركت تحية فى الحديث، فقالت: «هى زهرة ... زهرة غضة نضيرة».
Неизвестная страница
فألفى نفسه يسألها: «مثلك؟»
قالت: «لا تسخر منى».
وقالت عمته: «نعم ياسمينة مثل تحية».
وهز رأسه كالموافق. وحدث نفسه أنه لا يسعه غير هذا.
وسمع تحية تقول: «ليتنى كنت ذاك، ولكن الحقيقة أنى ... إن الذى يرضى بى يحتاج إلى الصبر الطويل، والحلم الكثير. فإنى كثيرة النسيان، أنسى مشابك شعرى ولا أذكر أين وضعتها ... وأهم بقطف قرنفلة فأقطف وردة، وأذهل عن الطعام وأنا أقرأ، وأذهب إلى محل أو بيت أعرفه، فادخل فى شارع غير شارعه، وأترك نقودى ومناديلى وأشيائى الأخرى فى كل مكان، ثم أروح أزعج الناس بالسؤال والبحث، ثم إنى لا أحسن شيئا، ولست أكتم عيوبى أو أخفيها، ولكنهم يضحكون ولا يصدقون».
فألفى نفسه يقول مرة أخرى: «سيسعد بك حامد».
ودار فى نفسه قولها إنها دائمة النسيان، وإنها لا تحسن شيئا، وإنها تشغل بالزهرة والكتاب عن الطعام وتدبير المنزل. وكان يسمع خرير الماء، تحت قدميه فيما يحس، ويرى ضوءا خافتا على الضفة الأخرى. وحدث نفسه؟ وهو يكلم المرأتين - العجوز والصبية - أن تحية لن تكون ربة بيت كأمه، ولكنها أجدى له منها ... ومن يدرى!. لعل زهرة مطلولة تكون أشهى - وألزم أيضا - من حكمة ربة البيت المدبرة، وعسى أن يكون الفل والياسمين والقرنفل والنرجس والورد على أغصانه أو فى زهريته أجلب لطيب الحياة، ورغد العيش. ولم يطل عمر هذا الخاطر سوى هنيهة ثم طرده ونحاه. وراح يقول لنفسه إن المرأة التى يتزوجها، إذا قسم له الزواج، تحتاج أن تكون كأمه، حسن تدبير، وسيكون عليها أن تؤدى طوائف شتى من الواجبات المختلفة، ولن تكون فى بيته للزينة والمتعة وحدهما. كلا. فليس هذا جزاء أمه.
ورأى نفسه يقول: «صبرا حتى تتزوجى. وحينئذ تتغيرين».
وأمنت العجوز على ذلك وأكدت لتحية أن الزواج يذهب بكل ما أحدث التدليل والفراغ.
وقالت تحية لإبراهيم: «أواثق أنت أن الزواج يفعل هذا؟ ليته يفعل».
Неизвестная страница
قال: «هذا أثره فى العادة ... يحدث تغييرا على كل حال».
قالت: «لا أدرى لماذا كنت أتوقع أن تقول لى شيئا آخر ... أهم».
قال وهو يبتسم: «آسف.. ربما كان حامد أقدر على ذلك ... وأولى».
وبدا له أن كل هذا الحوار غير لائق، فى الكشك، وفى جزيرة منعزلة. وخيل إليه مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتحرك، ولا يقدر أن يعبر إلى الضفة الأخرى ... فى هذه الليلة على الخصوص. وكبر فى وهمه أن لا وسيلة إلى الاتصال بهذه الضفة الأخرى، كأن الجزيرة قد سبحت وانتقلت إلى موقع اخر قصى ... موقع ليس له حدود، ولا على جانبيه ضفتان. وكم من «ضفة أخرى» فى الحياة ينشدها المرء ويشتهيها ويتمناها ولا يبلغها.
ولم تقل له عمته من العروس التى اختارت له. ولكنه عرفها تخمينا، وهل فى القرية كلها من بنات الأسر الظاهرة من تستحق أن توصف بالجمال غير «كريمة»؟ وكان أبوها قد اختفى بعد مولدها وانقطعت أخباره فليس يعرف أحد أحى هو فيرجى، أم ميت فيندب؟ وآثرت زوجته له الموت كراهة منها لأن يكون حيا، ويهجرها هذا الهجر القبيح، وإن كان قد ترك لهما أرضه ولم يبعها ولم يرهنها، فنشأت كريمة يتيمة وإن كانت لعلها غير ذلك . وكان عهد إبراهيم بالبلدة غير قريب ولكنه تذكر كريمة كما راها آخر مرة: وكانت تفرق شعرها الوحف من الوسط وترسله على جانبى وجهها وتربطه من الخلف بأنشوطة، فكأن محياها من شعرها الدجوجى فى إطار. وكانت وجنتاها كالوردتين، وعيناها سوداوين نجلاوين، وفيهما سعة وفتور. وقدر إبراهيم أن تكون قد ناهزت السادسة عشر من عمرها الغض فهى صغيرة، ولكنها لابد أن تكون الآن ناضجة. وتبسم إذ تذكر حديثا روى له لما كان فى البلدة اخر مرة، وكان على الطعام مع الأسرة، وكانت كريمة وأمها حاضرتين. وكانت كريمة تتهامس هى وجارة لها فى مثل سنها، وكان ذلك يستغرقهما ويكاد يلهيهما عن الطعام. وكانت عمته على يمينه، وإلى جانبها فتاة صغيرة أخرى، فمالت الفتاة على عمته فألصقت فمها الدقيق - وعليه ابتسامة رفافة - بأذنها وقالت همسا - كذلك جرت الرواية -: «هل تعرفين فى أى شىء تتحدث كريمة وفتحية؟» قالت المرأة: «كلا. ولكنا نحن أيضا نستطيع أن نتهامس مثلهما». قالت الصغيرة: «ولكن لا يجوز أن يسمع إبراهيم ما أقول»، فوعدتها الكبيرة أن تكتم الخبر، وأكدت أن الكلام سيدخل من أذن ويخرج من أذن. فزوت الصغيرة ما بين عينيها وقالت: «إذن سيصك سمعه لا محالة»، فضحكت الكبيرة وطمأنتها على أن الكلام الخارج من الأذن الأخرى لن يبلغه، فأنبأتها أن كريمة تحب إبراهيم ...
