وكان الناس قبل ظهور الإسلام، قد ألفوا ضربين من الحضارة ومن الثقافة، اختلفا فيما بينهما إلى حد التنافر، بل إلى حد المقاتلة في حروب مستعرة يعرفها المؤرخون؛ وهاتان الحضارتان والثقافتان، المتنافرتان إلى حد القتال، هما حضارة الفرس وثقافتهم من جهة، وحضارة الروم (اليونان) وثقافتهم من جهة أخرى، المحور في الحالة الأولى هو الإملاء يفرض على الإنسان طريقة فكره ونمط سلوكه، والمحور في الحالة الثانية هو عقل الإنسان، يقيم له الحجة على الباطل فيرفضه، ويسوق له البرهان على الحق فيرتضيه.
كان الظن هو ألا سبيل إلى لقاء بين «شرق» متمثلا في فارس، و«غرب» متمثلا في اليونان، فلما اكتسح الإسكندر الأكبر بجيوشه هذه الرقعة من الأرض التي امتدت بين اليونان والهند، بما في ذلك بلاد الفرس، قيل إن أهم أهدافه هو أن يحطم الحاجز الحضاري الثقافي الذي أشرنا إليه، حتى يصبح العالم المعمور عندئذ متجانسا كله، فلا يكون بعد ذلك «شرق» هنا و«غرب» هناك، ولكن كل ما تمنى الإسكندر الأكبر لنفسه وللعالم قد أدركه أو حققه؛ إذ لم يكد يطوي الزمان صفحته، حتى أوشك الأمر أن يعود إلى ما قد كان عليه قبل الإسكندر وحروبه.
ثم جاء الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي، ومع فتوحه، انهدمت الفواصل بين فرس وروم، وظهرت بوادر قوية تشير إلى ظهور وحدة الإنسان؛ فتلك الوحدة هي في الصميم من الإيمان الجديد، كأنما كانت تلك الخطوة هي الأولى على طريق المواطن العالمي، الذي لا هو من شرق، ولا هو من غرب، وإنما هو «إنسان»، وكان ذلك الدمج الباهر بين ثقافتين كانتا متنافرتين متناحرتين إلى درجة القتال، هو الذي أخرج إلى العالم تلك الصيغة الحضارية الثقافية الإسلامية الجديدة، وهي الصيغة التي ربما تمناها الإسكندر الأكبر من قبل، ولم يحقق منها إلا قليلا.
وكان السر الذي مكن المسلمين من الاضطلاع بهذا الدور الحضاري العظيم، هو إعداد المسلم بديانة، في مبادئها ما يهيئه الاستخدام المنطق العقلي في شئون فكره ومعاشه، كما في مبادئها كذلك ما يعده للاتصال بالحق صلة مباشرة، وحيا أو شهودا، مما لا يحتاج فيه إلى تدليلات المنطق العقلي ذات الخطوات المتتابعة فيما بين نقطة البدء ونتيجة الختام.
ومن دمج هاتين النظرتين في إنسان واحد - هو المسلم - نشأت الصيغة الثالثة، التي ألفت في مركب واحد، صوفية الفرس وعقلانية الروم؛ وباتت تلك الصيغة الجديدة هي ما يعرف باسم الثقافة الإسلامية من حيث هيكل بنائها، فإذا كانت الصفة الأساسية التي تميز ما كان يعد «شرقا»، هي إدراكه للحق عن طريق حدس صوفي مباشر، بحيث تنعدم الفواصل بين الإنسان العارف والحقيقة التي يعرفها، ثم إذا كانت الصفة الأساسية التي تميز ما كان يعد «غربا» هي أنه في إدراكه للحق يلجأ إلى طريق غير مباشر (هو طريق العقل في الإدراك) بمعنى أنه ينتقل من مقدمة إلى نتيجتها، ثم من النتيجة إلى نتيجتها، وهلم جرا ، حتى يبلغ خطوة النهاية التي يكون فيها البرهان المطلوب على الحقيقة المراد إقامة البرهان عليها؛ فإن الصيغة الثالثة الجديدة، قد جمعت بين إدراك الحدس الصوفي، وإدراك العقل الاستدلالي، بحيث احتملت الحياة الثقافية في الجماعة الإسلامية، أن يظهر فيها أعظم المتصوفة وأعظم مناطقة العقل في آن معا.
