وبعد: أليس الآيات تنزل كاملة متوالية في كل سورة من البداية حتى النهاية بلا انقطاع؟؟ بلى بلى هذا هو الحق بلا نزاع. ولأجل هذا جاء من الله التأكيد على أن السورة هذه آيات متوالية حتى النهاية، فقال في الآية 34 منها: (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين)، وكرر هذا التأكيد في الآية 46 منها فقال: (لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). فهل الهدى إلى صراط مستقيم يتم بآيات مقطعة الإنزال؟، وهل البيان في الكلام العام يتم بكلمات مقطعة الأوصال؟، فكيف بكلام الله العلام!!
وهل التقطع إلا لغو لا ترضاه الأفهام ولا يليق بالعقول؟، فكيف ترضاه لربنا الجليل؟، إنه الحق والحق يقول: (فتعالى الله) عن القول الغامض العي، وقد لقب الآيات في كل شيء، وكان القرآن هو قمة البيان الذي يعجز كل ناطق حي، فلتكن على يقين بأنه تنزل سورا كاملة لها بداية ولها نهاية تحيط بموضوعها، وتفصح عن أغراضها، بما لا يدع مجالا للغواية، وبما يزيد الناس علما ودراية، ويهديهم إلى أسمى غاية.وبعد فإن سورة النور قد أنارت لنا السبيل، وقطعت كل قول بأقوى دليل، وبالنص الذي لا يحمل التأويل.
هل تريدون المزيد من الأدلة؟، على أن السور كانت تتنزل كاملة؟.لنقرأ بعضها فإن البعض يدل على الكل ويكشف عن الصور، وينسف كل ارتياب، ويسترشد به أولوا الألباب. لنبدأ من البقرة، فإن الدلالة فيها واضحة مقررة. ولنقرأ: (الم(1)ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين(2)الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون(3)والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون(4)أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) [البقرة:1-5].ماذا أفادت الآيات؟. أفادت أن المتقين هم الذين يؤمنون بالغيب، ويؤمنون بما أنزل على محمد وبما أنزل على الأنبياء من قبله. وإذن فهم لهم صفات خاصة، منها الإيمان بكل ما أنزل، ولكل من أرسل. أليس هذا هو بعض ما تقرر هنا؟.بلى.
انتقلوا إلى آخر السورة تجدوا آخرها يتصل بأولها، ومنتهاها يؤكد مبتدأها، وأن الموضوع متصل الآيات، متتابع الدلالات، لا ينفصل ولا يتمزق، ولكن يتوالى ويوثق. ولنقرأ الختام، ففيه القول الفصل الذي يقطع كل الأوهام: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) [البقرة:286].ألم يؤكد هنا ما أثبته هناك؟، ألم يعلن هنا ما أعلنه هناك؟. بلى.
وها هم المؤمنون يتبعون الرسول في الإيمان بما أنزل الله، وها هم كلهم يؤمنون بالله وملائكته "إنه الإيمان بالغيب"، وهي صفة هامة كما كانت هناك هي الصفة الهامة الأولى من صفات المتقين. ثم مع الإيمان بالله وملائكته كأنهم يؤمنون بكتب الله ورسله إيمانا بالتساوي مع الإيمان بالرسول الخاتم، لا فرق بين أحد من الرسل سواء تأخر أو تقدم. وبعد الإخبار من الله بأن الرسول آمن والمؤمنون آمنوا بذلك، ها هم يعلنون بلسان واحد الاستماع لما أنزل الله والطاعة (وقالوا سمعنا وأطعنا)، وإذا كان هذا هو شأنهم وهذا هو سبيلهم، فماذا يريدون به؟.إنهم يريدون المغفرة من ربهم لا سوى، فإن هذا هو المطلب الهام والأثير، لدى المؤمنين بالحق المنير. وكيف لا يطلبون هذا المطلب من ربهم العليم القدير؟، وهو الذي إليه وحده المصير (وإليك المصير)، فهو محاسبهم على العمل الصغير والكبير، فهو لا يخفى عليه شيء ولو تضمير، وهو العليم بذات الصدور، فالمصير إليه خطير، إذا لم يكن بالإيمان بالله ورسله هو الشفيع للعبد الصغير، وهو النور في لقاء ربه الكبير. وهكذا يكون هؤلاء هم الذين يهديهم كما وصفهم الله في الآيات الأولى بقوله: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) [البقرة:5].
