والبعض الآخر يوحي بالعقل النظري والعقل العملي ونقد ملكة الحكم لكانط. وقد حاول فيورباخ القضاء على هذا الاغتراب بتحويل الثيولوجيا إلى أنثروبولوجيا، والعودة بصفات الله إلى صفات الإنسان.
7
فيثق الإنسان بنفسه ويسترد شجاعته، ويتخلى عن عجزه، ويحقق ما يحلم به، ويصبح ما ينبغي أن يكون لا ما هو كائن. لا يستطيع استرداد هويته كاملة ومرة واحدة، يحتاج إلى وقت وجهد زائدين، فالهوية إمكانية لا واقع، وبدلا من أن تضيع الطاقة في العبادة، أي: في الفعل الرمزي، تنفق في تحقيق الفعل في اللاهوت. العالم عالمان، واحد سالب هو هذا العالم، وآخر موجب هو الله. ويعوض حصول الثاني خسارة الأول؛ نظرا إلى العجز عن التعامل معه أو الهروب منه، أو استصعابه واستسهال الدعاء وموالد للشحاذة؛ كما يقول إقبال.
8
ولما كانت الهوية هي الماهية، فإن الوجود يسبق الماهية، وليس الحال كما هو عند الفلاسفة المثاليين من أن الماهية تسبق الوجود. ولا تعني الأسبقية في الزمان الأسبقية في الوجود. الماهية تتخلق في الوجود، يصنعها الوجود ثم يحققها بعد أن تكتمل؛ في جدل مستمر بين الوجود والماهية. والوجود يخلق الماهية، والماهية تخلق الوجود، لا توجد ماهية مسبقة على الوجود، باسم النفس أو القدر، فذلك حد من حرية الإنسان، والماهية هي الحرية، والهوية هي تحقيق هذه الماهية كفعل حر.
9
وما سماه المتكلمون الذات والصفات والأفعال والأسماء، وسماه الفلاسفة العقل الفعال أو العقل الأول أو العلة الأولى أو المحرك الأول أو الصورة المحضة؛ هي أسماء تدل على مسمى واحد، أسماء تدل على إعطاء الفعل كله إلى مصدر واحد أول؛ وهو ما يعادل الخلق في علم الكلام وصفة الخالق. إنما التحرر هو من لغة اللاهوت إلى لغة الفكر، ومن مصطلحات علم الكلام إلى مصطلحات الفلسفة. وبدلا من أن يكون الخلق مرة واحدة بفصل تام بين الخالق والمخلوق، يكون فيضا متدرجا، خطوة وراء أخرى، من عقل أول إلى ثان إلى ثالث حتى العاشر، ومن يرد الوصول إليه يصعد إليه درجة فدرجة؛ كما فاض هو درجة درجة.
وإذا اتضح الاغتراب الديني في علم العقائد على نحو تصوري ذهني، فإنه يتضح أيضا في التصوف على نحو عاطفي وجداني ذوقي. فقد عرف التصوف نفسه بأنه تخل عن الأوصاف الإنسانية، والتحلي بالصفات الإلهية. ويستعملون ثلاثة ألفاظ متشابهة الإيقاع: «التخلي والتحلي والتجلي»، يتخلى أولا عن الصفات الإنسانية، ثم يتحلى بالصفات الإلهية، ثم يتجلى الله له. وهي هوية خارج العالم بعد أن يفرغ الصوفي من هويته ويتخلى عن عالمه، ويتجه إلى أعلى، ويرقى في المقامات والأحوال حتى ينتقل من البقاء إلى الفناء. يتحد بالله ابتداء من وحدة الذات، ثم وحدة الشهود؛ ألا يرى أمامه إلا الله، ثم أخيرا وحدة الوجود؛ أن يكون هو والعالم والله شيئا واحدا. وهي هوية مملوءة من خارجها، من الله، لا من ذاتها بعد أن أفرغت العالم منها، وحولتها إلى خيال ينشد شعرا، ويعبر عن لوعة الحبيب. ويعود البعض إلى العالم من جديد تائها غائبا لما كان فيه. قد يحسبها البعض هوية صورية فارغة، فالصفي أقرب إلى السكون منه إلى الحركة، وأقرب إلى الصمت منه إلى الكلام.
ويقع الاغتراب أيضا في صلة الإنسان بالنص؛ فبدلا من أن يكون النص في صالح الإنسان، يصبح الإنسان في صالح النص، تصبح الهوية نصية. ولما كان النص سلطة تصبح الهوية سلطوية باسم النص، ولما كان النص عرضة للتأويلات المختلفة، وكانت التأويلات طبقا للمصالح والأهواء؛ نتج صراع الهويات. ولما كانت النصوص موضوعا للاختيار والانتقاء طبقا للآراء المسبقة والمواقف الاجتماعية والسياسية، نشأت الفرق والطوائف، كل فرقة أو طائفة تنتقي من النصوص ما يوافق هواها وموقفها الاجتماعي والسياسي، فبدلا من أن تكون الهوية عاملا تجميعيا؛ لاستنادها إلى نسق عام للقيم، تصبح عنصر تفريق. وتنقسم الهوية العامة إلى هويات خاصة، وتضيع أهم صفة للهوية - وهي العموم أو الشمول - تستند إلى المعقول لا إلى المنقول، وتقوم على العقل لا على النص.
وتصبح الهوية صورية شكلية إذا ما قدم الشكل على المضمون، والعبادات على المعاملات، والمظاهر على الجواهر؛ مما يؤدي أحيانا إلى النفاق عندما يصبح المظهر دون مخبر، والظاهر دون باطن، والخارج دون داخل، والفعل دون نية، أو بنية مغايرة. والفعل ليس مقصودا لذاته؛ بل للنية التي وراءه، والعبادة ليست مقصودة لذاتها، فإن الله غني عن العالمين، بل للمصلحة الفردية والاجتماعية وراءها، فالأحكام مقاصد، تكثر العبادات وتقل المعاملات، ويتم التسابق في بناء المساجد دون المدارس والمستشفيات والأندية الرياضية. ويحدث التوتر بل، أحيانا، الصراع بين الطوائف سباقا على بناء دور العبادة، أكثر أو أقل أو في مكان الصدارة أو في الخلفية. وترفع الأصوات للنداء على الصلاة في المآذن أو الكنائس، بالأذان أو قرع الأجراس، والأعلى هو الأفضل.
Неизвестная страница