بل امتدت ثورة الكرامة خارج المنطقة العربية؛ فالكرامة بلا حدود. امتدت إلى الإقليم المحيط إلى حوض البحر الأبيض المتوسط في جنوب أوروبا، البرتغال، وإسبانيا، وإيطاليا، واليونان، وإلى شرقه في روسيا. فأوروبا وآسيا بعدان إقليميان للمنطقة العربية، بل امتدت إلى ما وراء الأطلنطي في حركة «وول ستريت» ضد النظام الرأسمالي الذي يطعن في كرامة الفقراء لحساب الأغنياء.
خامسا: هل يمكن تحديد الهوية؟
هل يمكن تحديد الهوية؟ ومم تنشأ؟ هل هي هوية المكان؟ فالإنسان يولد في بقعة من الأرض، في وطن وفي دولة، ينشأ فيه ويترعرع، يقضي طفولته وصباه، ورجولته وشيخوخته، يحن إليه كلما غادره، وطالما نشأت الأغاني في الحنين إلى الأوطان، وآلام البعد عنها، وضرورة عودة «الطيور المهاجرة». والتغريب جزء من الحدود؛ أي: إن الإخراج من الأوطان لمدة عام حماية للمجتمع من سوء أفعال صاحبها، وللرسول قول ساعة الهجرة من مكة وهو ينظر إليها ويصفها بأنها أحب الأماكن إلى قلبه، ولكنه يتركها مضطرا إلى أن عاد إليها بعد الفتح. وكتب أبو حيان «الحنين إلى الأوطان»، فالهوية المصرية نسبة إلى مصر، والتونسية نسبة إلى تونس، واليمنية نسبة إلى اليمن، والسورية نسبة إلى سوريا. والإقليم هو الجغرافيا وليس الدولة؛ إذ تتغير حدود الدولة مثل السودان، ولكن الإقليم لا يتغير. والوطن عند فشته يجاوز الحدود الجغرافية؛ هو الوطن المثالي، الوطن الفكرة، الوطن الروح؛ فمهما احتلت الأرض فإن الروح لا يحتل.
10
الوطن شقيق الروح، هو وطن الصوفية الذي تعود إليه أرواحهم في عالم الأرواح خارج عالم الأبدان، فمصر ليست هي الموجودة في كتب الجغرافيا للمدارس الابتدائية، المحدودة بالبحر الأبيض المتوسط شمالا والسودان جنوبا، والبحر الأحمر شرقا، والصحراء الغربية غربا، بل هي:
مصر التي في خاطري وفي فمي
أحبها من كل روحي ودمي
فعلى الرغم من أن الوجود الإنساني في بدن، والبدن في مكان، فإنه مستقل عن البدن والمكان. هو وجود مثالي في مكان مطلق، فالبدن حامل للروح. والمكان حامل للبدن. وقد تحدث الصوفية عن جغرافيا الروح؛ أي: أن الروح هو المكان والمناطق والأقاليم.
هل تنشأ الهوية من العرق؟ الهوية الكردية نسبة إلى الأكراد، والهوية الدرزية نسبة إلى الدروز، والهوية الأمازيغية نسبة إلى الأمازيغ ... وهي الأعراق الغالبة في الوطن العربي. العرق ليس هو الماهية أو الوجود؛ العرق هو مادة طبيعية ما دام الإنسان موجودا بيولوجيا، والأحياء سلالات، ويتفوق الإنسان على غيره من السلالات بأنه حيوان ناطق؛ أي: حيوان عاقل. ويصعب تحديد الأعراق نظرا إلى التداخل بينها من خلال التزاوج والهجرات، بل والحروب والغزوات. وقد يتحد العرق بالطائفة؛ مثل الدروز والدرزية. والعرق سلالة بيولوجية لا دخل للإنسان فيها، وللإنسان أكثر من سلالة، والهوية لا ترتبط بالسلالة بل بالوعي الخالص، والوعي الخالص هوية خالصة، وعي ذاتي، لا صلة له بالبدن، وكل النظريات العنصرية قائمة على ربط الهوية بالعرق والسلالة، وهذا ما ساد في النظريات البيولوجية في القرن التاسع عشر في الغرب، عندما ازدهرت العلوم الحيوية بفضل نظرية التطور والنشوء والارتقاء. وقد انتقلت إلى العالم العربي على يد شبلي شميل، وفرح أنطون، وسلامة موسى، وإسماعيل مظهر، وغيرهم. وتحدت نظرية الخلق التي تقوم على أن الشيء يخرج من لاشيء؛ في حين أنه في نظرية التطور يخرج الشيء من شيء حتى في التطور المنقطع الذي يسمح بوجود الطفرة. البدن يفنى ولكن تبقى الذكرى، ويستمر العمل الصالح بعد الموت. تتشابه السلالات في مادتها العضوية، ولكن تتفاوت الأعمال.
هل تنشأ الهوية من الطائفة؟ فهناك الهوية الشيعية كأساس للدولة الشيعية، أليست الطائفية خطرا على وحدة الأوطان التي تتكون من عدة طوائف؛ مثل لبنان وسوريا والعراق ودول الخليج واليمن؟ بل إن الدول الأوروبية نفسها تتكون من عدة طوائف؛ بروتستانت وكاثوليك وأرثوذكس. ولا يكفي في بعض الدساتير ذكر الإسلام دينا رسميا للدولة، بل أيضا تعيين الطائفة. الطائفية خلاف تاريخي في الدين بين عدة قوى سياسية متصارعة على السلطة، ترجمت صراعاتها في شكل عقائد متباينة؛ مثل السنة والشيعة، والكاثوليك والبروتستانت، والشيعة والسنة والمارونية في لبنان. الطائفية إنكار للوطنية والمواطنة، والتفرقة بين المواطنين على أساس طائفي؛ مع أن الوطن الواحد يتكون من عدة طوائف تتساوى في المواطنة. وجعل رئيس الجمهورية مارونيا، ورئيس البرلمان شيعيا، ورئيس الوزراء سنيا؛ تغليب للطائفة على المواطنة. وخطورة الطائفية تحولها إلى تعصب وانتهاء بالحروب الطائفية التي ينتج عنها آلاف الشهداء، بل والمذابح منذ سانت بارتلمي في القرن السادس عشر بين البروتستانت والكاثوليك، حتى المذابح بين المسلمين والمسيحيين في أفريقيا وآسيا. الطائفة ولاء ديني تاريخي وليس هوية، وليس الطائفي مسئولا عنه؛ يولد ويموت فيه، يستطيع أن يتحرر منها إذا بلغ حدا من العقلانية والرشد. بل إن الطائفة ليست علاقة بين الإنسان وربه؛ هذا هو الدين أو الإيمان؛ فلا علاقة بين الإنسان والتاريخ باسم الله، فقد نشأت الطائفية في التاريخ بسبب الخلاف بين المؤمنين وصراعهم على السلطة، والكل إلى رسول الله منتسب. الإيمان هو تجريد الطائفية عن التاريخ وتخليصها منه؛ حتى تعود صافية رائقة كالدين.
Неизвестная страница