بعبارة أخرى، إن مستقبل الحياة موجودة بذوره في حياة اليوم الراهن، ومن شأن العلماء والخبراء أن يتعقبوا هذه البذور ليحصوها، ثم ليستخرجوا منها نتائجها، غير ناسين العوامل الخارجية التي قد تجيء لتؤثر في مجرى الأحداث؛ وعلى الحاسب الإلكتروني - بعد أن يتلقى منا تفصيلات ما جمعناه - أن يخرج لنا صورة الغد.
لم تعد كهانة الكهان، بجميع صورها وأشكالها هي وسيلة الناس إلى رؤية المستقبل قبل وقوعه، بل إن التنكر لهذه الكهانة في الأمور الخطيرة، هو جزء من تراثنا العظيم، المليء بالمواقف العقلية التي تصلح أن تكون نماذج نهتدي بها نحن الخلف؛ فمن أمثلة ذلك في تراثنا ما قاله أبو تمام حين قال قصيدته المشهورة البادئة بقوله: «السيف أصدق أنباء من الكتب ...» فلقد هم الخليفة المعتصم برد جيوش الروم المعتدية، وأراد الروم أن يثبطوا من عزيمته، فأرسلوا إليه من ينبئه بأن كتب رهبانهم جاء فيها أن مدينة عمورية مستعصية على الغزو إلا في موسم التين والعنب، ولما كان هذا الموسم لا يزال بعيدا في شهور العام، فأي أمل يرجوه المعتصم من محاولة فتحها في غير أوانها الصحيح، لكن الخليفة المعتصم أصم أذنيه عن مثل هذا الهراء، وأيده في ذلك شاعره أبو تمام، فقال له بمطلع قصيدته إن السيف أصدق خبرا من كتب الكهان.
وأما نحن الأحفاد، الوارثون لأمثال تلك المبادئ القوية، والتي تأبى على رجل مسئول أمام عقله، أن ينصت إلى الكهانة بالمستقبل بكل صورها وفروعها، فعلينا أن نحافظ في حياتنا على هذه الوقفة العقلانية في ذاتها، ثم نحور مضمونها، فلا نجعل الأمر مقصورا على السيف في رفض الكهانة، بل نضيف إليه أجهزة العمران كذلك، فنقول ما معناه: إن الحاسب الإلكتروني أصدق أنباء من كتب تعتمد في رؤية المستقبل على غير العلم ووسائله.
إن الذي ينقصنا في مصر، ليس هو العلماء القادرين (و«القادرين» هنا أصح من «القادرون» فأرجو ألا يظن بها الخطأ) كلا ولا هو البحوث العلمية - في حالات كثيرة على الأقل - ولكن الذي ينقصنا هو الأخذ بما يقوله هؤلاء العلماء في بحوثهم عن شئون حياتنا . غير أن الذي نلحظه في هذا الصدد هو: علماء وبحوث علمية في ناحية، وعمل وتنفيذ في ناحية أخرى، كأننا نريد عامدين أن نهمل أحكام العلم متروكة على الرفوف أو في بطون المخازن، لسبب لا يعلمه إلا علام الغيوب.
بل إن الأمر عندنا أسوأ من ذلك حالا؛ إذ هو لا يقتصر على الفصام بين العلم والعمل، بحيث يكون العلم في طريق، والعمل في طريق آخر، بل يضاف إلى هذا أن المشكلة الواحدة قد تتناولها بالبحث أكثر من هيئة واحدة، فتخرج كل هيئة منها بتقرير علمي، ربما اتفق وربما اختلف مع التقارير التي أخرجتها الجهات الأخرى المتنافسة، وكأننا لا نعيش في دولة واحدة، ويكفي مثالا على ما أقوله، أنك إذا أردت أن تعرف: كم ستكون نسبة الأمية في مصر سنة كذا، أو أن تعرف كم سيكون سكان مصر سنة كذا، لتقيم على هذه النسبة بحثك العلمي الذي تجريه، وجدت أرقاما متفاوتة باختلاف الهيئات التي أصدرتها.