والذي يفيدنا في سياق حديثنا هذا، من تلك الصيغة الثقافية الإسلامية، هو جانب «العقل» منها؛ إذ بغير هذا الجانب العقلي من ثقافة المسلمين، ما كانوا ليستطيعوا أن ينقلوا - في عصر المأمون بصفة خاصة - ما نقلوه من فلسفة اليونان وعلومهم؛ وإلا فلماذا نقلت تلك الفلسفة والعلوم إلى العربية، ولم ينقلها أهل الهند أو أهل الصين إلى لغاتهم؟ إن العلة لم تكن في أن لغة تستطيع ولغة أخرى لا تستطيع، بل العلة هي أن ثقافة تتقبل منطق العقل، وثقافة أخرى لا تتقبله.
3
كان القرآن الكريم هو محور العلوم الإسلامية وأساسها؛ فلم يكد القرن السابع الميلادي (الأول الهجري) ينقضي، حتى أخذ العلماء يتجهون بكل جهودهم نحو دراسة الكتاب؛ فكان من المنطقي أن يبدءوا بدراسة اللغة العربية نفسها، لتجتمع لهم أدوات الفهم الصحيح، فلم يريدوا الوقوف من اللغة موقف المتذوق وكفى، بل أرادوا أن يجعلوها دراسة علمية بأدق ما يكون المنهج العلمي؛ إن قواعد اللغة لم تكن قد استخلصت وجمعت إلى ذلك الحين، فانصرفوا إلى استخلاصها وجمعها، وهنا انشعب الباحثون إلى شعبتين، كان لكل منهما منهج في البحث، على أن المنهجين كليهما مما يجيزه منطق التفكير العلمي.
أما الشعبة الأولى فكان مقرها مدينة البصرة، وأما الثانية فكان مقرها الكوفة، وإذا جاز لنا أن نستخدم لغة الفلسفة الحديثة في التمييز بين الشعبتين، قلنا إن فريق البصرة، وعلى رأسه العملاقان العظيمان: الخليل بن أحمد، وتلميذه سيبويه، قد اختار لنفسه أسلوب المنهج «القبلي»، على حين اختار فريق الكوفة أسلوب المنهج «البعدي»، بمعنى أن فريق البصرة قد وضع الأسس العقلية للبناء اللغوي «قبل» أن يتقيد بأوضاع اللغة كما حدثت بالفعل في استعمال الأولين، وأما فريق الكوفة - وعلى رأسه الكسائي - فقد أراد أن يكون السند في القبول والرفض، هو ما استعمله الأولون من اللغة وما لم يستعملوه، فلو عرض للباحث اللغوي لفظ معين أراد أن يحكم فيه بالصحة أو بالخطأ، كانت طريقة علماء البصرة أن يحتكموا فيه إلى القياس العقلي، فإذا وجدوه جاريا مع ذلك القياس، لم يأبهوا بعد ذلك إذا كان القدماء قد استعملوه على هذه الصورة أو لم يستعملوه، أما الطريقة عند علماء الكوفة فكانت أن يراجعوا ذلك اللفظ على ما استعمله الأولون، فإذا وجدوه كان صحيحا، وإلا فهو غير جائز الاستعمال.
كان منهج جماعة البصرة أقرب إلى منهج العلوم الرياضية، بمعنى أن يقام البناء الرياضي على الاستدلال المنطقي المحكم، ولا عبرة بعد ذلك لانطباقه على الواقع الطبيعي أو عدم انطباقه، على حين كان منهج جماعة الكوفة أقرب إلى منهج العلوم الطبيعية، الذي يستمد معطياته من الواقع الفعلي، فتجيء النتائج كلها مطابقة كذلك لما قد حدث بالفعل.
Неизвестная страница