وأقبل الخادم الهرم «عم آدم» يسأله ألا ينوى أن يتعشى؟ فقال إبراهيم إنه يكتفى ببطيخة، وطلب منه أن يقطعها ويقشرها ويضعها على الشرفة لتبرد. ففعل، ووضع معها سكينة، فاستغرب إبراهيم وقال له: «كان الأولى أن تجىء بشوكة إذا كان لابد من شىء آكل به» قال: «هذه لتصرف الشمامة» فلم يفهم وسأله «أى شمامة؟» قال: «التى تشم البطيخ»، فضحك إبراهيم وصرفه، وغطى الطبق بفوطة. ولكنه نام قبل أن يأكل منها فى ليلته.
وفى الصباح عبر النهر إلى الضفة الأخرى التى زايلها الغموض والنأى فى النهار، فالتقى بالقوم جميعا جلوسا إلى المائدة يفطرون. وكان الجو رقيقا، والهواء معطرا بأنفاس الحقول والرياض. وأقبلت تحية تسلم عليه كأنها لم تره من قبل، فاستغرب هذا وكبر فى ظنه أن لعلهما كتمتا رحلتهما إليه البارحة فلماذا؟ أتراهما يخشيان أن يثير الخبر غيرة حامد؟ ومم يغار الأبله؟ وأيتهما صاحبة الرأى فى الكتمان؟ وألفى نفسه يسخط على عمته.
وحدث نفسه وهو يختلس النظرات إلى تحية أنها أقل جمالا حتى مما توهمها البارحة فى الظلام. ولم يخدعه المصباح حين أراه أن خديها متهضمان، ووجد أن عينيها عسليتان، وبدا له أن جمال شعرها فى أنه كأنما يأبى أن يخضع للتمشيط أو التصفيف أو الترجيل. وكانت لا قصيرة ولا طويلة. على أنه أحس أن عليه أن يغير رأيه فيها، وإن كان لم يدمن النظر إليها، فإن لها لجمالا، وإن شبابها ليفيض عليها رونقا عجيبا، وإن فى صوتها لحيوية «حادة» هذا هو الوصف الوحيد لما يصافح سمعه من نبراتها، وخيل إليه أن حيويتها تكاد «تؤلمها». واستغرب منها أنها طويلة النظرات حديدتها، ولكن فيها مع ذلك رقة مستوردة، ولينا وراء هذه اللحظات الحداد. ثم رشاقة جسمها ومرونة بدنها ...
وأمسك عن الاسترسال، وأنكر من نفسه أن تطوف برأسه هذه الخواطر، وشعر بارتباك، فأطبق فمه وزمه كأنما كان يتكلم. وأحس أن وجهه يضطرم، وخشى أن يلاحظ أحدهم ذلك، وسمع حامدا يقول لتحية، وكأن الصوت يأتى من بعيد: «إنك خليقة أن تحبى إبراهيم فإنه من هؤلاء الخياليين الذين تعجبين بهم. يحلم بدنيا سعيدة حافلة بالخير، له ولمن حوله من أهل وإخوان».
وسمع نفسه يقول فى جواب ذلك: «إنى ما فكرت فى هذا قط، ولكنك لابد أن تكون على صواب».
Неизвестная страница
وغاظه ما انطوى عليه كلام حامد من التهكم، وأعياه أن يجد له مسوغا وراح يتعجب لتحية مرة أخرى.. كيف يا ترى ستكون حياتها مع هذا الرجل الذى لا يلبس إلا الجلاليب الفضفاضة، ولا يعنى بغير القطن والفول والذرة والبرسيم والجاموسة والثور؟ وود فى هذه اللحظة لو يعرف رأى حامد فى تحية.. وانثنى من هذا يسأل نفسه عن رأيه هو فيها؟ وامتعض وقال لنفسه إنه لا حاجة به إلى جواب، ولا حق له فى أن يكون له رأى فيها، فإن شأنها لا يعنيه.
ونهضوا عن المائدة وذهب هو إلى الشرفة المطلة على النيل من بعيد، وكانت كريمة قد سبقته إليها وهو لا يدرى. فخشى أن يساء تأويل ذلك عند قوم عهده بهم أنهم لا تفوتهم كلمة أو حركة من ضيف، ولا يبعد أن يحملوا ما يكون منه على غير محمله، وخطر له أن يقظتهم وسوء ظنهم ثمرة عصور طويلة من الظلم والاستبداد وقلة الأمن والاطمئنان، وأنهم ورثوا ضعف الثقة بالعدل وحسن النيات.
وكانت كريمة متكئة على السور، فاعتدلت لما دنا منها، وتبسمت له. ولكن لسانه لم يسعفه، فلم يجد كلاما حاضرا، وكان يرى جانب وجهها المتورد، وشعرها الفاحم المرسل، وتذكر فى هذه اللحظة تحية - لا يدرى لماذا؟ - وهى تدندن بما لا يتبين فى ظلام الليل على حافة الجزيرة. وأغضبه أن تنثنى خواطره مرتدة إلى تحية، وأن لا يستطيع الكلام مع هذه الفتاة المشرقة الديباجة، الصابحة المحيا، كأن على فمه شبح يد يصده عن فتحه.. ورآها تنظر إليه بعينيها الواسعتين الفاترتين، ويفتر فمها الدقيق المغرى، وخيل إليه أن أنفاسها أسرعت، وأن صدرها يعلو ويهبط، وأحس أن شبابها يحمل عليها حملة رجا ألا تكون عنيفة هوجاء.
