لكننا نعود إلى فكرة ملاءمة الشيء للعمل الذي أريد له أن يؤديه، فنقف وقفة قصيرة حيالها، لنسأل: أيكون جمال الشيء كائنا في نفعه، وعندئذ يكون الجميل هو النافع والنافع هو الجميل؟ ألا إنها لفكرة تستحق النظر؛ لأن الأمثلة على صوابها كثيرة؛ فالعين الجميلة لا تكون عمياء؛ أي إنه إذا ما عجزت العين عن أداء ما جاءت لتؤديه استحال عليها في الوقت نفسه أن توصف بالجمال. وكذلك قل إن الجسم الجميل هو الجسم الخفيف الحركة القوي القادر. وكذلك قل أيضا في عالم الحيوان: إذ ماذا يكون الحصان الجميل إلا أن يكون هو الحصان الذي توافرت فيه الصفات المطلوبة من سرعة وقوة. وقل هذا نفسه في الأشياء بعد أن قلناه عن الإنسان والحيوان؛ فالعربات والسفن وآلات العزف وغيرها لا توصف بالجمال إلا لحسن أدائها لوظائفها، بل قل هذا نفسه عن النظم وطرائق العيش، كالنظم السياسية ونظم التعليم وأوضاع الحياة العملية من تجارة وصناعة وزراعة وغيرها، تجد كل شيء «جميلا» إذا هو أدى إلى الغاية منه خير أداء، ولو صح هذا كله لصح أن نقول إن جمال الشيء هو نفعه وملاءمته لوظيفته؛ فالقدرة جمال والعجز قبح، والمعرفة جمال والجهل قبح، والقوة جمال والضعف قبح، والصحة جمال والمرض قبح.
لكن المتحاورين في محاورات أفلاطون سرعان ما يتنبهون إلى أن الأداء مجرد الأداء لا يكفي؛ إذ قد يؤدي الشيء سوءا وشرا، أفنقول عندئذ إنه جميل؟ كلا، فلا بد أن يضاف شرط هام، وهو أن يكون الشيء قادرا على أداء ما هو خير لكي يستحق أن يوصف بالجمال. غير أننا ها هنا بإزاء طرفين، هما: الشيء الذي هو أداة، ثم الفعل الذي يؤدي؛ أي إننا بإزاء علة ومعلول، فهل نطلق كلمة الجمال على الطرفين معا وفي وقت واحد؟ إننا لو فعلنا أوقعنا في خلط فكري يدمج جانبين مختلفين في شيء واحد، وإذن فلا بد أن نبقي من الطرفين على أحدهما دون الآخر، ولا مندوحة لنا أن نبقي على الغاية لا على وسيلتها، والغاية هي - كما قلنا - الخير المرتجى لبلوغه عن طريق تلك الوسيلة، وإذن فالخير في ذاته هو نفسه الجمال.
على أن هذه النتيجة قد بدت للمتحاورين كأنما هي تتجاهل عنصرا هاما في الأشياء «الجميلة»، وهو المتعة الحسية التي يستمتع بها من يرى الجميل أو يسمعه أو يلمسه أو يتصل به بأية حاسة أخرى غير البصر والسمع واللمس؛ فما من شك في أن التذاذ حاسة معينة في كل حالة من حالات الجمال هو جانب من الموقف لا يجوز تجاهله وإهماله عندما نبحث عن طبيعة الجمال، وإلا فهل يجوز أن أتجاهل استمتاع الأذن ب «الصوت» في الموسيقى، والعين ب «اللون» في التصوير؟ هل يجوز أن أغض النظر عن متعة «الحواس» بالتمثال الجميل وبالشعر المنظوم وبالقصص يروى فيفتن؟ أقول إن المتحاورين في حقيقة الجمال كان لا بد لهم أن يتنبهوا إلى هذه المتعة الحسية فيفسروها على ضوء النتيجة التي انتهوا إليها، وهي أن الجمال هو نفسه الخير.
فكان لا بد لهم بادئ ذي بدء أن يفرقوا بين لذاذات الحواس المختلفة؛ لأن لذة الطعام والشراب والجنس لا تجعل من هذه الأشياء أشياء «جميلة»؛ ولأن الحاستين الوحيدتين اللتين لا تتعارض اللذة فيهما مع الجمال، هما حاستا البصر والسمع؛ فبالبصر نشهد المناظر الجميلة في الطبيعة وفي الفن على السواء، وبالسمع نسمع الأصوات الجميلة في الطبيعة وفي الفن على السواء كذلك.
