Человеческая свобода и наука: философская проблема
الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية
Жанры
وفلسفة سبينوزا مراوغة إلى أقصى الحدود، يعطي شكلها ومظهرها نقيضا لما يعطيه مضمونها وجوهرها، فقد لجأ في عرضها إلى أسلوب مخاتل أسماه «المنهج الهندسي»؛ ليبدأ بمسلمات يضع فيها تعريفات لمفاهيم معينة، كالله والحب والجوهر والأزلية ... وهي تعريفات مختلفة تماما عن المعنى المتعارف عليه، ثم لا يرد في السياق إلا الرمز المألوف، الله مثلا، ويفوت الدارس - أو يضنيه أو يعجزه - التخلص من المعنى المتعارف عليه لهذا الرمز، ووضع المعنى الإسبينوزي الخاص جدا في الذهن، فيضيع منه المراد، ولا يفهم شيئا، وينخدع الشعراء والرومانتيكيون وأمثالهم، فيتصوروا أن سبينوزا صوفي متهدج بحب الله.
أما الدراسات العميقة الثاقبة المتأنية، من قبيل دراسات ستيوارت هامبشير وموريس كوهين، وفوير، وجورج إليوت، وفؤاد زكريا ... وآخرين فتدرك أن سبينوزا مادي على الأصالة، أنكر وجود إله مفارق للطبيعة، ولأن الحتمية الصارمة تستلزم بالضرورة أن يكون الكون كلا واحدا مغلقا على ذاته لا ثنائية فيه فضلا عن أية تعددية، فإن الكون الإسبينوزي جوهر واحد أزلي أبدي لا متناه، أحيانا يسميه الله ذرا للرماد في عيون عشيرته اليهودية، ولكن الجوهر الواحد في حقيقته لا يعدو أن يكون مجمل هذا الكون، أحد وجهيه الطبيعة الطابعة (الفكر) والوجه الآخر هو الطبيعة المطبوعة (المادة)، على ألا نتصور أسبقية من أي نوع للطبيعة الطابعة على الطبيعة المطبوعة، الاثنان وجهان لعملة واحدة.
فيأتي سبينوزا في كتابه الأكبر «الأخلاق: مبرهنا عليها بالطريقة الهندسية» لينص في القضية السابعة من الجزء الثاني على تطابق المعرفة والوجود، فيقول: «نظام وارتباط الأفكار هو ذاته نظام وارتباط الأشياء»، وبالتالي ليس من طبيعة العقل أن يعتبر الأشياء عرضية، فيتمكن سبينوزا من تحقيق واحديته ذات الحتمية الصلبة: كل ما في الأمر طبيعة مادية محكومة بقوانين حتمية هي موضوع الفكر الذي يكشف عنها، أو هي الفكر ذاته، لتغدو الحتمية إبستمولوجية وأنطولوجية - أي معرفية ووجودية معا.
وحين يقول في القضية الخامسة عشرة من الجزء الأول: «كل شيء يوجد في الله، وليس ثمة شيء يمكن أن يوجد أو يفهم بغير الله»، فإنه يعني أن كل ما هو موجود في الوجود (أنطولوجيا) وكل ما هو موضوع للفكر (إبستمولوجيا)، هو تلك الطبيعة الطابعة المطبوعة، وحين يقول في القضية السابعة عشرة: «يعمل الله فقط تبعا لقوانينه الخاصة به، وليس ثمة شيء يمكن أن يجبره.» فإنه يعني أنه ليس في الوجود أية قوانين إلا القوانين التي تحكم حتمية الطبيعة، وحين يقول في القضية التاسعة والعشرين: «طبيعة الأشياء لا تسلم بأي شيء عرضي، بل يتحتم كل شيء بواسطة ضرورة الطبيعة الإلهية للوجود وللعمل بطريقة معينة.» فإن هذا لا يعني إلا صرامة الحتمية، فهو يقول صراحة في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة إنه يفهم الأوامر الإلهية على أنها القوانين الحتمية الكامنة في الطبيعة. وحين يقول في القضية الثلاثين: «العقل يجب أن يعي خصائص وأحوال الله فقط لا غير.» فهذه دعوة صريحة إلى أن يقتصر النشاط العقلي على البحث في العلم الطبيعي الكاشف للقوانين أو المسار الحتمي لهذا الوجود، أو الجوهر الواحد، أو الطبيعة المادية الطابعة المطبوعة، أو «س» أو «ص»، ولا مشاحة في الألفاظ كما يقولون!
وهذه الدعوى إلى الدراسة العلمية الحتمية تشمل كل شيء، حتى العواطف والانفعالات، وكتابه «الأخلاق» يعالجها كما يعالج علم الهندسة النقط والخطوط والمسطحات، ومن هنا كان سبينوزا مبشرا بعلم النفس الحديث، بإخضاع الظواهر السيكولوجية للدراسة العلمية الموضوعية، وهو داعية لعلمنة الدراسات الإنسانية بجملتها: التاريخ والسياسة والاجتماع ... فلا بد من النظر إلى كل أوجه وجوانب الحياة الإنسانية بوصفها خاضعة لنفس قوانين الوجود الحتمية، فتستكمل الطبيعة المادية شموليتها وتستوعب كل الكيانات على الإطلاق، وتغدو الحتمية بدورها هكذا.
على هذا النحو كانت فلسفة سبينوزا مجرد تخطيط لكون حتمي مادي حاو لكل شيء، تحكمه قوانين حتمية صارمة هي موضوع العلم الذي هو النشاط العقلي الوحيد، فأحكمت الحتمية الفلسفية قبضتها على الكون فلا تنفذ من أقطارها أية واقعة من وقائعه، فحق القول إن الفلسفة أنجزت مهمتها بشأن الحتمية؛ ليتسلمها العلم مبدأ ناضجا مخدوما، خليقا بأن يكتسب الشخصية العلمية، بل أن يكتسب العلم منه شخصيته.
إن سبينوزا مواكب لنهضة العلم الحديث، معبر عن الروح العلمية السائدة في عصره، فقد كان مبدأ الحتمية آنذاك هو الأب الروحي الهادي الحادي للعلم، يرسم للعلماء المثل الأعلى الذي يحدد لهم مسار الخطوات.
لذلك نجد العلماء يتكفلون الواحد بعد الآخر، بتحقيق حلم البشرية الأزلي: تصور الكون ككل واحد خاضع لحتمية صارمة، والآن: كآلة ميكانيكية ضخمة، بدأت أولى الخطوات نحو هذا بأولى خطوات العلم الحديث، وهي خطوة علوم الطبيعة: الفلك والفيزياء، ولنلاحظ أن الفيزياء هي الأصل وصاحبة القول الفصل، فهي التي قادت نهضة العلم، وهي أكثر العلوم تقدما، وهي أيضا أكثرها عمومية وتتربع على قمة سلم نسق العلم الإخباري، وكل العلوم الأخرى تليها وتستفيد منها، فلا بد وأن تسلم بمبادئها، على هذا نجد الحتمية العلمية أولا وقبل كل شيء هي الحتمية الفيزيائية، فإذا كانت الفيزياء حتمية - أو لا حتمية، فالعلم كله هكذا.
وقد أصبح العلم الحديث حتميا لأن الفيزياء أصبحت هكذا، وعن طريق خطوات ثلاث، في الأولى بدأ كوبرنيقوس
N. Copernicus (1473-1543) نهضة العلم حين جعل الشمس بدلا من الأرض مركزا والكواكب تدور حولها، وبفضل تيكو براهه (1536-1601) وكبلر
Неизвестная страница