137

Ибн Руми

ابن الرومي: حياته من شعره

Жанры

وربما كان أحدهم على قمة جبل فيسنح له خاطر السقوط منه، فسرعان ما يهب في نفسه شعور الوجل والاضطراب كأنه قد سقط فعلا، ثم لا يستطيع دفع شعوره ولا يهدئ من روعه علمه بأنه مستقر على الأرض، ناج من خطر الوقوع الموهوم! وربما سنح له شبح الأفعى فتفاجئه الرهبة من سمها الناقع، ولو لم يكن في موضع تطرقه الأفاعي أو يظن بها طروقه؛ لأن هذا التنبيه الصغير كاف لتحريك الإحساس وجيشانه، وتمثيله لخياله في مثل لمح البصر، ثم لا توجد عنده القدرة على رد إحساسه إلى نصابه، والهيمنة على حركات نفسه، فهو كأولئك السحرة في قوة الاستدعاء لولا أنه ينسى الإشارة التي يصرف بها الشياطين فتلتوي عليه وترديه!

وهذا هو مورد الخطأ على أصحاب ذلك المزاج.

ولكنك ترى أنه ليس ثمة خطأ في الخاطر ولا في الإحساس الذي يلازمه، فالخاطر صحيح، والإحساس كذلك صحيح، وإنما الخطأ أن الإحساس يجيء قبل الأوان أو في غير الأوان، وقد يعد ذلك عيبا في العلم أو في تدبير المعاش، أما في الفن فلا عيب فيه؛ لأن الفنان أحوج ما يكون إلى استحضار الشعور في غير موعده، وتمثيل العاطفة كلما دعته حاجة عارضة إلى تمثيلها، فهذه الخصلة قد تؤذيه في معاشه، وقد تؤلمه وتشقيه، ولكنها لا تستلزم الخلل في تفكيره وعاطفته إلا من حيث التكبير والتجسيم، وقد يكون التكبير والتجسيم ألزم لإظهار الخفي وتقريب البعيد من نظرة القسط والهدوء، ولا سيما في الفنون. •••

ومع كل هذا يجب أن نذكر أن آمن شيء في الحكم على هذه الأمزجة وأشباهها هو ألا تركن كل الركون إلى قاعدة مقررة في تقدير أعمالها وأحوالها، وألا تزال مترقبا منها للمفاجآت والغرائب في كل لحظة، فقد يجتمع العنف العصبي والوداعة العصبية في إهاب واحد، وقد يعنف اللطيف ويلطف العنيف حسبما يطرأ عليهما من الطوارئ، وهذا الذي تراه اليوم يتوقد ذكاء وفطنة قد تراه في بعض حالاته خابي الذهن، كليل الفهم لا يعي عنك ما تقول، وهذا الذي يقيم القيامة للصغائر التوافه قد تراه وقتا ما وهو مستخف بالعظائم لا يبالي ما كان منها أو ما يكون ... وأنت تسأل: أفي تركيبهم تناقض؟

فلك أن تقول: نعم، ولك أن تقول: لا؛ لأن التناقض موجود في ظواهر الأفعال، غير موجود في بواطن المزاج، فمن كانت تقيمه الهنة الضعيفة وتقعده إذا هي لمسته وبلغت به؛ حري ألا يبالي الحوادث الجسام إذا هي لم تلمسه ولم تبلغ منه، فالمعول في ثورته وسكينته على ما يباشر حسه، ويلامس أعصابه: لا صغير إلا وهو خطير مثير إذا أزعجه وملأ إحساسه، ولا خطير إلا وهو هين طفيف إذا غاب عن وهمه، وأعفاه من رؤيته، فهو الدهر بين تبرم وفزع من توافه الأشياء، وطمأنينة وسخر من فوادح الخطوب.

ويحتاج الأديب أحيانا إلى هذا التناقض كما يحتاج إلى استحضار الإحساس في غير أوانه، أو يحق لنا أن نقول: إن شاعرنا خاصة قد استفاد من هذا التناقض مضاء وحدة في ملكة السخر التي اشتهر بها وبلغ فيها أوجها، فإن النقائض والمفارقات ألزم لوازم هذه الملكة بعد دقة الملاحظة، وها هنا معدن النقائص والمفارقات التي يعانيها الساخر في نفسه، وقد يستغني بها عن مراقبة غيره.

كان ابن الرومي ساخرا، ولا جرم كان شاعر النقائض في عصر النقائض، وكان شاعر الفطنة الوحية في عصر الرياء المضحك، أو عصر الاختلاف بين الظواهر والبواطن، والبعد الشاسع بين ما هو كائن وبين ما يدعى ويستوجب، فلا جرم يسخر وعناصر السخر في نفسه وفي زمنه! وقدرة السخر في قلبه وفي عقله، ولا جرم يسخر وهو مهيأ للسخر فيما عدا ذلك بتعدد أصوله، وتوزع أهوائه وعصبياته؛ فإن صاحب العصبية الواحدة خليق أن يتحيز ويتنطس ويغلو في الجد والمرارة، ولكن صاحب العصبيات الكثيرة لا يستطيع أن يفعل ذلك، ولا يسعه إلا أن يستخف ويضحك من تلك الدعاوى وتلك المظاهر التي يضعها غيره من الناس موضع الجد والقداسة.

وها هنا شاعر ينتمي أبوه إلى الروم، وتنتمي أمه إلى الفرس، ويدين هو بدين العرب، وينتسب في ولائه إلى أبناء النبي العربي، ويتقاسم ولاءه عدوان لدودان من العباسيين والطالبيين، فأين تكون العصبية؟ وأين تكون المطاعن والمثالب؟ ثم أين يكون التصديق الأعمى، وأين يكون التكذيب الأعمى؟ لن يسعه هو إذا اشتجرت مفاخر الروم والفرس والعرب والطالبيين والعباسيين، واختصمت بينهم العصبيات والمنافسات إلا أن يبسم في كل صوب بسمة العطف والدعابة، وأن يصبح على غير قصد منه عظيم الاستعداد للتسامح والفكاهة: كالذي يختصم إليه بنوه ويدعي كلهم ما يدعي من فضله وعيوب إخوته، وكل ما فيهم من فضل وعيب هو من لحمه ودمه، ووشائج حبه وحنانه.

فقد اجتمع لابن الرومي إذن من عناصر السخر ما لم يجتمع لأحد في عصره: اجتمعت له دقة الملاحظة والإحساس، وعمق الشعور بالمناقضات في نفسه وفي زمنه؟ وسعة النظر إلى الفوارق وسماحة العطف التي تقابل مرارة العصبية، فهو ساخر لا يبارى في سخره، وعابث مطبوع على العبث بكل شيء حتى صحبه ونفسه، يستخدم السخر في الهجاء والمديح والمطايبة والمعاتبة، ويعرض لك في متحفه الكبير تلك الصور الهزلية التي لا مثل لها في شعر شاعر واحد من شعراء العالم كله، ثم لا يأنف أن يريك بينها صورة له، بل صورا شتى لا يعوزها حظ من العناية وأمانة الصناعة.

فهذا الوجه الذي فصل للصلاة والتعبد في الفلاة، وجه من هو؟ إنه وجه ابن الرومي فيما صوره لنا حيث يقول:

Неизвестная страница