والإنسان والحيوان يدركان الجزئيات بالحواس، ولكن الإنسان وحده هو الذي يدرك الكليات بالنفس الناطقة بغير حاجة إلى الجسد والأعضاء.
فالنفس الإنسانية لها قوتان، عاملة تدبر البدن، وعاقلة ولها مراتب: «فأولها كونها مستعدة لقبول الصور العقلية وهذه المرتبة مسماة بالعقل الهيولاني، وثانيها أن تحصل فيها التصورات والتصديقات البديهية وهي العقل بالملكة، وهذه الملكة مختلفة بحسب كمية تلك البديهيات وبحسب كيفية قوة النفس على الانتقال منها إلى المطالب، وثالثها أن يحصل الانتقال من تلك المبادئ إلى المطالب الفكرية البرهانية، إلا أن تلك الصور لا تكون حاضرة بالفعل بل تكون بحيث إذا شاء الإنسان أن يستحضرها فعل ذلك. وهذه هي مرتبة العقل بالفعل، ورابعها أن تكون تلك الصورة العقلية حاضرة بالفعل ينظر إليها صاحبها وهي المسماة بالعقل المستفاد.»
والعقل بالفعل يتجه إلى العقل الفعال متى شاء. أما الاتصال التام بالعقل الفعال فهو العقل المستفاد، وهو عقل النفس القدسية التي ترتقي إلى منزلة العارفين والصديقين.
وليست النفس متحيزة ولا حالة في المتحيز؛ لأنها لا تنقسم بانقسام الجسم ولا تتوقف عليه. فالمشار إليه بقولي: «أنا» باق في أحوال الجسد كلها سواء في نموها أو ذبولها، وقد يكون الإنسان مدركا للمشار إليه بقولي: «أنا» حالما يكون غافلا عن جميع أعضائه. و«الآنية» لا تتوقف على حقيقة خارجية ولا على شعور بالأعضاء الجسدية، فابن سينا في إثبات وجود النفس على هذه الصورة سابق للفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي يبطل الشك في الوجود بقوله: «أنا أفكر أنا موجود»، ويعتبر هذه الحقيقة أولى الحقائق الغنية عن الإثبات، وهو سابق له بالقول بأن الإيجاد فيض دائم من قدرة الله. فلا تدوم للموجود صفة الوجود بمجرد إيجاده، بل يكسبها على التجدد وعلى الدوام.
ويرى ابن سينا أن نفس الإنسان تصدر عن العقل الفعال وتدخل في الجنين عندما يتهيأ الجسد لقبولها، وأنها تعود إليه بعد مبارحة الجسد متى بلغت مرتبة النفس القدسية من طريق الدراسة أو من طريق الرياضة، ولا تزال النفوس تخلق من العقل الفعال وتعود إليه بغير انتهاء ، لأن عدم التناهي غير ممتنع عند ابن سينا في المجردات التي لا تتحيز وليست بذات وضع في المكان. وكما قال في رسالة المعاد: «إن مجيئنا إلى هذا العالم لم يكن باختيارنا وإرادتنا ولكن جئنا وبالقهر نمكث وبالقهر نخرج وإنما جئنا بها للتمحيص والتطهير ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وطهارة النفس إنما تكون بالعمل الشرعي والعلم الإلهي ... كما أن طهارة الجسد من النجاسة إنما تكون بالماء أو بالتراب.»
والجنة عند ابن سينا هي فلك العقل الفعال وما فوقه من البروج، وأما النار فهي ما دون ذلك حيث تختلط النفس بأوشاب الأرض وتقصر عن الصفاء الذي تبلغه العقول بالترقي من العقل الهيولاني إلى العقل المستفاد.
وقد نظم ابن سينا بعض هذه المعاني في قصيدته العينية التي يقول في مطلعها:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف
Неизвестная страница