وقال فجأة، ومن غير أن يفكر: «أنت أجمل من رأيت يا كريمة».
فاتقد محياها وقالت وهى مطرقة: «يسرنى أن هذا رأيك».
ورآها جادة، وكان صوتها عميقا ساكنا كصوت الماء حين ينتهى إلى بركة. ووقفا بعد ذلك صامتين. ثم مضت بخطوات بطيئة إلى الداخل. فلما بلغت الباب التفتت إليه ولم تقل شيئا، وألقت إليه ابتسامة خفيفة.
وارتد بعدها داخلا فالتقى بتحية فسألها متبسما: «متى الزواج إن شاء الله؟» فهزت كتفيها، ثم قالت وأغفلت سؤاله: «الجزيرة أحلى من هنا».
فلم يدر أهى تصرفه، أم تبدى رأيا. وقال: «الحق معك. سأعود إليها».
قالت: «الآن».
وقال وقد ذهب عنه الشك: «نعم، فإنى بى حاجة إلى عزلتها. هى عالم اخر تسكن فيه النفس، وتطمئن، وتكف عن الجيشان، وتستريح من شدة المخض. ثم هناك الخضرة والماء - كهنا - ولكنهما هناك أوقع، حتى كأن الماء أمهى، والخضرة أخضر».
Неизвестная страница
قالت: «والوجه الحسن»؟
قال: «هذا أتركه لحامد».
ولم يدر لماذا قال هذا. وكأنما لم تلتفت إلى ما سمعت، فسألته ورفعت حاجبيها قليلا: «والمخض؟»
فابتسم، وأطرق هنيهة ثم رفع رأسه، وحدق فى وجهها الشاحب، وهم بكلام، ثم عدل.
وتركها ... إلى الجزيرة.
3
وقال لعمه - كما اعتاد أن يدعوه -: «إن ضيفكم يدعوكم أن تكونوا ضيوفه».
فضحك الشيخ وصار فمه الفارغ كمدخل الكهف. وكان فى يده مغزل وصوف يصنع منه جوارب للشتاء. وقال إنه ليس هناك ضيف ومضيف. فقال إبراهيم: «إنما أعنى أن الجزيرة أحلى وأطيب، وأن المقام فيها أحرى أن يكون حميدا فى كل وقت». وألفى نفسه قد حمس وهو يقول: «ثق يا عم أنها قطعة من الجنة وإن كانت كلها بطيخا، وليس فيها سوى حوض واحد صغير من الورد خلف الكشك. ولكن أليس البطيخ نصف فاكهة أمة محمد؟ وما أراها ينقصها إلا الحور العين، فأرسلهن إليها، وأطلقهن فيها واعمرها بهن، وسأسبقهن لأعد لهن متكات أو حصيرا مما فى المخزن. وما أظن أن الحصير مما يفرش فى الجنة لأهلها السعداء، ولكننى أظن أن الحصير فى جنة، يكون أوثر من السجاد العجمى، والعبرة بشعورك بأنك فى جنة».
واضطجع فى الزورق ويده على الدفة، وأمامه فى وسط الزورق عم آدم يجدف، وطاف برأسه خيال كريمة، فانطلق يفكر فيها وفى شبابها الغض وشعرها الوحف، وتذكر أنهما تقاذفا كرة قبل بضع سنوات، فكان ثدياها الناهدان يرتجان، فكف عن ملاعبتها إشفاقا على نفسه.
وكان لطول ما استنفدت الوحدة من حياته كثير التفكير طويله، يستطرد من خاطر إلى خاطر ببطء وعلى مهل، كالذى أمامه الدهر كله فلا موجب للعجلة. ومن أجل ذلك كانت عباراته - حين يتحدث - قصيرة موجزة، وأشبه بفهرس الكتاب، تومئ إلى ما فيه ولا تبسطه، إلا حين يقصد إلى الإفهام، أو يرى مدعاة للبيان. وكان فى الأغلب هادئا لا يكاد يخرجه شىء عن طوره، ولا يسبق لسانه عقله وإن كان عصبيا، لطول ما راض نفسه على الحلم والاتزان.
Неизвестная страница
وخطر له وهو مضطجع فى الزورق أن لسانه أفلت منه زمامه وهو يحادث تحية. وهز رأسه لما خطر له ذلك مستنكرا «فضول» تحية وتطفلها على خواطره، كأنما كانت هى التى أقحمت نفسها.
وترك الزورق ورده إلى الضفة الأخرى ليجئ بمن يشاء أن يجىء ممن يقبل دعوته. واستلقى على الوسائد فى الشرفة فنام. ثم استيقظ على مثل أصوات العصافير تناديه، فألفى عمته قاعدة على عليا درجات السلم الخشبى. وأجال عينه فرأى كريمة حيث كان هو قاعدا فى الزورق، وعينها على الماء، وكفاها على الحافتين وعلى صفحة خدها الوردية خصلة متمردة من شعرها المرسل، فخطر له أن هذه فرصة ... بعد دقيقة أو اثنتين - إذا ظلت كما هى - أهبط إليها. ونطت سمكة من الماء ثم غطست. وأبصر «ذهبية» مقبلة يقطرها زورق بخارى كبير فوقف ينتظر مرورها، ودنت فأبصر الذين على سطحها يطلون على الجزيرة، فتمنى لو كان معهم. وإذا بأحدهم يصيح: «يا ولاد الكلب ...»، وأضحك إبراهيم هذا الأسلوب فى الإعراب عن الإعجاب، واستغرب أن يحسد ركاب الذهبية الأنيقة الفخمة سكان جزيرة ليس فيها سوى البطيخ، ونسى أنه وصفها بأنها قطعة من الجنة، ولكن لعل الجنة ليست جنة إلا نسبيا، وفى أوقات دون أخرى.
