17
وهو: «الأفلاك كلها متناهية، وليس بورائها جوهر، ولا شيء، ولا خلاء ولا ملاء، والدليل على ذلك أنها موجودة بالفعل، وكل ما هو موجود بالفعل فهو متناه.» ومن المتعذر أن تفصل معضلة بالغة الصعوبة كهذه بأحزم من هذا. ومع ذلك، فإن الفارابي لم يزعم أنه مصدر هذا الحل، كما أن ابن سينا لم يأت بمثل هذا الزعم، ولا يكتفي الفارابي بعزوه إلى أرسطو، بل يرجعه إلى سقراط، وقد أضاف إلى ذلك قوله: «وحكي عن أفلاطون عن سقراط أنه كان يمتحن عقول تلاميذه، فيقول: لو كان الموجود غير متناه وجب أن يكون بالقوة، لا بالفعل.»
وإليك البرهان النموذجي، الذي يقدمه ابن سينا؛ ليثبت استحالة وجود لانهاية حاضرة، وتجد هذا البرهان غير مرة في آثاره على أشكال مختلفة بعض الاختلاف، وأول ما نصنع، هو أننا نقدمه على شكل هندسي، كما صاغه ابن سينا في المطلب الذي أنكر فيه إمكان وجود خلاء لا نهاية له، فنرجو القارئ - والحالة هذه - أن يتتبعه بانتباه، وذلك لكي يلاحظ نقصه، وهذه وثيقة مهمة عن تاريخ الذهن البشري، فقد ألقى هذا البرهان السهل الناقص عائقا ثقيلا مستمرا حيال تقدم الفلسفة والعلوم.
قال ابن سينا:
18 «لتكن حركة مستديرة في خلاء غير متناه، إن أمكن، أن يكون خلاء غير متناه، وليكن الجسم المتحرك مثل كرة «أ ب ج د»، المتحركة على مركزها، ولنتوهم في الخلاء الغير المتناهي خط «ط ح»، وليكن «ه ج» من المركز إلى جهة من المحيط، لا يلاقي خط «ط ح» من جهة «ح»، وإن أخرج بغير نهاية، لكن الكرة إذا دارت صار هذا الخط بحيث يقاطعه، ويجري عليه، وينفصل عنه، فيكون الالتقاء والانفصال بمسامتة نقطتين لا محالة، وليكونا «ك» و«ل»، لكن نقطة «م» تسامتها قبل نقطة «ك»، ونقطة «ك» أول نقطة تسامت هذا خلف، لكن الحركة المستديرة موجودة، فالخلاء ليس بلا نهاية، والخلاء إن وجد كان مقدارا متناهيا، وكل مقدار متناه فهو مشكل، فإذن الخلاء مشكل.»
والفرضية فاسدة، ونرى ذلك بلا عناء؛ وذلك أن الفرضية فاسدة لإمكان ملاحظتنا على الخط الثابت نقطة «ك»، التي هي أول نقطة يلتقي بها الخط الدائر، غير أن ابن سينا اعتقد أن الفرضية الفاسدة هي التي جعلها على رأس برهانه، وهي الخلاء اللانهائي، ولو كان هذا البرهان صحيحا لكانت نتيجته استحالة الخلاء اللانهائي، الذي لا يهمنا أمره كثيرا، فضلا عن استحالة المسافة الهندسية، التي لا نهاية لها، واستحالة العلم الهندسي الذي لا نهاية له، ولم يكن هذا قد قام في زمن ابن سينا، وقد عانته الفلسفة، ومع ذلك، فإن من الإنصاف أن يلاحظ أن تحليل هذه المسألة كان يتعلق - على الأقل - بالذهن الفلسفي بمقدار تعلقها بالذهن الرياضي، فيمكن أن يلام العلم على تضليله الفلسفة، والفلسفة على عدم تقويمها العلم.
وإليك شكلا آخر للبرهان عينه: «أقول إنه لا يتأتى أن يكون كم متصل موجود الذات ذو وضع غير متناه، ولا أيضا عدد مرتب الذات موجود معا غير متناه، وأعني بمرتب الذات أن يكون بعضه أقدم من بعض في ذاته، ولنبرهن أنه لا يتأتى أن يوجد مقدار ذو وضع غير متناه؛ لأنه إما أن يكون غير متناه من الأطراف كلها أو غير متناه من طرف. فإن كان غير متناه من طرف أمكن أن يفصل منه من الطرف المتناهي جزء بالتوهم، فيؤخذ ذلك المقدار مع ذلك الجزء شيئا على حدة، وبانفراده شيئا على حدة، ثم نطبق بين الطرفين المتناهيين في التوهم فلا يخلو إما أن يكونا بحيث يمتدان معا، متطابقين في الامتداد، فيكون الزائد والناقص متساويين، وهذا محال، وإما أن لا يمتد بل يقصر عنه فيكون متناهيا، والفضل أيضا كان متناهيا، فيكون المجموع متناهيا، فالكل متناه، مع أنه غير متناه، فوجب أن يلزم ذلك محال.»
ومن الواضح اليوم أن جميع هذه الأنواع من البراهين سفسطية، وقد قلنا هذا، ولا يجدي التوكيد نفعا، ويسرنا أن نغتم هذه الفرصة، فنذكر إمكان كون معظم القضايا المشهورة وأضدادها، وهي ما تدعى في الفلسفة «الكنتية» بمبادئ العقل الخالص المتناقضة، لم يتفق لها إثبات بالبراهين أكثر قيمة مما تقدم، ومن المحتمل في زماننا - الذي عمت فيه معرفة المبدأ اللانهائي في الرياضيات، وهذا لم يكن في زمن «كنت» - أنه إذا ما بحث في هذه المبادئ المتناقضة لم تر أكثر صوابا من التي كان يزود بها مخالف المدارس في زمن ابن سينا، وليس مما يلقي الحيرة في نفسي، مطلقا أن يوصل - بسرعة - إلى النتيجة القائلة، في هذه الموضوعات، إن القضية وضدها لا يمكن إثباتهما، وإنه لا يوجد مبادئ متناقضة، بل براهين فاسدة، ومع ذلك فإننا كيما نحصر أنفسنا ضمن نطاق المؤرخ، نقتصر هنا على ختم قولنا - وفق ما كنا قد لاحظناه - بأن فلسفة ابن سينا إذا كانت قد ضلت فذلك لأنها عانت ضعف العلم.
وأما من حيث لانهائية الماضي، فتعليم ابن سينا إيجابي، ففيلسوفنا يسلم بإمكان سلسلات من اللانهايات، عادا هذه السلسلات الماضية أنها عادت لا تكون موجودة إلا بالقوة. وليس هذا الرأي جليا أول وهلة، فاضطر ابن سينا إلى بذل بعض الجهود ليسوغه، ولكن بما أننا قد أثرنا ذكرى «كنت» منذ هنيهة، فإننا نبيح لنفسنا ملاحظة مقدار التعمل في نقد هذا الفيلسوف للمبادئ المتناقضة. وتبدو نظرية «كنت»، التي صاغها حول التناقض الأول، وذلك «أن للعالم بدءا في الزمان، وهو محدود في الفضاء»، من قلة المتانة والمطابقة بما لا يسلم معه جميع المدرسة السكلاسية الشرقية الكبرى بعد القرون القديمة بغير نصفه، وذلك بقولها: «إن العالم محدود في الفضاء» ومع إضافتها نصف التضاد القائل «ليس للعالم بدء في الزمان.»
ويدعم ابن سينا هذه القضية الأخيرة بقوله
Неизвестная страница