إذن فالموضوع واحد، والبداية والختام تنطلق من غرض واحد، وعلى الإيمان تؤكد، وللطريق الحق تحدد، وهو تكليف لا يصعب على المؤمن الموحد؛ لأنه تكليف من الله الذي يدعو إلى دار السلام، ويعلم قدرة العباد في كل المهام، فلا يكلف إلا بما يستطيعه الإنسان، في كل زمان وفي كل مكان. ولهذا قال: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) [البقرة:286].وهي حقيقة لا تشك فيها ولا ترتاب؛ لأنه قول الله الغفور الوهاب (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، ومع أن المؤمنين يعلمون هذه الحقيقة فإنهم يتوجهون إلى ربهم داعين مستعيين، ولمولاهم خاشعين مستسلمين، فيقولون: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) [البقرة:286].وهكذا تنتهي السورة بهذا الدعاء العميق الذي يعلن فيه المؤمنون عجزهم عن الوفاء إلا بعون ربهم، ويرجون فيه أن يجنبهم ما وقع فيه المنافقون بكذبهم، ولا ما وقع فيه أهل الكتاب من قبل من عدم التمسك بكتاب ربهم.ثم وأخيرا يعلن المؤمنون أن الله ربهم ومولاهم وبالتالي فإنه المدعو بنصرهم على القوم الكافرون، وإنه لدعاء يعيدنا إلى بدايات السورة التي وصفت المؤمنين مع هؤلاء الأنواع من الناس بالتفصيل، فالكافرون لا يؤمنون، فقلوبهم عليها وعلى أسماعهم ختم وأبصارهم عليها غشاوة، فهم معادون للإيمان بصورة واضحة بلا غشاوة، أما المنافقون من أهل الكتاب ومن الأعراب فهم موصوفون بصفات الكذب والخداع، والادعاء الذي يدعو إلى الاقتناع، ولكنه ادعاء يكذبه الله ويفضح، وعن طواياهم يكشف ويفصح، فإذا هم يشترون الضلالة بالهدى فهو شراء لا يربح، وهم في ظلمات من كل اتجاه تحيط بهم، وهم صم بكم عمي في دينهم، فلا يرجعون إلى الصواب، ولا يسلكون مع أولي الألباب. بل يستمرون في طريق الهلاك والتباب، ويتمسكون بالارتياب، لكن الله بهم عليم خبير، ولو شاء لذهب بكل مداركهم فهو على كل شيء قدير، وإذن فإن الناس مدعوون إلى طريق الخير والسلام، والارتفاع إلى أعلا مقام، إنهم مدعوون إلى قوله تعالى: (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة:21].فعبادة الله الخالق هي ميثاق الخلق للإنسان، وهي مهمته في كل زمان ومكان، وبالعبادة يرتقي إلى التقوى التي تجعله في مصاف عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا.
