ولا عجب في ضرورة القناعة بطرق القرآن وعدم تجاوزها! إنها أتم الطرق إقناعا، وأبعثها على التصديق، وهي بنفسها مقبولة من الجميع، وفيها بعد هذا أو ذاك تنبيه لأهل الحق على التأويل الحق. وهذه الخواص لا توجد، كما يقول: «لا في مذاهب الأشعرية ولا في مذاهب المعتزلة» جميعا.
لا عجب في ذلك، بل العجب كما يرى هو في صنيع الأشاعرة - أو فرقة منهم على الأصح - الذين خطوا طرقا خاصة لمعرفة الله، وكفروا من لم يعرف وجوده بها، مع أنها لا تصلح للناس جميعا، ولا تصل بمن يصطنعها إلى ما يريد! (2)
وبعد هذا التعميم يجب التفصيل.
ففي مسألة وجود الله، يرى ابن رشد أن الطريقة التي ترضاها الشريعة ونبه عليها القرآن، ودعا بها الناس كافة - عامتهم وخاصتهم - إلى الإقرار بوجود إله، تنحصر فيما سماه دليل العناية ، ودليل الاختراع. ولا علينا إن أطلنا في عرضها قليلا كما فعل؛ فلعل في ذلك خيرا للذين غمرتهم موجة الإلحاد، أو أصابهم شيء من رذاذها أو رشاشها. هذه الموجة التي لفت العالم منذ سنين، ولا نزال نشهد من آثارها السيئة ما يتمثل في فريق يزين أو يتظرف أو يتعالم باصطناع الإلحاد.
يريد بذلك أن من نظر أدنى نظر في هذا الوجود، عرف يقينا أن كل شيء من سماء وأرض، وشمس وقمر، وليل ونهار، وحيوان ونبات، وغير ذلك كله من الموجودات المختلفة، كل ذلك خلق موافقا لوجود الإنسان وحياته سعيدا. وفي هذا دليل - أي دليل! - على أن هذا العالم لم يكن عن صدفة أو اتفاق، بل هو صنع إله حكيم يعنى بما خلق؛ فهو قاصد لذلك مريد.
وإذن؛ فهذا الدليل قائم على أصلين سهل إدراكهما بالحس وأدنى نظر؛ وهما: موافقة كل الموجودات للإنسان وحياته وسعادته، وأن هذا لا يكون إلا عن فاعل مريد؛ إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة العجيبة بالاتفاق كما يقول في «كشف الأدلة».
وإذا كان دليل العناية يقوم - كما رأينا - على هذين الأصلين اللذين يدركهما الحس والفكر في أدنى درجاته، فدليل الاختراع يقوم على أصلين كذلك؛ هما: أن هذه الموجودات مخترعة لم توجد من نفسها، وأن المخترع لا بد له من مخترع، والنتيجة الضرورية لهذين الأصلين أن لهذا العالم على اختلاف أنواعه وضروبه وألوانه فاعلا مخترعا له.
وفي القرآن آيات تدل على عناية الله بالإنسان، وعلى أنه سبحانه خالق كل موجود، من ذلك قوله في سورة النبأ:
ألم نجعل الأرض مهادا * والجبال أوتادا * وخلقناكم أزواجا * وجعلنا نومكم سباتا * وجعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا * وبنينا فوقكم سبعا شدادا * وجعلنا سراجا وهاجا * وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا * لنخرج به حبا ونباتا * وجنات ألفافا ، وقوله في سورة الفرقان:
تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ، وقوله في سورة عبس:
Неизвестная страница