jongleurs «البهلوانات»؛ لأنهم كانوا يمتلكون أيضا مهارات أكروباتية (في الكتاب الثامن من «الأوديسة»، يعزف المنشد الملحمي ديمودوكوس، الذي يورد هوميروس ذكره، بينما يؤدي لاعبو الأكروبات حركاتهم). غير أن «أغاني الآداب والتحيات» المكتوبة ليست نصوصا مدونة عن طريق الإملاء، مثلما كان الحال مع «الإلياذة» و«الأوديسة»، وإنما صيغت، فيما يبدو، على يد كتبة متجولين كانوا يعملون مع «البهلوانات».
تقدم لنا رواية لاتينية معاصرة لها تسمى
Vita Caroli Magni («سيرة كارل الكبير» أو «سيرة شارلمان») كتبها أحد أعضاء بلاط شارلمان، وكان يدعى إينهارد، تفصيلات عن المعركة الحقيقية المحتفى بها في ملحمة «أنشودة رولان» التي جاءت بعدها بوقت طويل؛ إذ وقعت المعركة في سنة 778. فحسب رواية إينهارد، بينما كان شارلمان (حوالي 742-814) عائدا من حملة ضد مسلمي إسبانيا، هاجم مواطنون محليون من إقليم الباسك قطار المؤن والذخائر وحرس المؤخرة الذي كان مسئولا عنه «أعلى جبال البرانس» بين فرنسا وإسبانيا الحاليتين. وسقط أحد النبلاء، واسمه رولان، قتيلا في المعركة. وثمة الكثير من التفصيلات التاريخية. ولا أثر في رواية إينهارد لعناصر الحبكة في القصيدة: العداوة بين رولان وفارس غادر يدعى جانيلون، الذي يفترض أنه زوج أم رولان وزوج شقيقة شارلمان، وخيانة جانيلون للمسلمين (الذين يطلق عليهم السراسنة)، والمعركة التي دارت في مكان يطلق عليه في الوقت الحالي رونسيفال بوصفها صراعا بين المسلمين والمسيحيين؛ وصداقة رولان مع فارس متعقل حذر يدعى أوليفييه، ومحاكمة جانيلون الدنيء؛ هي كلها محض خيال شعري. والواقع أن معظم العناصر في القصيدة هي بالدليل الواضح من زمن لاحق، والإطار الاجتماعي والأخلاقيات شديدة المسيحية التي تحتويها القصيدة لا تنتمي للقرن الثامن الميلادي، وإنما إلى القرن الثاني عشر الميلادي عندما ظهرت الصيغة المكتوبة في حيز الوجود، كما نتوقع. إذن فمع استناد ملحمة «أنشودة رولان» إلى حدث حقيقي، إلا أنها لا تعبر عن ذلك الحدث، وإنما هي نتاج أجيال من إعادة الصياغة الشعرية التي تستخدم الأفكار التقليدية وتعمل - في الوقت ذاته - على ترسيخ القضايا الفكرية والأخلاقية المعاصرة.
ثمة إجراء مماثل تماما في الأناشيد التي بحثها باري ولورد؛ إذ أنشد جوسلاري القرن العشرين عن معركة كوسوفو التاريخية الحقيقية، التي وقعت في سنة 1389. في تلك الأناشيد، كانت كل تفصيلة تاريخية هي إما مغلوطة أو لا يمكن التحقق منها، بما في ذلك نتيجة المعركة، التي يدعي الشعراء أنها هزيمة ساحقة، بينما في واقع الأمر يبدو أنها كانت تعادلا. بالمثل نجد ملحمة «النيبلونجن» من العصور الوسطى باللغة الألمانية الفصحى الوسيطة، وتعني «أنشودة النيبلونجيين (البرجنديين)»، عن ملوك منطقة بورجندي من القرن الخامس الميلادي، تشوه التاريخ تشويها يفوق الإدراك. وقد حفزت رغبة قوية، منذ أعمال تنقيب شليمان، الجهود الرامية إلى العثور على التاريخ في القصائد الهوميرية، ولكن علينا أن نعترف أنه ليس ثمة شيء لنعثر عليه، حتى ولو كان لهيلين وجود فعلا يوما ما، وحتى ولو هربت مع باريس، وحتى ولو كان آخيل قد مات على سهل طروادة العاصف؛ لو كان أي من هذه الأمور قد حدث، فلا يمكننا أن نعرفه. صحيح أنه لا بد وأن حدثا ما قد استهل التقليد المتعلق بحرب طروادة؛ لأن المنشدين الملحميين لا يحتفون بسادتهم بحكايات عن حروب وهمية. وهذا يعني أنه كان هناك «بالفعل حرب تسمى حرب طروادة». ولكن الملاحم الهوميرية هي إبداعات أدبية، قصص خيالية من عناصر متنوعة ومن أزمنة مختلفة ومن تقاليد أدبية مختلفة. إنها لا تنقل حدثا تاريخيا من أحداث العصر البرونزي، فبينما من المحتمل أن يكون ثمة حرب شنت على طروادة، إلا أننا لو نظرنا بتمعن ، لوجدنا أن الملاحم الهوميرية تورد ذكر الكثير عن اليونان في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد، عندما ظهرت هذه القصائد للوجود على هيئة نصوص مكتوبة عن طريق الإملاء على جزيرة عوبية على الأرجح.