ولم تبرح كريمة مكانها من الزورق، ولم ينزل إبراهيم إليها، وكأنما أتعبتها الجلسة فتحركت ووضعت يديها وراء رأسها فبرز صدرها الناهد. ولم يسعه إلا أن يرى أحد ثدييها ناتئا راسخا كالكمثرى. وسخط على نفسه حين جرى بباله هذا، فرد عينه عن النظر، وأدارها فى الجزيرة، فرأى تحية مع أتراب لها، فتذكر دندنتها فى الظلام وشعر بأسف لأن ألفاظ الأغنية قد فاتته، فخطا خطوة، فضربت الشمس وجهه وأزاغت بصره، فلم يعد يرى سوى نقط سود ترقص فى الجو، فلفت وجهه، فرأى تحية تنظر إليه. وخيل إليه أن فى نظرتها حيرة واضطرابا، وأنها أجمل من رأى - أجمل على كل حال من كريمة - ونزل إليها لا إلى كريمة. وقال بلا مناسبة: «لقد كانت الشمس فى عينى»، فلم تقل شيئا، ولم تنظر إليه . وكان وجهها إلى الشمس وشفتاها منفرجتين، وكفها مرفوعة إلى جبينها. ثم التفتت إليه وقالت: «أحسست بشىء غريب ...» وأمسكت ولم تزد، وأطرقت هنيهة ثم مضت عنه - فى صمت - إلى الكشك.
ولم يحدث فى بقية ذلك النهار سوى أن الطعام جاءهم من «الدوار» فى الزورق فأكلوا وتلاغطوا، ثم رقد من رقد، وذهبت البقية تتمشى فى أرض الجزيرة. وكان إبراهيم ممن رقدوا، فقد كانت عادته أن ينام قليلا بعد الغداء. وأطل على حوض الزهر من غرفة نومه، فبدا له كالمنديل الموشى. وطلب القهوة، وكان يتوقع أن يجيئه بها عم ادم، فجاءته بها كريمة، فجرى بخاطره أن هذا من مكر عمته، أو من يدرى؟ لعلها بريئة وهو يظلمها. وصبتها له فى الفنجانة، وناولته إياها، كما تفعل المرأة إذ تقوم على خدمة بعلها. وثقل على نفسه هذا الخاطر. وجلست أمامه وهو مغمض عنها لغير علة يدركها، فتوجع لها فى سره، وعكف على القهوة يترشفها، والسيجارة يدخنها ولا يكاد يرفع رأسه، وفى أذنيه دندنة تحية، وفى عينيه منظرها وهى واقفة تظلل نفسها من الشمس براحتها.
وملت كريمة الانتظار والإعراض فسألته: «فيم تفكر؟»
فقال - بلا تفكير -: «فيك».
فضحكت ضحكة السرور والخوف والأمل والشك وقالت: «إن هذا خير على كل حال من الصمت».
ولم يكذب إبراهيم حين قال إن تفكيره كان يدور عليها، وهو يتصور تحية، فقد كانت خواطره تروح وتجىء من هذه إلى تلك كرقاص الساعة. وكان يشعر بحيرة لا يدرى لها سببا، فإن تحية خطيبة حامد أو فى حكم الخطيبة، فلا داعى لانثناء خواطره إليها، وقد يسعدها أو لا يسعدها فذاك شأنهما وحظها. أما كريمة فشأنها مختلف جدا، وهى حرة طليقة مثله ومن واجبه أن يقصر خواطره عليها وأن لا يعدوها إلى سواها - إلى تحية على الخصوص - إذا كان لا معدى عن التفكير فى إحداهما. فإذا اقتنع بأن زواجه بكريمة يكون ملائما فبها، والا ... وإلا فقد انتهى الأمر. فما هو مقيدا بشىء. وليس من الضرورى أن تكون المسألة مسألة حب ... فى البداية لا ضرورة ... فإن الحب شجرة تنمو، ولا تخلق كاملة فى لحظة بأغصانها وأورا قها ونوارها.
وجاء الليل، على عجل فيما أحس، وتمشى مع ضيوفه فى الجزيرة. وانفض من حوله، وبقى هو على الشرفة وحده وخلا بنفسه وخوالجه. ولم يكن ما يدور فى نفسه يبلغ أن يكون خواطر أو معانى، فقد كان لمحات خاطفة ينقصها الاتصال والتسلسل، كالشرار المنبعث من وقع حوافر الجياد على أرض صلبة. ولا كان «عواطف»، على قدر ما كان يستطيع أن يتبين. وكان الأمر يبدو له أشبه بالومضات من خلال السحب. وأورثه ذلك الغموض اكتئابا لا تعليل له يعرفه.. كلا لم يكن هذا اكتئابا، وإنما كان رأيا لا يتكون ويتولد شيئا فشيئا ويبرز من هذا الغموض الذى كان يلفه فى مثل الضباب الكثيف.. وإذا به يدرك فجأة أنه لا يستطيع أن يتزوج كريمة.
