لم يصب كل الصواب ولم يخطئ كل الخطأ، وأيا كان حظه من الصواب أو الخطأ، فقد مثل عصره أحسن تمثيل ينظر إليه صاحب الأدب واللغة والفقه، وغاب عنه ما وراء ذلك من نظر لا يحيط به الذين يتحزبون لهذه العلوم على فروع العلم كافة.
فمن حسن تمثيله للعصر أنك تعرف من مقدمته كل ما كان يشتغل به أبناء عصره، أو لا يشتغلون به من المعارف القديمة والحديثة، وأنك تعرف منه أن العصر لم يكن عصر العلوم القديمة وحدها؛ لأن العلوم الحديثة المنقولة والموضوعة أصبحت شرطا في الكاتب والأديب لا تتم بغيرها كتابته وأدبه، حتى رأى مثل ابن قتيبة أنه في حاجة إلى إظهار مساهمته في هذه المعرفة وهو يدعو إلى علم اللغة والكتابة؛ لئلا يستجهل ويعرض عنه.
والمعاصر من بعض الوجوه أصلح الناس للحكم على عصره، ولكنه من وجوه أخرى أقل الناس صلاحا لإنصافه، والإحاطة بجميع نواحيه، فهناك أشياء يراها القريب ولا تدخل في رؤية البعيد، وهناك أشياء يحيط بها البعيد ولا يلمح منها القريب إلا اليسير؛ كالناظر إلى القمر في المنظار يرى جزءا منه كبيرا مفصلا، ولكنه لا يراه كله، ولا يقع نظره على ما حوله، ومثل هذا ما حدث لابن قتيبة حين كبر وصغر، وتناول المقياس ليقدر فأخطأ فيما قدر.
أخطأ ابن قتيبة في شرح حالة العلم والتفكير بين أبناء عصره لأسباب متعددة، منها أن العلم لم يكن منهجا واحدا في ذلك العصر، ولكنه كان مناهج كثيرة تشتمل على منهج أهل السنة المتشددين في إنكار البدع، ومنهج الفرق الإسلامية التي تدخل فيها فرق الشيعة وفرق المعتزلة على اختلافها وتباعد المسافة بينها، ومنهج العلوم الحديثة من يونانية وفارسية وهندية وغيرها من مستحدثات الترجمة والابتكار، ومنهج المتأدبين المتظرفين الذين يقتبسون كل قبس، ويستطرفون كل طرفة، إلى غير ذلك من المناهج التي تتقارب وتتباعد على نحو مما نعهد في زماننا الذي نحن فيه.
وقد كان الخلاف والتعصب بين هذه المناهج على أشده في العراق؛ لأنه كان مجمع العواصم، وملتقى العرب والعجم، ومثابة العلماء والأدباء من جميع الطوائف والمذاهب، فرأي ابن قتيبة هو رأي المتشددين أنصار العلوم العربية، لا يرون غيرها إلا فضولا أو كالفضول، ولا يحسبون المنطق والفلسفة والرياضة وما إليها إلا لغوا، قصاراه أن يلغط اللاغط بالكمية والكيفية، والخط والنقطة، والجوهر والعرض مع «هذيان كثير».
ولكنه مع ازدرائه هذه العلوم الحديثة لم يلبث أن فرق من تهمة الجهل بها، فذكر أطرافا من مصطلحاتها، ودل بذلك على خطرها الذي لا يزدرى، ولكنها - كما رأى القارئ - أطراف مقتضبة كالتي نهاها على الأغرار المفتونين بظواهر تلك العلوم، فلا يقولها القائل وله علم صحيح بما وراء تلك الأطراف.
ومن الأسباب التي باعدت بين الأديب اللغوي، والإصابة التامة في تمثيل عصره أنه كان أديبا ولغويا، وكان سبيل العلم بالأدب واللغة أن يتحرى الطالب ما تقدمه، وأن يرتقي في تحري القدم إلى أبعد عصوره، فلا ينظر إلى العصور التي خلفت بعد العرب الأسبقين إلا على أنها عصور نازلة منحدرة تمعن في الجهل والإسفاف بمقدار إمعانها في البعد من العربية الجاهلية! فعنده أن السلف قد ذهبوا بالخير كله، ولم يبق للمتأخرين إلا أن ينعوا زمانهم، ويأسوا على ما فاتهم! وكل زمان هو شر الأزمنة في أوانه، وخير الأزمنة - أو من خيرها - متى لحق بالماضي العريق! وما برح ذم الإنسان عصره وانتقاصه إياه ديدن كل أديب فيما غبر، وديدن بعض الأدباء في هذه الأيام، فابن قتيبة إنما جرى على هذه العادة التي لا تستغرب في عهد البداوة العربية، وفي عهد كل بداوة طبعت على تعظيم السلف، والتفاخر بالأسباب، والرجوع إلى القديم.
على أن الرجل لو تجرد من هذه العادة لبقي سبب آخر لعله كان يمنعه أن ينصف أبناء عصره، أو يستجمع أخبارهم ويحسن المقابلة بينهم وبين من سبقهم، ولحق بهم من أمثالهم، فربما كان بعض الجهابذة في أيامه متباعدين متفرقين في أقطار ذلك الملك الواسع لا يسمع بهم إلا لماما، وربما كان القريبون منه في طريق العمل، فلم يستووا بعد على غاية القمة، ولم يلبسوا بعد هالة الخلود والشهرة، وذلك فضلا عن الذين جاءوا بعده بقليل؛ فهو لا يعرفهم، ولا يطالب بأن يعرفهم.
والحقيقة أن ذلك العصر كان من أزهى عصور العلم في بلاد الإسلام قاطبة؛ لأنه كان أول عصر تلقى علوم الثقافة الإسلامية كلها كاملة مفروغا من وضعها وترجمتها، وتحضيرها غير مستثنى منها علوم السنة والعربية التي كان ابن قتيبة يتوفر عليها.
ففي القرن الثالث تمت المذاهب الأربعة في الفقه، وظهرت آثار أقطاب الحديث كالبخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه والترمذي والنسائي، ونزعت السياسة إلى تأييد أهل السنة أيام الخليفة المتوكل، ثم انتهى القرن بظهور أبي الحسن الأشعري الذي مال من مذهب المعتزلة إلى مذهب أهل السنة، فقيل فيه: «كان المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى أظهر الله الأشعري، فحجزهم في أقماع السمسم.»
Неизвестная страница