Человеческая свобода и наука: философская проблема
الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية
Жанры
وانسحب المد الحتمي إلى التاريخ والجغرافيا، فقد كانت الحتمية قرينة العلم وكل دراسة تطمح في الظفر بالسمة العلمية لا بد وأن تتشح بوشاح الحتمية، وأشهر محاولة لعلمنة التاريخ عن طريق الزعم بخضوعه لحتمية صارمة هي محاولة كارل ماركس ، وإن كان ابن خلدون (1332-1406) قد سبقه في هذا بعدة قرون، وحتى الجغرافيا هرولت هي الأخرى لتلحق بركاب المسيرة الحتمية، فراح علماؤها يؤكدون أن الإنسان محض صنيعة لبيئته، أو مجرد نتاج لسطح الأرض، كما تقول العالمة الجغرافية إلين تشرشل سمبل.
هكذا اكتمل التصور الحتمي في عيون العلم، وحتى نهايات القرن التاسع عشر كان العلماء على يقين من أن كل ما يبدو وكأنه لا يؤكد الحتمية، سواء في الدراسات الطبيعية أو الإنسانية، مجرد فراغات سوف تملؤها الجهود العلمية المتواترة، لنظفر يوما ما - ليس بعيدا - بالعلم الكامل: الصورة القاطعة الجامعة المانعة لكون حتمي تماما، آلة ميكانيكية عظمى. •••
لقد تكاتفت أفرع العلم المختلفة لتسد منافذ هذا الوجود أمام الحرية الإنسانية، بكل خفقانها في القلوب وجيشانها في الصدور، أعلنت حتميته أنها غير كائنة في العالم، ثم أطبقت فكيها بشراسة على كل جوانب ممارسة الحياة فيه؛ السيكولوجية والاجتماعية والتاريخية ... بالطبع فضلا عن الجانبين الفيزيقي والبيولوجي، كان هذا هو الوضع حتى نهايات القرن التاسع عشر.
من هنا كان الميراث التاريخي لمشكلة الحرية الإنسانية يفرض عليها المنظور العلمي، وكان لزاما أن نتعاقد على أن يكون للعلماء حق الحديث أولا، ثم يأتي الفلاسفة ليتفلسفوا بناء على أحاديث العلم والعلماء، بغية أفضل عرض منهجي للمشكلة، خصوصا وأنها ذات أبعاد بعيدة، أبعد من كل ما قد يبدو للنظرة العابرة، فهذا التناقض بين العلم بحتميته والإنسان بحريته - كما سنرى - صنع واحدا من أخطر بؤر التفلسف في تاريخ الفكر، وإحدى نقاط التحول فيه.
ولكن أين هي تلك الحرية التي ما زلنا وسنزال دائما نبحث عنها، ما دام مبدأ الحتمية قد بلغ في عالم العلم كل هذا الشأن العظيم؟! •••
الواقع أن مبدأ الحتمية العلمية هذا وتفسيره الميكانيكي للكون - وبغض النظر عن جذوره السيكولوجية - ليس إلا فرضا كان العقل البشري في حاجة ماسة إليه؛ كي يرسم له طريقا آمنا وأطرا مطمئنة لمحاولة فهم العالم، إنه يرسم صورة أنطولوجية لعالم مثالي كموضوع للعلم.
أما من الناحية الإبستمولوجية - والعلم أصلا نشاط إبستمولوجي والدلالة الأنطولوجية فرع - فلنتذكر أن اليقين هو الوجه الإبستمولوجي الصريح لمبدأ الحتمية، ومن هنا نجد أن العوامل الحضارية هي التي دفعت العلم دفعا إلى أحضان الحتمية، فقد ظل العلم التجريبي نشاطا ذاويا، ينمو على استحياء وبخطا وئيدة جدا، حتى كان أفول العصور الوسطى وإشراقة العصر الحديث، ومع القرن السادس تفجر نجاح العلم وبدأ يفرض نفسه، ولكن السلطة كانت لا تزال في يد الكنيسة، والسجال العنيف بل الدامي بينهما على أشده، ولكن ينتزع العلم السلطة من الكنيسة - ذات اليقين المطلق طبعا - ولم يرض مطلقا أن يبدو أقل شأنا، وأصر على أنه هو الآخر يأتينا باليقين المطلق، أوليس عالمه محض آلة ميكانيكية؟! فارتبط نجاح العلم بالثقة المفرطة غير النقدية في نتائجه حتى ساد الاعتقاد أن لديه الإجابة القاطعة على كل سؤال والحل الناجع لكل مشكلة، وكما يوضح هانز ريشنباخ في كتابه «نشأة الفلسفة العلمية» (عن الترجمة العربية ص44 وما بعدها) حيث يقول: «بلغ هذا مع القرن الثامن عشر حدا جعل العلم يضطلع بوظيفة اجتماعية هي أصلا من مهام الدين والمقصود وظيفة كفالة الطمأنينة القصوى، فلا غرو أن يصبح الله في عصر التنوير أشبه بعالم رياضي جبار يعرف كل شيء، طالما أن لديه استبصارا كاملا بالقوانين، ويصبح العالم أشبه بإله صغير ينبغي أن تقبل تعاليمه بوصفها يقينية مطلقة، بمنأى عن كل شك.» ولله في خلقه شئون!
والواقع أن اليقين هذا ليس ذا علاقة حقيقية بالعلم؛ لأنه أي اليقين مجرد حالة سيكولوجية تقوم على اطمئنان النفس تجاه القضية المعطاة، وعادة ما يرجعها علماء النفس إلى الرغبة في العود لعهود الطفولة التي لا يعكر صفوها شك بفضل الثقة في حكمة الوالدين، وكما أوضح الفيلسوف التحليلي الرائد لودفيج فتجنشتين
L. Wittgenstein (1889-1951) بعباراته الصاروخية الموجزة، فإن الفارق بين مفهوم «يعرف» ومفهوم «يكون متيقنا» ليست له أية أهمية إطلاقا، ولا حتى في مقتضيات الحياة العلمية كالشهادة أمام المحاكم، هذا ما لم يكن مفهوم «أنا أعرف» مقصودا ليعني «أنا لا يمكن أن أكون على خطأ!» ومن ذا الذي يعد نفسه معصوما من أي خطأ؟! إنه على أية حال، مسألة شخصية ذاتية لا موضوعية فيها، ناهيك عن موضوعية العلم المثلي.
موضوعية العلم تحول بينه وبين أي زعم باليقين، وهذا يجعلنا أقل غرورا ويجذب انتباهنا إلى حقيقة عظمى مؤداها أن نتائج العلم تصوب نفسها باستمرار؛ لذا يواصل العلم تقدمه، يقين العلم ليس في أية نتيجة معينة، بل في أن كل خطوة غير دقيقة أو خاطئة يمكن دائما تصويبها، وفي القرن العشرين، اتضح أن كل قوانين العلم، مهما كانت ناجحة ونافذة وبارعة، هي فقط احتمالية أي قابلة للتعديل، وهذا يعني إمكانية الوصول إلى قانون أنجح وأنفذ وأبرع، هكذا يجعل الاحتمال طريق العلم مفتوحا للأبد، ويجعل البحث العلمي محتاجا دائما إلى المزيد من العمل الدءوب ومن الجهود الخلاقة، فلا يقين نتوقف عنده ونركن إليه، اللهم إلا إذا أردنا التخلي عن ميراث النهضة العلمية، والعودة إلى القواقع الأرسطية، وهذا هو المحال.
Неизвестная страница