والمسلمين بالعداء، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم، لكن الله قذف في قلوبهم الرعب حتى استسلموا للرسول وحكم بإجلائهم إلى الشام.
على أن هذه الآية وإن لم تصلح للاستدلال لما يرى؛ فهناك آيات أخرى تشهد له بما يريد، هناك قوله تعالى:
قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ؛ وقوله:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ؛ وقوله:
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ؛ فضلا عن قول الرسول: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها.»
وإذا كان النظر الفلسفي واجبا، فمن الخير أن نستعين بالرواد الذين كشفوا الطريق، وأناروا لمن أتى بعدهم من الباحثين والمتفلسفين السبيل . وإذن فلنقرأ - كما يقول - كتب من تقدمنا من أولئك الرواد والفلاسفة القدامى، فما وجدنا من حق «قبلناه منهم، وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهناهم عليه، وحذرنا منه، وعذرناهم.» وحق لنا أن نعذرهم؛ فالطريق وعر شائك مظلم، والخطوات الأولى هي التي تكلف ما تكلف من عناء ونصب، فيعذر فيها من تعثر.
ومنع المستعد للتفلسف، بفطرته المواتية وخلقه الكامل، جريمة - في رأيه - في الدين؛ لأنه صد عن الباب الذي نصل منه إلى معرفة الله حق معرفته، وذلك جهل أي جهل، كما يذكر في «فصل المقال».
وليس يمنع من النظر في تراث الإغريق أن ضل بالنظر فيه قوم لم يكونوا أهلا لمعرفته، كما ليس لنا أن نمنع العطشان من ورود الماء العذب البارد؛ لأن غيره شرب منه فمات؛ فإن هذا الضرر أمر عرض، ومثل هذا يكون في الفقه؛ فقد يعرض أن تكون دراسة الفقه سببا لضرر يعرض من قبلها؛ كم من فقيه - كما يذكر - كان تبحره في الفقه ومعرفة المخارج من المحرمات والشبهات «سببا لقلة تورعه وخوضه في الدنيا، بل أكثر الفقهاء هكذا نجدهم، وصناعتهم إنما تقتضي بالذات الفضيلة العملية.»
ومتى كان هذا القياس العقلي والنظر الفلسفي مما يحث عليه الشرع ويوجبه، كان لا بد من أخذ العدة لعلاج ما يظهر من تعارض واختلاف بين النص ونظر العقل. هذه العدة تقوم على أنه من المقطوع به - كما يؤكد فيلسوفنا - أن كل ما أدى إليه البرهان الصحيح لا يمكن أن يخالف ما أتى به الشرع؛ فإن الحق لا يضاد الحق، بل يشهد له.
وإذن؛ فإن وجد هذا التعارض والاختلاف، كان لا بد من تأويل النص تأويلا يتفق وما نعرف من قواعد اللغة، وذلك مثلا بإخراجه عن دلالته الحقيقية إلى دلالته المجازية. بهذا لا يصطدم العقل والشرع، ولا تترك واحدا منهما لأجل الآخر، بل نجعل لكل منهما اعتباره، ونوفق بينهما بما لا تأباه اللغة وأصولها، فتزول عقبة يظنها البعض كأداء - وهي تعارض نص الوحي ونظر العقل - كانت تقف في سبيل هذا الجمع والتوفيق.
Неизвестная страница