وأدهشه إدراكه لهذا. وحاولى أن يطرد ما باغته منه، ولكنه شعر أن هذا عبث وأن لا مفر له من الاعتراف بهذه الحقيقة التى كأنما صاح بها فى وجهه صائح. وأحس بمثل اللطمة حين تبين أنه لا يحبها، ولا يستطيع أن يحبها، لا لعيب فيها، بل لأن هذا هو شعور قلبه. ورفض ما كان يقول من أن الحب خليق أن يجىء على مهل وبحكم الألفة.. كلا لا سبيل إلى هذا. ولو تزوجها لقضى عليها بالشقاء السرمدى.. وليس الأمر أمر امرأة يلقى إليها بزمام بيته. ولو كان كذلك لكان سهلا وخيرا أيضا.
Неизвестная страница
وخطر له أن لعله قد شط وأسرف، فأراد أن يراجع نفسه ويحاسبها، فسألها: «ما عيب كريمة؟» ونفى أن بها عيبا. فإن لها لجمالا، وإنها لعلى حظ من التعليم، وفى مقدورها بفضل نشأتها أن تتولى أمور بيته، وتريح أمه. وكره هذا اللون من التفكير، وحدث نفسه أنه لا يشترى بقرة من السوق. إذن ما علة هذا النفور من كريمة، وستشقى المسكينة، إذا صح ما كان بلغه عنها من. حبها له، وإذا صدقت دلائل ما رآه اليوم منها.. ولكن هل هى تحبه؟ إنها صغيرة، ولا يبعد أن يكون ما تشعر به - إذا كانت تشعر بشىء - ثمرة الإيحاء وجنايته. ولعل عمته الماكرة قد ظلت تحدثها عنه وتعدها به حتى تعلقت المسكينة بهذا الأمر، وشغل به خيالها، وصارت تحدث به نفسها وتناجيها. ولكن شبابها خليق أن يكون عونا لها، وسيندمل الجرح بسرعة، والشباب كفيل بذلك. والآن ماذا ينبغى أن يصنع؟ هل يخاطب عمته لتكف عن إلقاء الفتاة عليه؟ أو لا يقول ولا يصنع شيئا؟
ونهض. وفى مرجوه أن يفتح الله عليه بالرأى الأصوب، وانحدر ومضى إلى الشمال حتى بلغ حوض الورد، وكان الظلام قد أرخى سدوله، فاستغرب أن يبدو له الورد أسود فى الليل، وخطر له أنه لم يلاحظ ذلك من قبل. ثم استأنف المشى، فالتقى بمن لم يتبين، ولكنه قال: «تحية؟» نطق اسمها غير مستغرب كأنما كان يدور على لسانه طول عمره. ولم تجبه. ولكنها بدت له كأنها تترنح، وكبر فى ظنه أنها ستقع، فخطا إليها ودنا منها وأحاطها بذراعيه، فلم تدفعه، ولم تلق بنفسها عليه. وكانت كأنها غير مفيقة وليست تامة الوعى، وكان رأسها مطرقا، وذراعها على ذراعه. وظلا هكذا برهة، وهو مطوقها بذراعيه، وهى واقفة لا تبدى حراكا، ولا تقبل ولا تنفر، كأنما ليس لها فى الأمر رأى أو خيار، ثم رفعت رأسها، فأحنى رأسه، وباسها.
ولم يشعر حين باسها بنشوة، وإنما كان شعوره باغتباط هادئى. وكان مبلغ إدراكه لما هو فيه شبيها بصوت الموجة مقبلة من بعيد. وتلقت قبلته أول الأمر بلا مجاوبة، كأنها تمثال، ثم حركت شفتيها بغتة، وباسته، فأحس كأنه يكاد يختنق.
وكأنما ارتجت الأرض فتحاجزا، وتراخت السواعد إلى الجنوب. وكان يستطيع أن يرى، على الرغم من الظلام، جانب خدها وبياض جيدها، ويحس رشاقة قوامها، ويود لو تكلمت، لو نطقت بأى شىء، ولكنه لم يسمع سوى أنفاس غير منتظمة، ولم يجد هو كلاما يقوله سوى: «يحسن أن نجلس».
وجلسا، متباعدين، غير متلامسين. وخطر له وهو يتدبر تعمدها التباعد، أنها المعرفة التى أحوجت آدم وحواء إلى الخصف بورق الجنة، وكانا قبل ذلك لا يستحييان من العرى ولا ينكران شيئا. ثم قال بعد برهة: «لست آسفا، فلا تتوقعى منى الإعراب عن أسف». وقالت بعد فترة: «ولا أنا. كلا، لست اسفة، وإنى ...».
ولم تتمها.
فهم بكلام، فرفعت كفها الدقيقة الرخصة إلى فمه تصده، وقالت: «إنك لا تدرى ... ولكنى تمنيت أن يحدث ما حدث ... لم يبق إلا أن تقال الحقيقة فلأقلها. ولم أكن أدرك على وجه واضح ما أبغى، ولكنى كنت أحس برغبة غامضة فى شىء غير جلى. أخشى أن ترى كلامى هذا فارغا، ولكنى لا أعرف كيف أقول غير ذلك، وإنما أصف ما خامرنى».
قال: «لست أراه فارغا، فإن له لصدى فى نفسى. أنا أيضا كنت جاهلا ما يضطرب به صدرى، وكنت أحسى دفع الدوافع إلى مجهول أو غامض يأبى أن يخرج إلى النور. وقد عرفنا الآن، وهذا هو المهم، وسأخبرهم بما حدث، فما يليق ولا يعقل أن يبقى هذا مكتوما وموقفهم منك ما تعلمين وأعلم. يجب أن يسدل ستار على هذا الفصل، وإلا صار هزلا مرا».
