ومن ثم ترى مبلغ البراعة في هذه المذاهب ، وكيف أن الاتصال بالذهن اليوناني قد أيقظ العبقرية الفلسفية لدى المسلمين مع الإنذار بتحريف العقيدة القرآنية.
وأخيرا؛ يجب أن يلاحظ وجود فكرة جريئة لدى أبي الهذيل ليست أقل شأنا مما تقدم؛ وهي فكرة السنة الطبيعية، وقد عبر عنها بوضوح كثير من قبل الشهرستاني؛ وذلك أن الإنسان يمكنه - قبل كل وحي - أن يصل إلى معرفة الله والشعور بالخير والشر، وأنه مسئول عن هذا أيضا. فعلى الإنسان أن يميز بعقله الخاص جمال الخير وقبح الشر، وهو ملزم بالسعي في العمل وفق الحق والعدل، وباجتناب الكذب والظلم؛ فإذا لم يقم بهذا الواجب استحق العقاب، وقد قبلت مدرسة المعتزلة هذه النظرية في السنة الطبيعية.
وقد تألق - بجانب أبي الهذيل العلاف - نجم إبراهيم بن سيار النظام، الذي هو عالم كبير آخر من علماء المعتزلة، وهو أهم رجال الجدل بمدرسة البصرة في عهد المأمون،
6
وكان يطيب لهذا الخليفة أن يسمع تحاور هذين الأستاذين، فكان يدعوهما إلى بلاطه مع علماء من الفرق الأخرى، وبهذا كان ينشر بين الجمهور حب البحث النظري وعادته. وأكثر النظام من مطالعة كتب فلاسفة اليونان على رواية الشهرستاني، الذي بقي مصدرنا الأساسي لفقدان مؤلفات هذا الأستاذ. ومع ذلك، فإنه لم يصل إلى فلسفة تختلف عن فلسفة أبي الهذيل كثيرا كما يبدو، وإنما يمكن أن يعتقد أنه كان ذا عبقرية أقل دقة فيما بعد الطبيعة، وذا ذهن أكثر انصرافا إلى العلوم الطبيعية، وقد كان موسوعيا.
وقد فصل النظام - مع الإمتاع - مذهب العدل الإلهي المرتبط في مذهب التفاؤل، فنزع من الله قدرة فعل الشر، وكان الرأي الشائع عند المعتزلة هو أن الله قادر على صنع الشر، ولكنه لا يفعله؛ لأن الشر قبيح. فذهب النظام إلى أن القبح إذا كان صفة ذاتية للقبيح بالفعل فإن القبيح بالفعل لا يمكن تجويزه من الله بالقدرة، وإن شئت فقل: إن الشر مما لا يقدر عليه من الله لا قوة ولا فعلا. ويسير النظام بفكرته إلى ما هو أبعد من ذلك، فيذهب إلى أن الخير الأقل ليس مما يقدر عليه من الله، فالله لا يريد غير الخير الأكبر؛ فمن التجديف على الله أن يفترض خير بالغ العظم ولا يذهب إلى أن الله لا يختاره.
ويجيب النظام عن اعتراض القائلين إن جميع أعمال الخالق تكون محدودة إذ ذاك بقوله: «إن الذي ألزمتموني في القدرة يلزمكم في الفعل، فإن عندكم يستحيل أن يفعله وإن كان مقدورا، فلا فرق.» وإنما أخذ النظام هذه المقالة من قدماء الفلاسفة.
وقد تطرق الوهم إلى عالمنا بمحاولته أن يقتبس من الأغارقة المفهوم المشهور القائل: إن النفس هي صورة البدن، فهو قد أساء فهم الفكرة، فذهب إلى أن البدن هو صورة النفس والروح الخارجية، فالروح جسم لطيف مشابك للبدن، مداخل للقلب بأجزائه مداخلة المائية في الورد، والدهنية في السمسم، والسمنية في اللبن. وهكذا كان النظام أكثر اتجاها إلى علماء الطبيعة منه إلى علماء ما بعد الطبيعة كما لاحظه الشهرستاني.
ومن الطريف رأيه في الخلق وإن زعم الشهرستاني أنه أخذه عن اليونان؛ فعنده أن الله خلق جميع الموجودات دفعة واحدة، ولكنه أخفاها ولم يظهرها إلا بالتدريج. وهذا الظهور هو ما نسميه الولادة. والحقيقة أن آدم وجميع ذريته وجدوا معا منذ اليوم الأول، وأنه لم يحدث غير خلق واحد يتعذر وقوع خلق آخر بعده، وتنمو جميع الأشياء وتبدو على هذا الأساس الطبيعي مرة واحدة.
ويؤدي هذا المذهب عند النظام إلى جبرية طبيعية صريحة يعود شرفها إليه؛ فعنده أنه لا يوجد في الطبيعة غير فاعلية حرة واحدة، وهي فاعلية الإنسان، فإذا عدوت هذا وجدت أن جميع الأشياء تحدث وجوبا؛ «فالحجر إذا دفعته اندفع، وإذا بلغت قوة الدفع مبلغها عاد الحجر إلى مكانه طبعا.»
Неизвестная страница