لقد كنا نقول إنه مما يثبط همة المثقفين في بلادنا، أن نتاجهم الجيد أحيانا، لا يجد سبيله إلى ترجمة تنقله إلى اللغات الأخرى، مما يترك هؤلاء المثقفين في عزلة يحدث بعضهم بعضا، وسائر العالم لا يسمع من حديثهم حرفا؛ كنا نقول ذلك، وكان الأوجب علينا أن نطمئن أولا إلى أن المؤلف العربي مقروء في موطنه، ودع عنك أن يكون مقروءا في بقية أجزاء الوطن العربي، حتى إذا ما تحقق له ذلك، فربما سهلت أمامه الطريق إلى دنيا اللغات الأخرى.
7
فهل نعلق الأمل في جامعاتنا لتخرج لنا شبابا مؤمنا بالثقافة الرفيعة، وله العزيمة الماضية أن يغير ما هو قائم؟ كان هذا الأمل ليكون أقرب إلى التحقيق لولا أن المرحلة التي تجتازها الأمة العربية، قد بلغ فيها الظمأ إلى المعرفة حدا جعل شبابنا يقصد إلى الجامعات بعشرات الألوف، ولم نكن قد أعددنا أنفسنا بالعدد الكافي من الأساتذة، ولا بالمكتبات والمعامل التي تسد الحاجة أمام هذه الحشود الضخمة من طلاب العلم؛ فكانت النتيجة أن أفلت من طلابنا سر التعليم الجامعي وصميمه، وما سره وصميمه إلا أن يختلف عن مراحل التعليم السابقة عليه، في الفاعلية المبدعة الخلاقة، التي تمهد الطريق أمام الدارس نحو أن يضيف إلى العلم علما جديدا؛ أما إذا تحولت الجامعات على أيدينا فأصبحت مدارس للحفظ، فمصيرنا هو المصير نفسه؛ أعني أن نخرج شبابا منحصرا في محيط ما قد حفظ، ثم لا جديد، ونظل قعودا فاغري الأفواه ننتظر الصدقة الفكرية من سوانا، وكأننا لسنا جزءا من العالم الذي نعيش فيه.
إنه طالما بقيت لنا البنية الفكرية التي ألفناها حتى عميت أبصارنا عن مواضع النقص فيها؛ فلا رجاء في تغير فعال؛ فهي بنية فكرية قوامها أصول محفوظة، بحيث لا يجوز لرجل الفكر أن يجاوزها مطلا برأسه إلى ما فوقها، بل ينبغي له أن يبقى تحت سقفها، وله بعد ذلك أن يتحرك في ظلها كيف شاء.
وهكذا كانت بنية الفكر في أوروبا قبل نهضتها، ولم تكن كلمة السر في النهضة الأوروبية سوى أن تنقلب تلك البنية رأسا على عقب، بمعنى أن تكون الحقائق المسلم بها هي آخر المطاف لا أوله، وأما أول المطاف فسماء مفتوحة نصعد فيها برءوسنا ما أسعفتنا قوانا، نجمع المشاهدات ونقيم عليها التجارب ثم نستخرج المعرفة الصحيحة آخر الأمر، فإذا جاءنا بعد ذلك من يطلعنا على حقائق جديدة، لم نغلق دونه آذاننا، بل - على العكس من ذلك - نراجع ما قد عرفناه لنصححه على ضوء الجديد المستحدث، كلمة السر في التغير العميق - إذا أردناه - هي أن نعكس الصيغة؛ فبعد أن كانت «إني أومن أولا ثم أفهم» تصبح «إني أفهم أولا ثم أومن.»
ولو اعتدل لنا الأمر على هذا النحو المستقيم، لزالت عن المثقف العربي أزمته - لأنه كلما أراد أن يفهم الناس فكرا جديدا، تقبله الناس بالآذان المصغية والعقول الواعية، والقلوب التي تؤمن بعد ذلك بما تؤمن به عن فهم صحيح.
من معالم الفكر الحديث
1
إنه على الرغم من اختلاف الفكر في تياراته وظواهره خلال العصر الواحد، إلا أن تلك التيارات وهذه الظواهر لا بد لها - بداهة - أن تكون مترابطة على نحو ما، وإلا بطل أن يكون العصر واحدا؛ فذلك شأنه شأن الكائن من الكائنات - أيا ما كان نوعه: بحرا، أو جبلا، أو كائنا حيا - فإنه برغم تعدد أجزائه وعناصره، لا بد أن يكون فيه من الرباط ما يبرر لنا أن نضم تلك الأجزاء والعناصر تحت اسم واحد نطلقه على الكائن الواحد. «والفكر الحديث» الذي نريد أن نتعقب معالمه الرئيسية، لا يشذ عن هذه القاعدة؛ فما دمنا قد افترضنا مسبقا أنه موحد وذو معالم تميزه من الفكر في عصور أخرى سلفت، فلا بد أن يكون كامنا في أذهاننا نوع من الرباط الذي يجمع أشتاته؛ فهو - بالضرورة - أشتات تدور حول عدة محاور، والأمر بعد ذلك متوقف - إذا ما أردنا الحديث عنه - على الزاوية التي ننظر منها؛ فقد ننظر إلى جانب الفكر العلمي من هذا العصر، وقد ننظر إلى جانب الفكر الفلسفي منه، أو إلى جانب الفكر السياسي، أو إلى جوانب الفن والأدب، وإني لأوثر في هذه الكلمة ألا أقتصر على جانب من الفكر في عصرنا دون جانب، بل أن أحاول تقديم صورة مركزة شاملة، تضم الجوانب الرئيسية المختلفة، مع بيان الرباط النظري الذي يربطها معا فيوحدها تحت اسم واحد، هو «الفكر الحديث».
2
Неизвестная страница