ولكن كيف يهتدي إلى هذا المقام؟. إن السبيل إلى ذلك هو ما أنزله الله على عبده من الكتاب والإيمان بما فيه بلا ارتياب، فذلك مرتقى أولي الألباب، وإلا فإن النار للكافرين المآب، وهكذا تكون الآيات من البداية إلى النهاية، فالسورة تدور حول هذا الموضوع الهام، الذي يرفع الإنسان إلى أعلى مقام، ولهذا كانت السورة حافلة بمختلف آيات الأحكام، لتنظيم حياة الناس على أحسن نظام، ولتدلهم على الطريق الحق المبين، الذي يدخلهم في اسلم كافة في الدنيا ويوم الدين، ويوصلهم إلى الفوز برضوان رب العالمين، فهل بعد هذا يقال أن السورة نزلت مقطعة الأوصال؟، موزعة الآيات بلا اتصال؟. كلا: بل السورة نزلت كاملة وبأحكام مفصلة متصلة، وآيات متواصلة. وكيف لا والله علام الغيوب يعلم ما كان وما يكون، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو معنا أينما كنا، ولهذا فهو في السورة يسأل الناس سؤال استعجاب، ليؤكد غفلة الناس عن ربهم واتخاذهم من دونه الأرباب، فيقول: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) [البقرة:28].فالأرض هو سخرها وهو لنا عليها سبر، وهو الذي للأمر دبر، ولكل خلق هدى وقدر، وللأرزاق بسط وقدر، وإليه الخلق كله يضطر، وهو يجيب المضطر، بل ويعلم سؤال كل مخلوق قبل السؤال، فيأتيه الرزق في كل حال، من ربه ذي الجلال، فهو المحيط بكل شيء علما، وهو الذي يصورنا في الأرحام كيف يشاء.وبهذه الصفات العظيمة لله العليم، تنزل القرآن الحكيم، وتوالت أحكام السورة بتواصل مستقيم، بلا تفريق ولا تقسيم.
فمن ذا يستبعد ذلك على الله!! وهو الذي يصف نفسه بقوله: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم) [البقرة:255].هكذا هو الله ذو العلم والقدرة، فلتقدره حق قدره، ولنوقن أن القرآن تنزل بالأسلوب الذي يليق بمن أنزل، وأن سوره كانت كاملة تنزل. ولنعد إلى سورة البقرة لنستوضح هذه الحقيقة المقررة ولنبدأ من أول السورة: إن الله يأمر الناس في الآية 21 بقوله: (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة:21].إن هنا يبدأ سؤال وهو: هل يمكن أن يأمر الله الناس أن يعبدوا ربهم دون أن يوضح لهم كيف يعبدون؟ وماذا يعملون حتى يكونوا من المتقين؟. كلا وحاشا. إذن: فإن السورة قد بينت وأوضحت، وبالأحكام والشعائر والمعاملات حفلت، ولقد توالت فيها الآيات بأسلوب جميل منير، يستسغي ويشرح الصدور، ويصلح ويزكي الناس مدى الدهور، ويحدد لهم معالم السلام في المسير.
ولو أردنا أن نستعرض ما ورد في السورة من الأحكام والواجبات، وشعائر الدين والمعاملات الدنيوية لطال المقال، ولكنا سنشير إليها باقتضاب، ونتلمس تواصلها بدون إسهاب، ولنبدأ من حيث الأمر بالعبادة، فلقد أعقب الأمر للناس بعابدة ربهم، استبعاد أن يكون ما أنزل الله على عبده يواجه بارتيابهم، فإذا أصروا على الارتياب فليأتوا بسورة من مثل القرآن، فيها الوضوح والبيان، إنهم لا يستطيعون، فهم إذن لن يفعلوا، وإذن فإن عليهم أن يكونوا بالقرآن مؤمنين، وإلا فليتقوا النار التي أعدت للكافرين، كما أن الجنة أعدت للمؤمنين، وتتواصل الآيات حتى تنتهي بالآية 29 التي سبقت هنا والتي تذكرنا بأنه خلق لنا الأرض والسماوات، وهنا كان من المناسب أن يذكرنا ببداية الإنسان على الأرض، ولنعرف أن الإنسان طارئ عليها مخلوق لغرض، فكانت آيات الخليفة وحوارها مع الملائكة، ثم آيات أمرهم بالسجود لآدم وامتثالهم للأمر في حين استكبر إبليس وكفر فإذا هو يعلن نفسه عدوا لآدم من البداية وسيظل معه حتى النهاية يغوي ويضل ويردي ويزل، ولقد كانت البداية في الجنة الأولى التي أبيح لآدم فيها أن يأكل رغدا ولما زل خرج من الجنة وهبط من مقام الحياة الآمنة إلى مستقر الحياة المؤقتة إلى حين المقدرة المتاع للبشر أجمعين فلهم فيها الحياة والموت وهم فيها بعضهم لبعض عدو مدى الزمان، وهم في خوف وأحزان، ولا ينجو من هذا إلا من اتقى وعمل صالحا بإيمان، ولا يكون هذا إلا بهدى من الله الذي كتب على نفسه أن يرسل الرسل وينزل البيان، (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون* والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [البقرة :38-39].