ولكن هل يكون المرئي جميلا لأنه مرئي بالعين، والمسموع جميلا لأنه مسموع بالأذن؟ إننا لو أجبنا بالإيجاب لكنا بمثابة من غض النظر عن أهم مشكلة في الموضوع كله ألا وهي: ما هو الجانب «المشترك» بين المرئي والمسموع، الذي جعلهما معا يندرجان في مجموعة واحدة يطلق عليها اسم واحد، هو اسم «الجمال»؟ إنه لا مفر من الاعتراف بأن مصدر الجمال «المشترك» بين البصر والسمع، لا بد أن يكون شيئا غير البصر والسمع؛ شيئا وراءهما يتخذ من البصر وسيلة كما يتخذ من السمع وسيلة، وذلك الشيء لا يكون إلا «الخير»، أو إن شئت كلمة أدنى إلى أفهامنا اليوم فقل هو «النفع» أو «الصلاحية» أو الزيادة من لياقة الإنسان للقيام بوظائفه الحيوية بحيث يصبح إنسانا أكمل.
وبهذا يتحدد معنى الجمال بالمزاوجة بين المتعة والفائدة، فلا الذي يمتع بغير فائدة ذو جمال، ولا الذي يفيد بغير متعة بذي جمال، بل لا بد من اجتماع الجانبين معا، على أن يفهم من «الفائدة» معنى «الخير» بكل ما تدل عليه هذه الكلمة من سمو وكمال.
هذا هو رأي شيخ الفلاسفة - أفلاطون - في حقيقة الجمال، كما ورد في محاورته «هبياس الكبير »، وإني لأوثر ألا أقف بك عند حد الفكرة وسردها، فذلك إن أفاد من الناحية العقلية الصرف، فجدواه قليلة من ناحية الذوق الفني وغرسه وتدريبه، فكيف تستخدم هذه الفكرة الأفلاطونية في تقويمك لمظاهر الجمال على اختلافها؟
إنك - فيما أرى - لتحسن صنعا، وأنت بإزاء شيء جميل - في الطبيعة أو في الفنون - إذا أنت ارتفعت في موقفك عندئذ درجة في إثر درجة، فتبدأ أول الأمر بإمتاع الحاسة المعنية بالجانب الحسي الظاهر من ذلك الشيء الجميل، فإن كان منظرا - في الطبيعة أو في الفن - فاملأ بصرك بادئ ذي بدء بأطياف اللون كما تقع على حاسة البصر، ولا تتعجل هذه الخطوة لأنها أساسية وهامة، حاول أن تمعن النظر في شتى درجات اللون، وستجدها تعد في المنظر الواحد بالمئات، ولا أقول بالعشرات أو بالآحاد، ثم حاول أن تدرك ما بين تلك الدرجات اللونية من تشابك وامتزاج، حتى إذا ما أمتعت حاسة البصر بما أنت حياله من بناء لوني، أخذت بعد ذلك تنظر - بعين العقل هذه المرة لا بعين الجسد - تنظر إلى ما قد يؤدي إليه هذا المنظر الذي أمامك من فكرة وراءه؛ فأنت عندئذ لم تعد تنظر إلى الجزئية الواحدة التي أمامك على أنها غاية في ذاتها، تقف عندها ولا تنفذ خلالها، بل تنظر إليها على أنها أحد الأمثلة الكثيرة التي جاءت لتجسد فكرة بعينها؛ فليست هي بذات قيمة جمالية إلا إذا أوصلتني بواسطة التأمل العقلي إلى مستوى أعلى من مستواها؛ أي إلى المستوى المعقول الذي هو أعلى درجة من مستواها المحسوس، ولو استطعت هذا الصعود في مدارج الإدراك عن طريقها، ازددت لها تقديرا بقدر ما تمكنني من أن أجاوزها ولا أقف عندها مكتفيا بها.
وإلى هنا تكون قد نظرت إلى المنظر على بعدين: البعد الحسي، والبعد العقلي.
ثم ماذا؟
Неизвестная страница