(84) ولأن لفظة الموجود وهي أول ما وضعت في العربية مشتقة، وكل مشتق فإنه يخيل ببنيته في مل يدل عليه موضوعا لم يصرح به ومعنى المصدر الذي منه اشتق في ذلك الموضوع، فلذلك صارت لفظة الموجود تخيل في كل شيء معنى في موضوع لم يصرح به - وذلك المعنى هو المدلول عليه بلفظةالوجود - حتى تخيل وجودا في موضوع لم يصرح به، وفهم أن الوجود كالعرض في موضوع. أو تخيل أيضا فيه أنه كائن عن إنسان، إذ كانت هذه اللفظة منقولة من المعاني التي يوقع عليها الجمهور هذه اللفظة - وهي التي للدلالة عليها وضعت من أول ما وضعت - وكانت معاني كائنة عن الإنسان إلى شيء آخر، إما إنسان أو غيره، كقولنا " وجدت الضالة " و" طلبت كذا " أو " وجدته " و" وجدت زيدا كريما " أو " لئيما " ، فإن هذه كلها تدل على معان كائنة عن إنسان إلى آخر.
(85) وينبغي أن تعلم أن هذه اللفظة إذا استعملت في العلوم النظرية التي بالعربية مكان " هست " بالفارسية فينبغي أن لا يخيل معنى الاشتقاق ولا أنه كائن عن إنسان إلى آخر، بل تستعمل على أنها لفظة شكلها شكل مشتق من غير أن تدل على ما يدل عليه المشتق، بل أن معناه معنى مثال أول غير دال على موضوع أصلا ولا على مفعول تعدى إليه فعل فاعل، بل يستعمل في العربية دالا على ما تدل عليه " هست " في الفارسية و" استين " في اليونانية. وتسعمل على مثال ما نستعمل قولنا " شيء " . فإن لفظة الشيء إذا كانت مثالا أولا لم يفهم منه موضوع ولا فهم أنه كائن عن إنسان إلى آخر، بل إنما يفهم منه ما يعم ما يدل عليه المشتق والمثال الأول، وما هو كائن عن إنسان إلى آخر أو غير كائن. وتستعمل لفظة الوجود مصدرا، لكن ينبغي أن يتحرز من أن يتخيل أن معناه هو كائن عن إنسان إلى آخر - وهو ما كان هذا المصدر يدل عليه عند جمهور العرب من أول ما وضع - ولكن يستعمل على مثال ما نستعمل قولنا في العربية " الجمود " وأشباه ذلك ما بنيته بنية الوجود في العربية مما ليس يدل على كونه عن إنسان إلى آخر.
(86) ولأن هذه اللفظة بحيث ما هي عربية وبنيتها عندهم هذه البنية صارت مغلطة جدا، رأى قوم أن يتجنبوا استعمالها واستعملوا مكانها قولنا " هو " ومكان الوجود " الهوية " . ولأن لفظة " هو " ليست باسم ولا كلمة في العربية. ولذلك لا يمكن فيها أن نعمل منها مصدرا أصلا، وكان يحتاج في الدلالة على هذه المعاني التي يلتمس أن يدل عليها في العلوم النظرية إلى اسم، وكان يحتاج إلى أن يعمل منه مثل " الرجل " و" الرجولية " و" الإنسان " و" الإنسانية " ، رأى قوم أن يتجنبوها ويستعملوا الموجود مكان " هو " والوجود مكان الهوية. وأما أنا فإني أرى أن الإنسان له أن يستعمل أيهما شاء. ولكن إن يستعمل لفظة " هو " فينبغي أن يستعملها على أنها اسم لا أداة - و" الهوية " ، المصدر المعمول الآخر، جار وإن لم يستعمل - تركب مبنية في جميع الأمكنة على طرف واحد، على مثال ما توجد عليه كثير من الأسماء العربية التي تركب مبنية على طرف واحد آخر. وأما المصدر الكائن منها وهو " الهوية " فينبغي أن يستعمل اسما كاملا ويستعمل فيه الطرف الأول والأطراف الأخيرة كلها. وإذا استعملت لفظة الموجود استعملت على أنها مثال أول وإن كان شكلها شكل مشتق ولا يفهم منها ما تخيله نظائرها من المشتقات ولا من التي تفهمها هذه اللفظة إذا استعملت في الأمكنة التي يستعملها فيها جمهور العرب وعلى وضعها الأول، لا موضوعا ولا معنى في موضوع ولا أنه كائن عن الإنسان إلى آخر، بل على العموم وكيف اتفق، بل تستعمل منقولة عن تلك المعاني مجردة عن التي توهمها هناك وتستعمل على مثال ما نستعمل قولنا " شيء " .
(87) فنحن الآن نحصي معنى هذه اللفظة إذا استعملت في العلوم النظرية على النحو الذي ذكرناه أنه ينبغي أن تستعمل عليه.
Страница 27