متحركا بالإرادة لم يَجْعَل لَهُ عروقا تمص الْمَادَّة من الأَرْض، بل ألهمه طلب الْحُبُوب والحشيش وَالْمَاء من مظانها، وألهمه جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الارتفاقات، وَالنَّوْع الَّذِي لَا يتكون من الأَرْض تكون الديدان مِنْهَا دبر الله تَعَالَى لَهُ بِأَن أودع فِيهِ قوى التناسل،
وَخلق فِي الْأُنْثَى رُطُوبَة يصرفهَا إِلَى تربية الْجَنِين، ثمَّ حولهَا لَبَنًا خَالِصا، وألهم الْمُتَوَلد مص الثدي وازدراد اللَّبن، وَجعل فِي الدَّجَاجَة رُطُوبَة يصرفهَا إِلَى تكون الْبيض، فَإِذا باضت أَصَابَهَا يبس وخلو جَوف يحملانها على جُنُون يَسْتَدْعِي ترك مُخَالطَة بني نوعها، واستحباب حضَانَة شَيْء تسد بِهِ جوفها، وَجعل من طبع الْحَمَامَة الْأنس بَين ذكرهَا وأنثاها، وَجعل خلو جوفها هُوَ الْحَامِل على حضَانَة الْبيض، ثمَّ جعل رطوبتها البالية تتَوَجَّه إِلَى التهوع، وَجعل لَهَا رَحْمَة على الفرخ، وَجعل رحمتها مَعَ الرُّطُوبَة البالية سَببا لتهوعها وَدفع الْحُبُوب وَالْمَاء إِلَى جَوف فرخها، وَجعل الذّكر مِنْهَا بِسَبَب الْأنس يُقَلّد أنثاها، وَخلق للفراخ مزاجا رطبا ثمَّ حول رطوبتها ريشا تطير بِهِ.
وَلما كَانَ الْإِنْسَان مَعَ احساسه وقبوله للالهامات الجبلية والعلوم الطبيعية ذَا عقل وتوليد للعلوم الكسبية - ألهمه الزَّرْع وَالْغَرْس وَالتِّجَارَة والمعاملة، وَجعل مِنْهُم السَّيِّد بالطبع والاتفاق، وَالْعَبْد بالطبع والاتفاق، وَجعل مِنْهُم الْمُلُوك والرعية، وَجعل مِنْهُم الْحَكِيم الْمُتَكَلّم بالحكمة الإلهية والطبيعية والرياضية والعملية، وَجعل مِنْهُم الْغَنِيّ الَّذِي لَا يَهْتَدِي لذَلِك إِلَّا بِضَرْب من تَقْلِيد، وَلذَلِك ترى أُمَم النَّاس من أهل الْبَوَادِي والحضر متواردين على هَذِه ...، وَهَذَا كُله شرح الْخَواص والتدبيرات الظَّاهِرَة الْمُتَعَلّقَة بقوته البهيمية وارتفاقاته المعيشية، ثمَّ انْتقل إِلَى قوته الملكية.
وَاعْلَم أَن الْإِنْسَان لَيْسَ كَسَائِر أَنْوَاع الْحَيَوَان، بل لَهُ إِدْرَاك أشرف من إدراكاتهم، وَمن علومه الَّتِي يتوارد عَلَيْهَا أَكثر أَفْرَاده غير من عَصَتْ مادته أَحْكَام نَوعه - التفتيش عَن سَبَب إيجاده وتربيته، والتنبيه بِإِثْبَات مُدبر
فِي الْعَالم هُوَ أوجده ورزقه، والتضرع بَين يَدي بارئه ومدبره بهمته وَعلمه حسب مَا يتَضَرَّع إِلَيْهِ هُوَ وَجَمِيع أَبنَاء جنسه دَائِما سر مدا بِلِسَان الْحَال وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
1 / 57