نظن أن من الخير تحقيق هذه المسألة، وإن لم نكن بصدد رسالة عن ابن رشد من جميع نواحيه، بل بصدد بحث عن رسالته التي اضطلع بها، وحياته وما كان فيها من أحداث.
يرى المستشرق الفرنسي «مونك
Munk » أن تعصب الموحدين يكفي وحده لتفسير تعصب الخليفة المنصور ضد ابن رشد، ويستشهد لما يرى بأن ابن أبي أصيبعة ذكر في حياة أبي بكر بن زهر، أن المنصور أمره بتعقب الذين يدرسون الفلسفة الإغريقية، وبمصادرة الكتب الخاصة بها وإحراقها.
وكذلك «رينان
Renan » يذهب إلى هذا الرأي أو قريب منه؛ إذ يرى أن تعصب الموحدين وكراهة الفلسفة هما السبب الحقيقي لهذه النكبة التي عاناها ابن رشد، وللاضطهادات التي كان أمثاله عرضة لها، ويعلل ما يراه بأن الموحدين يتصلون مباشرة بمدرسة الغزالي، وأن مؤسس دولتهم - وهو المهدي - في أفريقية كان تلميذا من تلاميذ حجة الإسلام، وعدو الفلسفة.
ولكن للباحث أن يتساءل عما إذا كان تعصب الموحدين كما يرى مونك، أو هذا التعصب وكراهة الفلسفة كما يرى رينان، هما وحدهما السبب الحقيقي لمحنة ابن رشد وصحبه وتلاميذه؟ نعتقد أن الجواب هو: لا.
لقد ساق مونك دليلا لرأيه - كما قدمنا - تكليف المنصور الحفيد أبا بكر بن زهر إعدام كتب الفلسفة، وأخذ المشتغلين بها بالعقاب الشديد، ولكن فاته أن يذكر أن المؤرخ الذي أورد هذا الخبر - وهو صاحب طبقات الأطباء - أردفه بأن المنصور نفسه خص الحفيد بذلك حتى «إن كان عنده شيء من كتب المنطق والحكمة لم يظهر ولا يقال عنه: إنه يشتغل بها ولا يناله مكروه بسببها.» وذلك لما اتهمه بعض أعدائه بأنه يشتغل بالحكمة وعنده الكثير من كتبها، وشهد معه كثيرون بما قال، كان جزاؤه - أي الشاكي - السجن ورد قوله لما يعرفه المنصور - كما قال - في ابن زهر: «من متانة دينه وعقله .»
كذلك ساق نفس المؤرخ بعد ما تقدم مباشرة أن الحفيد هذا كان له تلميذان يدرسان عليه الطب ، فأتياه يوما ومعهما كتاب في المنطق، فلما عرفه رمى به وهم بضربهما لولا أنهما فاتاه عدوا، وبعد بضعة أيام حضروا معتذرين بعذر تظاهر بقبوله، ثم أمرهم بحفظ القرآن والاشتغال بالتفسير والحديث والفقه، والمواظبة على رعاية الأمور الدينية، فلما امتثلوا وصارت تلك الأمور عادة لهم، أخرج كتاب الفقه وقال: «الآن صلحتم لأن تقرءوا هذا الكتاب وأمثاله علي، وأشغلهم فيه.»
يظهر لنا إذن أن بعض من عنوا بدراسة الفلسفة كانوا غير أهل لها، فكانوا يخرجون بسببها عن بعض ما جاء به الدين، ويكونون بذلك سببا لإثارة العامة، ولاضطهاد الفلسفة وأهلها بصفة عامة.
هذا فرض قريب من الحق، على ما يلوح لنا، إذا لاحظنا أن القرآن حض في كثير من آياته على الدراسة العلمية الفلسفية.
Неизвестная страница