وهكذا بدأت المسيرة وجاء الهدى وجاءت الرسل بالبينات المنيرة ولهذا كان من المناسب أن ترد الآيات التي تذكر بني إسرائيل بعهودهم مع الله وتدعوهم إلى الإيمان بما أنزل الله على محمد عبد الله وهو مصدق لما مهعم وجاءهم مع موسى وعيسى من عند الله، وتذكرهم بالرجوع إلى الله ، ولعل في هذا إنذارا لنا لنكون على وفاء مع الله وتقوى وإلا كنا مثل بني إسرائيل، ألم يكن الله قد فضلهم على العالمين بحمل رسالة الدين، وها هو الله يحملنا حمل القرآن للعالمين، فلنكن في حمله جادين ومجاهدين، وفي إبلاغه مخلصين، وفي العمل به صادقين، لنكون من الصالحين، وإلا كنا مع الذين غضب الله عليهم وكانوا من الخاسرين ، وحلت بهم لعنة اللاعنين، فلنحذر ولنعمل صالحا ولنف بالعهد ليكون عملنا مفلحا، ولتضح لنا التحذير والنذير توالت آيات بني إسرائيل حتى تصل إىل الآية (150) من السورة. وكلها تفصح عناد بني إسرائيل مع المرسلين وتكذيبهم بالآيات والارتياب في الدين، واللجاج في كل حجاج، وتحريف الآيات النازلة عليهم وكتابة الكتاب بأيديهم بما يتفق مع هواهم وادعائهم بأن هذا كتاب ربهم، واتباعهم الشياطين في تعلم السحر ونسبة ذلك إلى سليمان، ثم تعلمهم ما يتفرق به الزوجان، واستمرارهم في اتباع ما يضر الإنسان ولا يرضي الله الرحمن، فكانوا بذلك مستحقين الذلة والغضب والهوان، والعذاب في الدنيا ويم الدين، وخلودهم في لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ومع ذلك فهم يدعون أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، ويفترون على الله أن الجنة لهم محدودة، وأن الدخول لهم دون الناس، وأنهم أولياء لله دون الناس، لكن الله يكذبهم ويدفع زورهم، ويدفعهم بأن ملتهم هي أهوائهم، ويفند دعواهم أنهم أتباع إبراهيم ، ويؤكد أن إبراهيم ليس يهوديا ولا نصرانيا ولكنه إمام المسلمين وأنه لم يكن من المشركين، وكلهم يكابرون وهم يعلمون، أو هم لا يعلمون؛ لأنهم يجهلون ما عندهم من الكتاب المبين، بل لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون، وهكذا يؤكد الله أن المسلمين هم المتبعون لكل المرسلين والمؤمنون بما أنزله الله عليهم أجمعين، وأن من لم يؤمن بذلك فإنه كافر أثيم، ولا ينفعه أنه من نسل إبراهيم، فالأنساب لا تنفع ولا ترفع ولكن المهتدي هو من آمن واتبع، وإذن فلكل إنسان مع عمل وعليه يسأل (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ) [البقرة:141].وهكذا تبين الآيات بأن بني إسرائيل عاطلون من العلم رغم الادعاء ، بعيدون عن الهدى ، ضالون عن سبيل الأنبياء، متبعون للهوى. وبهذا حرفوا الكتاب ولا يزالون منه في ارتياب، ولهم الذلة والعذاب.
Неизвестная страница