فمن خلصت نفسه من شوائب المادية وظلماتها، وصفت روحه وتطهرت في محاريب الطاعة، ومناجاة المحبة، ورضي الله عنه فأحبه؛ أفيض عليه من أسرار الوجود وآياته، وإشراقات العلوم وأسرارها ما يعلو على الحواس الخمس، وما تدركه الحواس الخمس، وظفر بمعارف وعلوم يضيق عنها نطاق النطق، كما يقول الغزالي، أو كما يقول أستاذه يوسف النساج، حتى يرى العرش ومن حوله، ثم لا يرضى حتى يرى ما لا تدركه الأبصار، ثم يرقى حتى يسمع الخطاب كموسى:
إني أنا الله رب العالمين .
والمعارف الهابطة من السماء، المفاضة من تحت عرش الرحمن، تتبع الصفاء وتلازمه ، كتب الشاعر الروحاني «موسيه» عن نفسه فقال: أنا لا أعمل ولكني أسمع ما أكتب، فكأن إنسانا مجهولا يناجيني في أذني. وكان «لامارتين» الذي صقله الحب يقول: لست أنا الذي يفكر؛ ولكن هي أفكاري التي تفكر لي. «وطاغور» زاهد الهند وشاعرها يقول بأنه ينام وهو يعمل في قطعة من الشعر لم تتم، فيستيقظ فيجدها تامة في ذهنه. أما «سقراط» فيلسوف اليونان، فقد تحدث إلى تلامذته فقال: إني لأسمع بأذني ما تلقيه إلي روح مجهولة، ومنها استمددت معارفي. وكان فيلسوف الإسلام «الفارابي» تحل له أعظم مشاكله الفكرية في المنام، أما «ابن سينا» فيخطو خطوة أخرى نحو الكمال فيقول: إنه إذا استعصى عليه أمر من أمور الفكر، هرع إلى الصلاة فصلى وسبح، فإذا بكل شيء كالصبح المبين. «وأرسطو» قد بنى فلسفته في الدراسات النفسية على الفيض والإلهام.
تلك ثمرات الصفاء، وهبات الروح الجميل المشرق، ولكن الكمال في الفيض والهبات؛ إنما هو لرجال الطاعة والعبادة، والذكر والمناجاة، والرضا والمحبة؛ فأولئك لهم التلقين والمشاهدة والنور والفرقان.
ويأتي بعد ذلك سؤال، لا بد أن يدور به اللسان: هل السالكون لطريق الطاعة والعبادة والذكر والصفاء، يصلون جميعا إلى هذه المعارف الباطنية والعلوم الربانية، والإشراقات والفيوضات والمكاشفات؟
يقول محيي الدين: إن الفتح على قدر الهمة. وإن شئت بلغة العصر، فعلى قدر الطاقة الروحية للعابد الذاكر؛ فطاقات العقول مختلفة، وطاقات الروح أيضا، وكما تتباين كفاءات العلماء في الدراسة الظاهرية: علوا وانخفاضا، وعبقرية هنا وجمودا هناك، كذلك تتباين كفاءات المتطهرين العابدين، في الفتح والكشف.
مكانة محيي الدين من العلم اللدني
ومنذ قرعت الدعوة المحمدية أسماع الدنيا بالخير والهدى إلى يومنا، على كثرة العابدين الذاكرين المتطهرين في محاريب المحبة والصفاء، المنقطعين إلى ربهم، المتهجدين لخالقهم في تلك الرقعة المحمدية التي تشغل قلب الدنيا، والتي ضمت شتيتا من الأمم، وألوانا من الشعوب، والتي أنجبت العباقرة والأئمة، لم يعرف تاريخ تلك الأمة رجلا ثانيا يزاحم محيي الدين في قمته الشامخة، في علوم الكشف والفيض والهبات، والعطايا الربانية.
يقول الشعراني في اليواقيت والجواهر : «إن كلام محيي الدين إن نظر فيه مجتهد في الشريعة، ازداد علما إلى علمه، واطلع على أسرار في وجوه الاستنباط، وعلى تعليلات صحيحة لم تكن عنده، أو لغوي، أو مقرئ، أو معبر للمنامات، أو عالم بالطبيعة، أو متحدث، أو خبير بالطب، أو عالم بالهندسة، أو نحوي، أو منطقي، أو صوفي، أو عالم بالحديث وطرقه، وبعلم الأسماء والحروف وأسرارها، وجد لديه من العلم ما يذهل العقل ويحيره، فهو يفيد هذه العلوم وغيرها علوما لم تخطر قط على بال إنسان.»
ولقد أشار الشعراني إلى نحو ثلاثة آلاف علم منها في كتاب له أسماه: «تنبيه الأغبياء إلى قطرة من بحر علم الأولياء»، ويقول الشعراني أيضا: «إن كلام محيي الدين ومرتبة علومه بالنسبة لغيره من الصوفية، كمرتبة إكسير الذهب بالنسبة إلى مطلق الذهب.»
Неизвестная страница