إن حياة الشعب في حقيقتها وحدة متكاملة تتشابك عناصرها؛ فإذا ما رأيتنا قد قسمنا إدارتها والنظر في شئونها بين جهات متعددة، فما ذلك إلا لتيسير الفكر والعمل، على أن هذه القسمة لا ينبغي أن تحجب عنا رؤية الوحدة المتشابكة الأطراف في صورة الحياة كما نحياها بالفعل. وإذن فلا مناص - عند تدبير المستقبل ومشروعاته - من التعاون الوثيق بين هيئات البحث العلمي بعضها مع بعض من جهة، ثم تنسيق الصلة بين هذه الهيئات كلها وبين القائمين على تخطيط السياسة المستقبلية وتنفيذها، من جهة أخرى؛ فلم يعد يجوز لمن أراد الفكرة الصحيحة، أو أراد الفعل الصحيح، أن يلتمسه عند كاهنة في معبد دلفي، بل لا بد من التماسه عند مجموعة العلماء حيث تكون، أو قل إن «دلفي» القديمة قد بدلت - في عصرنا - شخصا بشخص ومكانا بمكان.
في حياتنا العقلية
كانت لجنة التأليف والترجمة والنشر - التي كنت وما أزال عضوا فيها - قد أسندت إلي في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، الإشراف على مجلة «الثقافة» التي كانت تصدرها، وقبل أن أقول ما أريد أن أقوله، لا بد لي من بضعة أسطر أحيط بها شبابنا علما بتلك اللجنة التي لبثت عشرات من السنين دعامة قوية لنشر الثقافة الجادة في بلادنا؛ فلقد نشأت سنة 1914م، وضمت بين أعضائها معظم الأعلام الذين لا يعرف شبابنا اليوم كثيرا عنهم، اللهم إلا أسماءهم التي تلمع في سمائنا كالنجوم الساطعة، فلا يقوى على إخفائها كل ما «يتمتع» به أبناء هذا الجيل - أو أغلبهم - من سطحية وضحالة: لطفي السيد، طه حسين، أحمد أمين، السنهوري، محمد عوض ... إلخ إلخ، ولا تزال هذه اللجنة قائمة تجاهد، ولكم كانت تحسن وزارة الثقافة صنيعا لو وقفت إلى جانبها بأية صورة من الصور، التي تتمكن فيها من المضي في رسالتها المجيدة.
أقول كانت «اللجنة» - كما يسميها أعضاؤها - قد أسندت إلي لبضعة أعوام، الإشراف على مجلتها «الثقافة»، وحدث عندئذ أن جاءتني قصيدة من شاعر مجهول، كتبها من زنزانته في السجن (ولا أعلم ماذا كانت جريمته) فرأيت في القصيدة من قوة الشعور وصدقه ما دعاني إلى نشرها مع التنبيه إلى ما انطوت عليه من نبض حيوي عجيب، فما كادت تلك القصيدة تجد طريقها إلى النور، حتى ألحق بها ذلك الشاعر نفسه قصيدة ثانية، من المكان ذاته وبغزارة الشعور ذاتها، ثم مضت شهور قليلة بعد ذلك، وإذا بصاحب الشعر يبعث إلي بخطاب تئن كلماته أنين المتوجع العاني؛ فهو الآن طليق بعد خروجه من السجن، ولكنه لا يجد لقمة الخبز ولا خرقة الثياب، فهلا أرسلنا له قليلا من المال مقابل شعره الذي نشرناه! وهلا جمعنا له شيئا من الصدقة ومن ثيابنا القديمة لعلها أن تعين!
لم يكن مألوفا في تلك الأيام أن نكافئ شاعرا بالمال على شعره، وكانت «المقالات» وحدها هي التي يؤجر أصحابها، ومع ذلك فقد كانت القيمة القصوى للمقالة هي جنيهان، وقد تهبط القيمة إلى نصف جنيه، بحسب الكاتب ومكانته، فأرسلت إلى شاعر الزنزانة مكافأة «استثنائية» - أظنها كانت جنيهين على القصيدتين - لكني طلبت منه الإسهام ب «مقالات»؛ فذلك أجدى عليه من صدقة مؤقتة تنال من كرامته، وكنت وأنا أطلب منه ذلك، على يقين بأنه قادر على المشاركة الفكرية، ما دامت له تلك القدرة على التعبير الشعري عن وجدانه الصادق.
Неизвестная страница