سافر باري برفقة مساعده ألبرت بي لورد إلى جنوب البلقان في الفترة ما بين عامي 1929 و1933، أسفارا أسطورية في تاريخ النقد الأدبي؛ إذ كان تواقا إلى المضي إلى ما هو أبعد من التحليل الأسلوبي والعثور في العالم المعاصر له على مثال للشكل المحتمل الذي كانت عليه القصائد الهوميرية في العالم القديم. وهناك جمع باري ولورد مجموعة هائلة من التسجيلات لأغاني كان يؤديها «الجوسلاري» (قوالي الجوسلا)، وهم قرويون أميون كانوا يغنون أناشيد طويلة، وسموا بهذا الاسم تيمنا بآلة «الجوسلا»، وهي آلة عزف مقوسة ذات وتر واحد كانوا يمسكون بها بين أرجلهم. واشتملت ذخيرتهم الفنية على أناشيد عن القتال البطولي واختطاف النساء. فحكى نوع من هذه الأناشيد - والذي سجل في أشكال عديدة - عن رجل عاد إلى داره بعد سنين عديدة ليجد زوجته على وشك الزواج من رجل آخر؛ وعندئذ اختبر، وهو متنكر، المرأة والرجال الذين كانوا يحاصرونها، وتفوق على منافسيه في مسابقة، ثم كشف عن هويته، واسترد زوجته. وبتشجيع من باري أنشد عبدو مجيدوفيتش أفضل عازف جوسلا من وجهة نظر باري، أنشودة بطول «الأوديسة» وسجلها بإلقائه لها من الذاكرة (وكانت تسمى «زفاف ميهو سميلاجيش»)؛ إذ بلغت حوالي 12 ألف بيت طولا، رغم أن مجيدوفيتش لم يكن يجيد القراءة ولا الكتابة. (انظر شكل
1-4 ).
شكل 1-4: عبدو مجيدوفيتش، أفضل منشد عند باري ميلمان، يعزف بالقوس على آلة الجوسلا خاصته ذات الوتر الواحد وذلك في عام 1935. تنتهي آلة الجوسلا برأس جواد منحوت، كما جرت العادة. حقوق النشر محفوظة، 1999. مجموعة ميلمان باري للأدب الشفهي ومؤسسة ذا بريزيدينت آند فيلوز أوف هارفرد كوليدج. يعبر المؤلف عن شكره على الموافقة الكريمة من جانب جي ناجي وإس ميتشيل (أميني مجموعة باري ميلمان للأدب الشفهي) وديفيد إلمر (الأمين المساعد) على استخدام الصورة.
تظل المجموعة الميدانية السلافية الجنوبية لباري - المجمعة على أسطوانات وأشرطة من الألومنيوم، التي لم ينشر إلا جزء منها والمخزنة حاليا في مكتبة وايدنر في جامعة هارفرد - هي أضخم مجموعة ميدانية على الإطلاق لما نطلق عليه في الوقت الحاضر «الأغنية الشفاهية». بعد وفاة باري بوقت طويل، عاد لورد إلى جنوب البلقان في الخمسينيات من القرن الماضي لإجراء تسجيلات حديثة. وفي بعض الأحيان كان يسجل نفس الأنشودة من نفس المنشدين، تلك التي كان هو وباري قد سجلاها قبل ما يقرب من ثلاثين عاما. عند تحليل النسخ المكتوبة للأناشيد السلافية الجنوبية، نجد أنها تندرج غالبا ضمن الأبيات العشارية الإيقاع، مع أن البيت الشعري السلافي الجنوبي لا يضاهي البيت الشعري اليوناني القديم من ناحية التعقيد، ولا يتوافر إلا قرائن محدودة على الاسترسال والاعتدال في استخدام النعوت اللذين وجدهما باري في القصائد الهوميرية. لم تولد دراسات باري - التي نشرت كأوراق بحثية قصيرة في دوريات متخصصة في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن الماضي - انطباعا يذكر حتى عام 1960، عندما نشر ألبرت بي لورد كتابه «مغني الحكايات»، وهو توليفة من نظريات باري مضاف إليها جهد متعمق من قبله. أتذكر الحماسة الشديدة التي قرأت بها هذا الكتاب لأول مرة في عام 1962.
أولى لورد اهتماما بالغا بحياة «الجوسلاري» وبيئتهم الاجتماعية، اللتين لا تنفصمان عن التراث الذي جرى فيه الإنشاد. فلما كان أحد الصبية يرغب في أن يصير منشدا، كان من شأنه أن يتدرب على يد منشد خبير. وباستماعه إليه وتدربه منفردا، كان التلميذ يتعلم تدريجيا، بطريقة لا شعورية، اللغة الشعرية الموزونة المتميزة «للجوسلار» (عازف الجوسلا). وإذا كان مثابرا ويتمتع بالموهبة، كان في مقدوره أن يصبح هو نفسه «جوسلارا»، وربما حتى من العظماء.
كان من شأن «الجوسلار» أن يلم بعدة أناشيد أو الكثير منها، ولكن في ذهن «الجوسلار» لم تكن الأنشودة تتألف من تعاقب ثابت من الكلمات، التي لم يكن باستطاعته أن يعرف عنها شيئا؛ ففي نهاية المطاف «الكلمة» هي اصطلاح على معرفة القراءة والكتابة. كذلك لم يكن مفهوم البيت الشعري لدى «الجوسلار» أنه وحدة قائمة بذاتها وتحتوي على عشرة إيقاعات، رغم أن باستطاعتنا أن نحلل صيغا مكتوبة على هذا النحو. ومع ذلك كان «الجوسلاري» الخبير يدعي قدرته على تكرار أنشودة ما بدقة «أي كلمة بكلمة»، حتى تلك التي سمعها مرة واحدة فقط. وإليكم حديثا موجزا بين نيكولا فوجنوفيتش مساعد باري ولورد (منشد من مدينة استولاك، بمنطقة الهرسك) و«جوسلار» كان يدعى موجو كوكوروزوفيتش:
4
نيكولا :
فلنتأمل ما يلي: «موستاجبيك من ليكا كان يشرب الخمر.» هل هذه «كلمة» واحدة؟
موجو :
Неизвестная страница