فقد جاء الإسلام بهذه الخطوة العظمى في أطوار الأديان فقرر في مسألة الخير والشر، والحساب والثواب أصح العقائد التي يدين بها ضمير الإنسان، وقوام ذلك عقيدتان؛ أولاهما: وحدة الإرادة الإلهية في الكون، والثانية: ملازمة التبعة لعمل العامل دون واسطة أخرى بين العامل وبين ضميره وربه.
فليست الخطيئة في الإسلام أصلا كونيا يعاند الإرادة الإلهية بإرادة مثلها، أو مقاسمة لها في أقطار الوجود العليا والسفلى، ولكنها اختلاس وخلل وتقصير، وله علاجه من عمل العامل نفسه بالتوبة والهداية، بالتكفير والجزاء، ولما كانت فضيلة آدم على الملائكة والجن أنه تعلم الأسماء التي لم يتعلموها، كانت هدايته إلى التوبة كذلك بكلمات من المعرفة الإلهية، ولم تكن بشيء غير عمله وقوله.
فإذا فهمت العقيدة الإسلامية على هذا الوجه؛ فهذه هي القيمة الروحية التي تجري المقارنة والموازنة عليها كائنا ما كان القول في تشابه الأسماء والقصص، وتوافق المراجع والأسانيد. وما من دين قط خلا من الأسماء والقصص التي سبقته إليها الأديان المتقدمة عليه في تاريخ دعوتها، وليس أكثر من الأسماء البابلية والفارسية في كتب العهد القديم وكتب التلمود، وليس أكثر من هذه جميعا في مسألة واحدة قبل كل مسألة يتناولها الإيمان، وتلك هي مسألة الخير والشر، والتبعة والجزاء، ولا خلاف - مع فهم هذه المسألة - على فضل الإسلام في هذه السبيل. •••
إن الأديان الكتابية لم تتعاقب عبثا، ولم تأت المقدمات فيها بغير نتائجها.
فالعبريون تلقوا ديانتهم وهم على حالهم من الوثنية، فلبثوا زمنا يخلطون بين فواصل الخير والشر، وفواصل المنفعة والضرر، ولبثوا زمنا أطول من ذلك يخلطون بين الوحدانية في الوجود كله، وبين الوحدانية التي تميزهم بإله لا يقبل المشاركة من الأرباب الأخرى، كأنهم شركاء المنافسة والمناظرة بغير حق وبغير قدرة.
ثم جاءت المسيحية ففصلت بين الخير والشر بفاصل كبير، وحققت معنى الخير الروحاني الذي ينفصل من معنى المنفعة والسلامة، وباعدت بين العالمين، وتركتهما من بعدها كأنهما دولتان تتقابلان، هذه في السماوات وهذه في الأرضين، وتكاد الأرضية منهما تبسط يدها إلى حوزة الأخرى، وتأخذ منها إلى حوزتها معقلا يسترد ويستعاد، ولا يملك الإنسان فيه حيلة أمام الإله وأمام الشيطان، وإنما يجيء الذنب بعمل الشيطان، ويزول الذنب بعمل الإله.
ثم جاء الإسلام فبسط على الوجود كله وحدة لا مثنوية فيها على وجه من الوجوه، ومنح الإرادة الإنسانية حقها وتبعتها، وجعلها ظالمة لنفسها إذا سمحت للشيطان أن يظلمها، فإنما هو خداع وضعف، وإنما هما طريقان بينان لا يخدع عنهما سوى المأخوذ أو المسحور، إلا أن يؤثر الضلالة على الهدى، ويصر على ضلالته بين دواعي التوبة والندم.
فهذه الديانات لم تتعاقب عبثا، ولم يكن لها في أطوارها سبيل أقوم من هذا السبيل ولو نظرنا إليها فرضا وتقديرا، ولم ننظر إلى وقائع التاريخ. •••
وكان ما تقدم إنما يتبين لنا من العقائد الإسلامية كما نتلقاها من القرآن الكريم، وقد أحسن فهمه مفسرون وأساء فهمه مفسرون، ولعله لا ينصف العقائد الإسلامية شيء كما ينصفها في هذا المقام أن نرجع إلى المسيئين فنراهم جميعا قد أساءوا فهم كتابهم؛ لأنهم فسروه بالإسرائيليات والتلموديات، وحسبوها سندا محققا عند أصحابها الأولين، وما كانت عندهم غير أحاديث يتلقفونها ممن تقدمهم؛ لأنهم لم يفهموا كتبهم فالتمسوا فهمها بمعونة من تلك الأحاديث.
وليس من عملنا هنا أن نستقصي أقوال المفسرين في شئون الغيب، ولكننا نلخصها إجمالا فيما نحن بصدده من طبيعة الشيطان، وطبيعة الخلائق العلوية كالملائكة والأرواح، فأضعف الأقوال أن الملائكة والجن تشملهم كلمة «الاجتنان» لمعناها اللغوي الذي يفيد معنى الخفاء، وأرجحها القول الذي أخذ به الفيلسوف الرازي في تفسيره حيث يقول: «لما ثبت أن إبليس كان من الجن وجب ألا يكون من الملائكة؛ لقوله تعالى:
Неизвестная страница