من أجل ذلك نجدهم يبيحون قراءة مؤلفات الغزالي ونحوها من كتب علم الكلام والفلسفة، ويشجعون على دراستها، وكان من سعة صدورهم أن علماء من اليهود وصلوا إلى مركز العمادة لبعض معاهد العلم في قرطبة وإشبيلية وغرناطة وبلنسية ومرسية بالأندلس، كما يذكر المؤرخ أشباخ، في ظل أمراء يعرفون للعلم قدره، ويدفعون إليه، ويثيبون عليه.
لهذا سارع العلماء إلى خذلان المرابطين أبناء الصحراء الجافة القاسية، وشد أزر الموحدين رعاة العلم، وأولي البصر به؛ مجازاة لهم إحسانا بإحسان، وحق لهم ذلك؛ فقد كان هؤلاء يشترطون فيمن يتولون المناصب العامة، كما يذكر أشباخ، «توافر نوع من الثقافة العامة، والإلمام بمعظم العلوم الإسلامية المعروفة».
وهناك مفارقة أخرى بين هاتين الدولتين، اللتين شهد أيامهما ابن رشد وبيته، ترجع إلى البيئة الأولى الطبيعية والاجتماعية لكل منهما.
لقد كان المرابطون - إلى ما ذكرنا - قساة غلاظ الأكباد، وبعيدين إلى حد ملحوظ عما يوجبه الإسلام من الوفاء ولين الجانب والرحمة بمن هان بعد عز؛ فهذا يوسف بن تاشفين استنجد به - كما قدمنا - ابن عباد ضد الفرنجة، فلم يتركه حتى سلبه ملكه، وأنزله وآله منزلة الهون في الأسر والضيق والذل حتى جاءهم الموت، كما يذكر المراكشي. أما الموحدون، وقد أشربوا تعاليم الدين السمحة، فقد كان من أول أمير لهم؛ وهو عبد المؤمن بن علي، أن غلب يحيى بن عبد العزيز الصنهاجي على ملكه - بجاية وأعمالها - ورجع به وبأعيان دولته إلى مراكش، وأمر لهم جميعا، كما يذكر المؤرخ السابق نفسه، «بالمنازل المتسعة، والمراكب النبيلة، والكسى الفاخرة، والأموال الوافرة، وخص يحيى من ذلك بأجزله وأسناه وأحفله، ونال يحيى هذا عنده رتبة عالية، وجاها ضخما، وأظهر عبد المؤمن عناية به لا مزيد عليها».
هذه مفارقة أخرى واضحة بين المسلكين، سببها الفرق الكبير بين البيئتين والمنشأين، وما يكون عن ذلك من شيم وخلال. •••
هذا، وابن رشد يذكره بعض المستشرقين بأنه فيلسوف قرطبة؛ إذ كانت تلك المدينة من مدائن الأندلس موطن بيته ومنبته ومغداه ومراحه، وفيها يقول بعض شعراء الأندلس:
بأربع فاقت الأمصار قرطبة
منهن قنطرة الوادي وجامعها
هاتان ثنتان، والزهراء ثالثة
والعلم أعظم شيء وهو رابعها
Неизвестная страница