(95) و" غير الموجود " و" ما ليس بموجود " تقال على نقيض ما هو موجود، وهو ما ليست ماهيته خارج النفس. وذلك يستعمل على ما لا ماهية له ولا بوجه من الوجوه أصلا لا خارج النفس ولا في النفس؛ وعلى ما له ماهية متصورة في النفس لكنها خارج النفس، وهو الكاذب، فإن الكاذب قد يقال " إنه غير موجود " . وذلك أن ما له ماهية خارج النفس سلبه قولنا " ليست له ماهية خارج النفس " ، وهذا مشتمل على ما له ماهية في النفس فقط من غير أن يكون خارج النفس وما ليست له ماهية خارج النفس ولا في النفس. و" غير الموجود " انما يدل على هذاالسلب، كما أن قولنا " ليس يوجد عادلا " ولا يصدق على ما يمكن فيه وعلى ما لا يمكن فيه العدل. وما ليس بصادق فهو أعم من الكاذب. وذلك أن الذي لا ماهية له أصلا ليس بصادق ولا كاذب - لأنه لا اسم له ولا قول يدل عليه أصلا - ولا بجنس ولا بفصل ولا يتصور ولا يتخيل ولا تكون عنه مسألة أصلا. وأما ما كان ليس بصادق وهو كاذب فإنه يعقل أو يتصور أو يتخيل وله ماهية. فإن للكاذب ماهية ما وله اسم وقد يسأل عنه " ما هو " . مثل الخلاء، فإنه قد يسأل عنه " ما هو " فيقال " هو مكان لا جسم فيه أصلا " و" يمكن أن يكون فيه جسم " أو غير ذينك مما يجاب به عن الخلاء وعن أشبهه. فإن هذا وما أشبهه هو كاذب وهو غير موجود. وإنما تكون هذه مركبة من أشياء لكل واحد منها على انفراده ماهية صادقة. والذي له ماهية خارج النفس ليس يقال فيه " إنه صادق " ما لم يتصور. فإنه " غير موجود " إذن بمعنيين مختلفين، فإن الذي ينفي " غير " ليس هو المعنى " يوجد " إلا باشتراك الاسم. وهذا شيء يعرض لكل شيئين اشتركا في اسم واحد وكان الصادق هو نفي أحدهما عن أمر ما وإيجاب الآخر، مثل " إن العضو الذي به نبصر هو عين وليس بعين " ، وكذلك ما أشبهه. إلا أن الصادق إنما يقال فيه " إنه موجود " لأجل إضافته إلى الذي له ماهية خارج النفس. فهو إذن بالإضافة إلى المعنى الآخر الذي يقال عليه الموجود. فأقدم ما يقال عليه الموجود هو هذا المعنى. فإن قال فيه قائل " إنه غير موجود " يعني أنه غير صادق، أي كان لم يتصور بعد، فما ينبغي أن يستنكر، فإنه ليس بممتنع.
(96) والأسبق إلى النفوس في بادئ الرأي من قولنا " غير موجود " ما لا ماهية له أصلا ولا بوجه من الوجوه. ولذلك لما كان لا ماهية له أصلا ولا بوجه من الوجوه، وكان أن يعلم عند الجمهور هو أن يحس، صار ما كان غير محسوس عندهم في حد ما ليس بموجود. ولذلك لماصار أيضا ما كان أخفى في الحس عندهم من الأجسام مثل الهباء والهواء وما أشبهه في حد ما هو عندهم غير موجود، صاروا يقولون في ما تلف وبطل " إنه هباء " و" صار هباء " و" ريحا " . ولذلك يسمون القول الكاذب أيضا ريحا، إذ كان معناه يقال فيه إنه غير موجود. فمن ههنا يتبين أنهم يقولون على الكاذب أيضا " غير موجود " ، وإن لم يكن ذلك مشهورا في نطقهم، إذ كانوا يعبرون عن الكاذب بالذي يعبرون به عما ما لا ماهية له أصلا، فيقولون " إنه ريح " كما يقولون فيما بطلت ماهيته " إنه صار ريحا " .
Страница 31