في «الإلياذة»، يميل هوميروس إلى خلق «بعد ملحمي»؛ أي شعور لدى الحضور بأن هذه الأحداث جرت منذ زمن بعيد في عالم أكثر نبلا من عالمنا. ومن أجل خلق البعد الملحمي، يعطي الشاعر، عامدا، للقصة مظهرا عتيقا. فكل الأسلحة من البرونز (مع أن أدوات الحياة اليومية الوارد ذكرها في التشبيهات من الحديد). في هذا العالم تظهر الآلهة على هيئة بشر وكأن تلك مسألة بديهية، والصراعات في السماء تضاهي الصراعات على الأرض. وكان الرجال أقوى آنذاك؛ ففي الزمن المعاصر ولا حتى اثنان يقويان على حمل حجر كان رجل واحد يقذفه آنذاك. وآخيل يصرخ فتتقهقر جيوش. والخيول تتكلم. إن «الإلياذة» تعتبر «ساجا» (ملحمة خيالية أسطورية)، حيث الرجال أضخم وأعظم، والآلهة تتدخل بنفسها في الأحداث وأحيانا ما يكون ذلك عيانا، وكل شيء قديم الطراز نوعا ما، عالم رفيع الطراز لم يوجد قط بهذا الشكل بالضبط.
أما «الأوديسة» فهي «حكاية شعبية خرافية»، تشتمل على سمات أدبية متعارف عليها من قبيل تحقق النبوءات، وموضوعات تجسد الصراع مع الموت، والصراع بين الجنسين، والتخفي، والتحايل، والانهزام المرحلي، والتعرف على الأبطال، والثأر. ولملحمة «الإلياذة» مذاق السريالية، مثال ذلك عندما يرتفع روح النهر ويهاجم آخيل؛ إلا أنه لا يوجد وحوش ولا رموز غامضة لانبعاث الحياة، مما تمتلئ بها «الأوديسة» بكثرة. في تصويرها «للواقع» تنتقل «الأوديسة» عبر مدى يضم عالم السايكلوب الخيالي على أحد طرفيه، والفياشيين شبه الخياليين في المنتصف، والقصر المتراكم فيه الروث على جزيرة إيثاكا على الطرف الآخر. لا يمكننا مطلقا أن نستقي «التاريخ» الحقيقي من القصائد الهوميرية، ولكن يمكننا أن نكتشف ما كان يعتقده اليونانيون في القرن الثامن قبل الميلاد بشأن العالم وبشأن أنفسهم. ويتبين لنا أنهم كانوا يشبهوننا كثيرا.
هوامش
الفصل الثالث
ملحمتا هوميروس عند القراء
يريد عالم فقه اللغة أن يعرف المصدر الذي جاءت منه قصائد هوميروس، والشكل الذي ربما كانت عليه في صيغتها الأصلية. ويرغب المؤرخ في أن يعرف أي الأحداث في قصائد هوميروس ربما «يكون قد حدث بالفعل» وأيها محض خيال شعري. واستمتاع القارئ يجعل تلك الموضوعات ذات أهمية؛ لأن نصوص هوميروس كانت تقرأ وتدرس منذ لحظة وجودها في القرن الثامن قبل الميلاد، وحتى وقتنا الحالي الذي تقرأ وتدرس فيه أكثر من أي وقت مضى. ويسهل العثور على ترجمات بديعة بلغات أوروبية معاصرة وتقرأ على نطاق واسع في التعليم الثانوي والجامعي.
Неизвестная страница