فألحت عليه أن لا يقول شيئا، وأن يدع لها تدبير الفكاك من الموقف، فإنه موقفها، فأبى. فعادت تلح، وقالت: «إن ظهور الحقيقة يثير العداوة بينه وبين أهله، وبينهم وبين أهلها، ويخلق لغطا هم جميعا فى غنى عنه، وقد يحمل أباها على العناد فيأبى عليهما الزواج. وفى الوسع اتقاء هذا كله بالحكمة وحسن التدبير».
وبدت له الحكمة فيما تشير به. ولكنه رأى فيه ضربا من التامر والتواطؤ غير لائق، وذهب إلى أن الصراحة أمثل وأكرم. فوافقت على أن هذا تآمر قد تأباه المروءة، ولكنه تآمر يتقيان به ما هو شر من لوثته - يتقيان به لغطا أليما لا داعى له ولا مسوغ؛ وعداوة يسهل اجتنابها، وعذابا غليظا قد يجره عليهما استنكاف أبيها، وما قد يغريه به من العناد، ويكسبان به أخيرا سعادتهما.
Неизвестная страница
فأصر على الإباء أنفة منه أن يسلك هذه السبيل العوجاء، وأنفة - لم يصارحها بها - من أن يكل إلى امرأة تدبير أمره. فعرفت له ذلك، ولكنها هى أيضا أصرت على رأيها. ولما رأته لا يقتنع أنذرته أنها لا تملك إذن إلا أن تتحامل على نفسها وتضحى بها، وتتزوج حامدا إذا طلبها، وخيرته بين الإذعان لرأيها وركوبها هذا المركب الصعب، فلم ير سبيلا إلى غير الإذعان.
ولكنه قال لها: «سأرحل فى الصباح على أول قطار، فما أرانى أطيق أن ألقاهم وفى قلبى هذا السر».
وأصبح الصباح فسافر من غير أن يعلم بسفره غير «عم ادم».
وبعد شهور وشهور - كأنها الأحقاب طولا - تزوج تحية، وعاشا فى «تبات ونبات»، ولكنهما لم يرزقا ما يرزق الأزواج، من صبيان وبنات.
4
وعاش إبراهيم مع تحية سنوات، وفيا لها بالعين والقلب. وكان يطوف ويعمل ويكد، ويعود إلى البيت فيلقى إليها بما أفاد من مال. وكان ما يكسب من الرزق يجيئه من هنا وههنا، وبين بعضه والبعض الآخر فترات تطول وتقصر. ولكنه فى جملته - وبفضل تدبير أمه ثم تحية - واف بالحاجة، كاف لستر المظهر. وكانت أمه هى ربة بيته، وظلت كذلك زمنا بعد زواجه؛ فلما آنست من تحية الرشد وشامت من سيرتها الخير، ألقت إليها بالزمام امنة مطمئنة، ولم تجشم نفسها حتى عناء الإيحاء والتوجيه، ووكلت كل شىء إلى ذكائها وفطنتها وعقلها وحكمتها.
وكانت كبيرة السن ضعيفة القلب، فأتيحت لها الراحة التى تعذرت قبل زواجه، ووسعها أن تقول لتحية يوما: (الآن أستطيع أن أودعكما، وأنا سعيدة قريرة العين. فإنك كنز ظفر به، ووقع عليه إبراهيم، وأرجو أن يكون رأيك أنه أهل له. على أن فى يديك أن تجعليه كذلك، وكما تحبين. والرجال يحبون أن يكونوا سادة، ولكنهم يكونون بين يدى المرأة الحكيمة أطفالا رضعا، وأنا أحب أن يطول عمرى فأسعد بسعادتكما، ولكن وجودك أغنانى عن البقاء والتلبث، وأشعرنى أنى كنت متعبة مرهقة، وأفقدنى الباعث على التشدد، فأنا أنهد بسرعة. وليس لى إلا رجاء واحد إليك، فقد كنت لابنى أما وصديقا، وأخشى أن لا يهون عليه أن يفقدهما جميعا بعد طول الإلفة، فيتغير وتنكرى منه ما لا عهد لك به، فلا تحملى ذلك منه على غير محمله ورديه إلى ما عرفتك، لا إلى ما عسى أن يطوف برأسك من البواعث، وآثرى معه الحسنى - في كل حال - وطول الإناة، ولا تنسى أنه إنسان مخلوق من طين، وثقى إذا فعلت ذلك أنه سيعود إليك - كما كان يعود إلى - فيفتح لك مغاليق قلبه. وقد يكلفك هذا شططا، ولكنك حقيقة أن تحمدى المغبة إذا رضت نفسك على أن تكونى صديقته لا زوجته فقط. لا تجعليه يشعر أنه فقد أمه؟ أى صديقته، فإنه يتعزى عن فقد الأم ولا يتعزى عن فقد الصديقة. والذنب لى فقد أنسيته الأم لما صرت له صديقة. لقد كان يفضى إلى بما لا تسمعه أم من بنيها أو بناتها لأنه كان يثق أنى أفهم وأعذر. فى حجرى هذا كان يدفن وجهه ويبكى كالطفل فيتفطر قلبى. فليس أقسى ولا أوجع من بكاء رجل ... نحن النساء يا بنتى دموعنا قريبة، وإن ذلك لمن رحمة الله بنا. ولكن الرجل لايبكى.. لم يخلق للبكاء مهما بلغ من لوعة الحزن.. فهل تدرين ماذا كنت أصنع؟ كان يرتد بين يدى طفلا فأرتد أول الأمر أما، ولا نخجل - لا هو ولا أنا، فما يستطيع أن ينسى، ولا أستطيع أن أنسى أنه رضع من ثديي هذين، ثم أعود فأصير له صديقا. لقد كان الأمر أسهل على لأنه رضع من ثديي، ولم يرضع منك، ولكنك تستطيعين أن تعوضى ذلك إذا استطعت أن تكونى صديقة قبل أن تكونى زوجة. دعى الحقوق والواجبات ... تناسيها ... نحيها، وغضى عنها، فإنها قيود لك وله.. وصدقينى فقد جربت.. لم يكن أبوه مثال الوفاء والقناعة فى نظر الزوجة، فقد كان مزواجا.. وقد شقيت به زمنا وكدت أخسره، ولكنى استعدت وفاءه وثقته وحبه واحترامه لما أنسيته أن لى حقوقا عليه، وأن عليه واجبات لى، وأن بيننا هذا الحساب الذى لا ينقضى، فصرت بذلك امرأة جديدة عنده وتكشفت له جوانب لم يكن يفطن إليها أو يراها.. وإنها لفى كل امرأة. ولكن النساء اللواتى تزوج لم يبدينها له كما أبديتها ولم يقدرن على ما قدرت، فعاد لى بقلبه وعقله جميعا. ووصيتى الأخيرة يا تحية أن تجعلى دأبك ووكدك أن تجددى نفسك له؛ فإنى أخشى فتور الألفة. لا تكونى له فى يومك كما كنت فى أمسك، ولا تظهرى له فى مباذلك أبدا. ولا تقولى إنه زوجى ويعرفنى معرفتى نفسى فما داعى التكلف؟ لا.. ينبغى أن تكونى له فى كل يوم امرأة جديدة تتصدى له وتغريه وتفتنه. وإنه لعناء يا بنتى ولكنها لعنة جنسنا، ولا حيلة لنا إلا أن نتكلف العناء إذا أردنا أن نحتفظ ببعولنا.. وسامحينى يا تحية واغفرى. لى أنى أنصح لك كأنى أسىء الظن بعقلك فإنها تجربتى، ومن أنفع بها إذا لم أنفعكما؟»
فقالت تحية، وهى ترد الدمع بجهد: «أخشى يا نينا - أى يا أم وكانت هكذا تدعوها - أن أكون خيبت أملك»، تشير إلى أنها لم تجئها بذرية وإلى الخوف من أن تكون أعقمت.
قالت: «لا تقولى لى هذا فإنها إرادة الله. فإن تكن خيبة أمل فهى لك قبل أن تكون لى. وإنى كون جاحدة فضل الله على إذا لم أشكره، فقد كان لى ولد فصار لى ولد وبنت. ولا أتكلف التواضع فأقول إنى لا أستحق هذه النعمة، فقد أنعم الله على بها، فلابد أنى عنده أهل لها. نعم، لقد رضى الله عنى حين رزقنى بك، ولا قنوط يا بنتى من رحمة الله فاصبرى تؤجرى».
قالت: «إنما أسفى من أجله لا من أجلى، فإنى راضية قريرة العين، ولكن أكبر خوفى أن يثقل عليه هذا الحرمان».
Неизвестная страница
قالت: «لا تخافى فإنى أعرف ابنى لا بال له إلى هذا. همه ما يقرأ ويكتب. وما يخرج خير عنده من البنين والحفدة - أو هو عدله على الأقل - وهذا من لطف الله فلا تقلقى فإنى أخاف أن يذبلك القلق، ولا تضمرى الحسرة واللهفة فإنها شر ما جنى على المرأة وحياتها مع بعلها. ويا بنتى إن ذلك ليس فى أيدينا، وإنما نحن كالأرض لزارعيها، ولسنا ننبت إلا ما زرعوا».
وجاء يوم آذنت فيه بفراق، وكانت تحية وحدها معها فى البيت، فامتنع صبرها - على فرط تجلدها لهذا التوديع الذى كانت تعلم أنه لابد آت - وانحدرت العبرات - «كاللؤلؤ الرطب» - من مدامع قرحات، واضطرمت فى أحشائها نار أليمة الحرقات.
وكانت المسكينة كالمشفى على الغرق، وهو لا يحسن من السباحة إلا الغوص. وكان التمزيق الذى تحسه فى صدرها يجعلها - على الرغم منها - تدفع يديها ورجليها فى الهواء، كأنما تحاول أن تتعلق بشىء. وكانت تنفخ كأنما فى جوفها بركان حام هائج. وعيناها متفتحتان جاحظتان، ولكنهما لا تكادان تبصران، وحملاقهما ثابت لا يتحير أو يتحرك، وجيدها يكاد ينخلع من شدة التلوى، وعروقه ناتئة، وأوردته دارة كالوارمة. وكان منظرها هذا وما تكابده من الآلام المبرحة يقطع من تحية نياط قلبها، فارتبكت لحظة ثم عاد إليها الرشد فدعت طبيبا ثم آخر وودت لو استطاعت - أو أجدى - أن تحشد لها جمهرة الأطباء الحذاق. وجاء أولهما - وكان وثيق الصلة بالأسرة - فدخل عليها هاشا باشا كعادته، فتجلدت وتكلفت الابتسام له، فقال هذا أحسن وفحصها وهو يمازحها وطمأنها. وجاء الثانى فتشاورا ثم حقناها بالمورفين واتفقا على العلاج. وانصرف ثانيهما وبقى الأول حتى جاء إبراهيم، فارتمت على صدره تحية تبكى بأربع. وقال الطبيب إننا نفعل ما نستطيع والله يقضى بما يشاء، ولكنى غير يائس.
