وتلك النواميس الآخر لم يروا شيئا من هذا، لكن قيل لهم التزموا طاعة ملك الهند كما التزمها أولئك الأصحاب، وستتصلون بالملك بعد الموت. وإلا فسيبعدكم ويعذبكم بعد الموت. فمنهم من قال ما جاءنا أحد يخبر أنه في جنة مذ مات أو في نار. والأكثر أثروا انتظام حالهم واجتماع كلمتهم، والتزموا تلك الطاعة وأطمعوا أنفسهم في الباطن اطماعا قويا محققا متفوقين مستظهرين على عامتهم بالإيمان، فكيف يتظاهر هؤلاء بدعوى ما يحصل لهم بعد الموت على الذين يحصل لهم ذلك في حياتهم، أليس طبيعة الأنبياء والأولياء أقرب إلى البقاء الأبدي من طبيعة من لم يقرب من هذه الدرجة.
<110> قال الخزري، لقد يبعد عن القياس أن يكون الإنسان تارها بطبعه تألفا جسده ونفسه كالبهائم، حاشا الفلاسفة على رأيهم. ثم يقول أهل الأديان أنه يصير حيا للأبد في نعيم بكلمة يقولها بفمه، وربما لم يدر طول عمره غير تلك الكلمة وربما لم يفهم معناها، إن كلمة تنقل من درجة البهائم إلى درجة الملائكة لعظيم، ومن لم يقل تلك الكلمة يصير بهيمة، أو لو كان فيلسوفا عالمه عابدا طول دهره شوقا إلى الله تعالى.
<111> قال الحبر، نحن لا نسلب أحدا جزء فضيلته عند الله خاصة من أي أمة كان. لكن نرى الفضل الاتم للقوم المقربين في حياتهم، فننسب درجاتهم عند الله بعد مماتهم تلك النسبة.
<112> قال الخزري، وألزم هذا المثل في العكس وأنسب درجتهم في الآخرة بدرجتهم في الدنيا.
<113> قال الحبر، أراك تعيرنا بالذلة والمسكنة. وبهما يتفاخر أفضل هذه الملل، وهل يستظهرون إلا بمن قال من لطم خدك الأيمن أعطه الأيسر، ومن أخذ رداك أعطه قميصك، ووصل وأصحابه وشيعته مئين من السنين من الهوان والضرب والقتل إلى الحدود المشهورة عندهم. وأولئك هم الفخر. وكذلك صاحب شرع الإسلام وصحابته حتى ظهروا وظفروا. وبأولئك يفتخر ويستظهر. لا بهؤلاء الملوك الذين عظم شأنهم واتسع مكانتهم وغلظ حجابهم وهال مركبهم، فنسبتنا من الله أقرب منها لو كان لنا ظهور في الدنيا.
<114> قال الخزري، ذلك كذلك لو كان تواضعكم اختيارا، لكنه اضطرارا، وإذا أصبتم الظفرة قتلتم.
<115> قال الحبر، أصبت مقتلي يا ملك الخزر، نعم لو كان أكثرنا كما تقول يلزم الذل خضوعا لله ولشريعته لما أهملنا الأمر الإلهي هذه المدة المديدة، لكن أقلنا على هذا الرأي، وللأكثر أجر لأنه يحمل الذل بين اضطرار واختيار، لأنه لو شاء لصار صاحبا وكفيا لمن يذله بكلمة يقولها دون مونه، ومثل هذا لا يضيع عند الحاكم العدل، فلو حملنا هذا الجلاء والبلاء في ذات الله على ما يجب لكنا فخرا للجيل المنتظر مع المسيح، فكنا نقرب الأجل للفرقان المنتظر، ونحن لا نساوي مع نفوسنا كل من دخل في ديننا بكلمة فقط، لا بأعمال فيها شق على النفس من تطهير وتعليم واختتان وأعمال شرعية كثيرة، والأحرى أن يسير سيرتنا. ومن شرائط الاختتان وأسبابه أن يتذكر دائما أنها علامة إلهية شرعها الله في آلة الشهوة الغالبة لتصير مغلوبة، فلا تصرف إلا كما ينبغي، في وضع البزر حيث ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على ما ينبغي، عسى أن يكون بزرا ناجبا يصلح لقبول الأمر الإلهي، ومن لزم هذا الطريق فقد حصل له ولنسله جزء صالح من القرب إلى الإله. ومع هذا لا يستوي الدخيل في دين إسرائيل مع الصريح، إذ الصرحاء خاصة أهل للنبوة. وغيرهم غايتهم الاقتباس منهم، وأن يصيروا أولياء علما لا أنبياء. وأما تلك المواعد التي أعجبتك فقد تقدم أحبارنا برسم الجنة وجهنم، وكالوها طولا وعرضا، ووصفوا النعيم والعذاب بأكثر استقصاء من وصف الملل القريبة. وإنما كلمتك منذ أقبلت على ما جاء في نصوص كلام الأنبياء، فإنه لا يكثر فيها مواعد الآخرة بفصيح كما كثر في كلام الأحبار. نعم أن في كلام النبوة رجوع التراب من جسد الإنسان إلى التراب، ورجوع الروح إلى الخالق الذي وهبها، وفي كلام النبوة أحيا الموتى في المستأنف وبعثه نبي يسمى אליהו (الخضر) قد بعث فيما مضى ورفعه الله كما رفع غيره. وقيل إنه لم يذق موتا. وفي التوراة دعا من تنبأ بإذن الله ودعا لنفسه بأن تكون ميتته سهلة وأن آخرته كآخرة بني إسرائيل. وقد سأل بعض الملوك وهو طالوت لسموأل نبيا ميتا، فتنبأ له بكل ما يجري عليه كما كان يتنبأ له في حياته، وإن كان فعل هذا الملك منكرا في شريعتنا أعني مسئيلة الموتى، فإنه يدل على القوم كانوا يعتقدون في أيام الأنبياء أن الأنفس باقية بعد فناء الأجساد ولذلك يسألون الميت. وفاتحة صلاتنا التي لم يخل من حفظها النساء ، فضلا عن الخاصة، يا ربي إن الروح التي نفختها في مقدسة أنت خالقها وأنت حافظها وأنت آخذها مني وأنت صارفها علي في الآخرة، فمهما صحبتني أحمدك وأشكرك يا رب العالمين، فسبحانك يا من يرد الروح في الأجساد الميتة. والجنة بعينها الذي يكثر الناس ذكرها، إنما أخذت من التوراة، وفي الرتبة التي أعدت لآدم، لو لم يعص لبقي فيها مخلدا. وكذلك جهنم إنما هو موضع مشهور قريبا من بيت المقدس، خندق لا تنطفي منه النار، توقد فيه العظام النجسة والجيف وسائر النجاسات، واللفظة عبرانية مركبة.
<116> قال الخزري، إذا فلا جديد بعد شريعتكم غير جزئيات أخبار الجنة والنار ورتبتها، وتكرير ذلك والإكثار منه.
<117> قال الحبر، نعم ولا ذاك أيضا جديد، لأن الأحبار قد أكثروا في ذلك، حتى أنك لا تسمع من ذلك شيئا إلا وتجده للأحبار إن طلبته.
المقالة الثانية
Неизвестная страница