وحبست تحية نفسها عليها تمرضها. وكان الطبيب يعودها فى اليوم مرة واثنتين. واستراحت الأم من الالام فى اليومين الأولين واذنت الحالة بالتماثل وقاربت أن تشابه أحوال الصحة، فاستبشر إبراهيم وتحية، ولكن الطبيب ظل يقول إذا مضت لها سبعة أيام رجوت لها البرء. وكان ما خاف أن يكون، فانتابها كالاختناق، فتسترخى إحدى العينين، ويتهدل أحد الشدقين، ويغيض الدم من الوجه، وتصبح الحدقة زجاجة. وكان هذا ربما طال ربع ساعة. ولكن فترات الراحة كانت طويلة، ثم قصرت وتلاحقت هذه الأزمات على قصر مدتها، وضعفت المقاومة وزهدت فيما وصف لها من طعام ودواء، فكانت لا تقبل من ذلك شيئا إلا مرضاة لابنها وتحية.
وكان صباح، فأومأت إلى تحية أن تدنو منها وقالت لها همسا: «يا تحية أوصيك بأمور. إنى أعرف أنى هامة اليوم. فلا صراخ ولا عويل، فإنه أنكر ماسك مسمع حى. ولا نساء يحتشدن حولى، ويبكين مخلصات أو منافقات أو مجاملات. ولا سواد تلبسينه على. ولا مأتم يقام ولا جنازة تشيع، وإكرام الميت دفنه، فعجلوا به، والله يبارك لكما فى حياتكما».
وأمسكت هنيهة تستريح ثم تبسمت لها فى عينيها، وقبلت ما بينهما. وفاضت روحها فى قبلتها، على جبين تحية.
وخالف إبراهيم وصية أمه - بكرهه - فقد كان يخشى شماتة بعض من يعلم أنهم يتنسمون أخباره ويتمنون له السوء. وخاف أن يحملوا العمل بالوصية على محمل الفقر والعجز، فكلف نفسه شططا، واحتفل بدفن أمه وأقام لها مأتما «كنجوم الليل زهرا» ولم يذرف دمعة واحدة وهم يدفنونها، ولم يقل لدافنيها ترفقوا بها وإن كان قد هم بذلك، حين رآهم يحملونها بغير احتفال. وسبقهم فانحدر إلى القبر فسوى لها التراب بيديه، وكاد يعفر به وجهه. وتلقى تعزيات المشيعين - وهو باسم - وقلبه يدمى، والدموع فى حلقه. ولكنه على فرط تجلده لم يستطع البقاء فى البيت، فقد كان يرى أمه فى كل مكان، وكان كل شىء يذكره بها. وانتابه الأرق والوسواس، وتلفت أعصابه حتى صار يشق عليه أن ينام وحده على سريره. واحتاج أن يشعر لإنسان آخر إلى جانبه. وكان هذا الاضطراب يخجله، فتحامل على نفسه وأخفى ضعفه. غير أن تحية فطنت إلى ما به، وكانت عينها عليه، وقلبها معه، فزعمت أنها خائفة فهل يسمح لها بالانتقال إلى جانبه فى سريره؟ ففعل مرحبا مسرورا. ولم يفطن إلى حيلتها. ووسعه أن يغالط نفسه ويوهمها أنه يحمى امرأته ويرعاها ويحرسها، وفتر إزعاج الهواجس، وضعف صوت الهواتف. ولكنه ظل لا يطيق البيت فتحول عنه إلى سواه، وإن كان عزيزا عليه حافلا بالذكريات الحبيبة إليه.
وخالفت تحية الوصية أيضا فلبست السواد. وكانت تعرف أن السواد والبياض سيان، وأن العبرة بما ينطوى عليه القلب. ولكنها خشيت سوء القالة والتأويل، وإن كان لها من الشجاعة وقوة النفس ما يعينها على مخالفة العادات وإهمال التقاليد. ولكن إبراهيم كان يكره السواد ولا يطيق لونه، فانتظر حتى مضت الأربعون، ثم قال لها: «إننا لا نزور ولا نزار - على الأقل الآن - فما فى زيارة حزين متعة، ولا للناس فى ذلك رغبة صادقة، فاخلعى هذا السواد فإنه يثقل على نفسى. وما أظن بك إلا أنه يثقل عليك أيضا. إنه لون قابض يجثم على الصدر، ويشد الجلد، ويسقم القلب، وأنت تعرفين حبى لأمى، وأنا أعرف حبك لها، فهل تظنين أنها تطيب نفسا - لو كانت دارية - بحالنا هذا وما نحن فيه؟»
فنضت السواد - على كره وإشفاق - ولغطت نساء بذلك فيما بينهن، ولكنها لم تجعل بالها إليهن، وإن كن يجدن الوسيلة إلى إبلاغها ما يقلن فيها. وكان عزاؤها حين يتأدى إليها هذا اللغط أن: «هى تعرف، هى تعرف. لا سواها».
وكان الانتقال إلى الحياة العادية بطيئا بطبيعة الحال. ولكنهما عادا سيرتهما الأولى على الأيام. ولم ينسيا هذه الأم الكريمة، وأنى لهما أن يفعلا؟، ولكن حزنهما عليها تحول إلى اغتباط عجيب بذكرها. فكانا يقضيان بعض الوقت - أحيانا - وهما يتساقيان ذكرياتها، فينتشيان. وكانت تحية ربما توقفت وهى تلبس ثيابها استعدادا للخروج معه إلى السينما أو لزيارة صديق أو قريب، وألقت إليه نظرة وديعة، فيها لين وحنين، فيفهم. ويذهب بها إلى قبر أمه فيقفان عليه لحظة - لا يقولان شيئا ولا يقران حتى الفاتحة - ثم يعودان من حيث جاءا، ويذهبان إلى حيث شاءا، وقد استراحا وشعرا أنهما سراها.
Неизвестная страница