قالها بنبرة كالغضب، يحاول بالغضب أن يخفي عدم الاستقامة. إنها فرصتها الأخيرة وإن ضاعت فلا شيء بعدها، ورفعت ذراعها تحمي وجهها من الصفعة، إن لم ترفعها الآن فلن ترفعها من بعد، وإن عاشت تعيش مرفوعة الرأس، وإن ماتت تموت وهي ترفس، لا تكف عن الرفس حتى آخر نفس. - هذه المرأة تنزف.
أجل كانت النسوة في حاجة إلى النزيف، وإلا فسوف يبقى العالم كما هو وينتهي كل شيء إلى لا شيء، علينا أن نأخذ دم هذه المرأة الطازج وننقله إلى العالم المشرف على الموت. - أخيرا أغمضت عينيها وماتت واقفة كالشجرة.
ظلت واقفة في مكانها، عاجزة عن الحركة، جذورها في بطن الأرض، رأسها عال تطوحه الريح، أوراقها ترتعش، تثني ذراعيها وتلتوي كالفروع، تحاول دون جدوى التخلص من أغصانها، الهواء يحتك بها بصوت مسموع وإيقاع منتظم كالأنفاس في النوم. - أتعودين للنوم في هذا القيظ؟!
سألها بصوت مملوء بالغيرة، كأنما يغار من قدرتها على النوم، كان تدفق النفط يأكل الجدار، والغيرة تأكل قطعة من لحمه تحت الضلع الأعوج، ونهض واقفا ينزع عنه ملابسه كأنما يخلع عنه جلده. - لم أعد أحتمل، وعندي رغبة ... - في الكتابة؟ - أجل. - لديك الآن هذه الآلة الجديدة ولست في حاجة إلى معرفة القراءة أو الكتابة. - أجل، لكن صاحب الجلالة يريد مقالا في عيد ميلاده غدا. - أجل، يمكن للآلة الجديدة في بضع دقائق أن تنسخ مقالك في العام الماضي أليس كذلك؟ - أجل، نعم، إني أعرف ذلك. - ما الجديد إذن؟
بغريزتها كانت تدرك كل شيء، في أعماقها كان الخواء ينتشر، ما جدوى التظاهر إذن؟ ما من حاجة تدعو إلى التخفي، ربما كان لا يزال بينهما شيء من العاطفة، بقايا حب في حياتها السابقة، لكن الريح هبت وجرف تيار النفط كل شيء.
وسمعت صوت رجل البوليس يدق على الآلة ويدور بالكرسي حول نفسه. - كما ترى لقد خرجت المرأة في إجازة. - أجل هذه الحالات أصبحت عادية تماما، ومن كل ثلاث من النسوة تخرج واحدة. - أهو مرض جديد؟ - أجل، نسميه عندنا في الطب النفسي انفصام في الشخصية، قال: «عندنا في الطب النفسي» والتوى عنقه نحو السماء بزاوية حادة، واهتز الغليون المثبت في زاوية فمه. - أتعني ازدواجية الشخصية؟ - لا، في الازدواجية تكون المرأة والشخص الآخر اثنين متلازمين على نحو إجباري، أما في الانفصام فإن المرأة تصبح هي وذلك الرجل الآخر شخصا واحدا، مفهوم؟ - أجل، أعرف ذلك، والنتيجة واحدة على أي حال.
بالطبع، لكن الازدواجية حالة طبيعية تماما، وجميع النسوة يندرجن تحت هذا النوع. - أجل، أعرف ذلك ، إلا زوجاتنا طبعا. - بالطبع؛ لأن الرجل منا يختلف عن جميع الرجال، فنحن من سلالة مميزة عن البشر تمتد إلى الأنبياء، ألم تسمع حديث صاحب الجلالة بمناسبة عيد ميلاده؟! - أجل، سمعته، كان خطابا تاريخيا، وقد كتبت ذلك في مقالي في الصحيفة ولا بد أن جلالته رآه. - لا بد أنه رأى الصور على الأقل، فإن جلالته لا يعرف القراءة كما تعرف. - أجل، أعرف، وليس في ذلك عيب، وكان الأنبياء جميعا لا يعرفون القراءة ومع ذلك قادوا العالم إلى عصر جديد. - أجل، أعرف ذلك، لكن جلالته يحب الصور الملونة، خاصة صوره، ولا يمل النظر إلى صوره المنشورة في الصحف، وفوق الشاشة، أليس كذلك؟ - أجل، هذا طبيعي لرجل عظيم مثله يقودنا إلى عصر النفط الجديد. - أجل، ما العيب في النفط؟ - لا شيء! إلا ... - إلا ماذا؟ - لا شيء. - أحس أنك تريد أن تقول شيئا، هيا تكلم ولا تخف. - أبدا مجرد شيء تافه، حين عدت من العمل اليوم وجدت ورقة صغيرة. - ورقة صغيرة؟ - نعم، ورقة صغيرة فوق الكرسي بجوار السرير. - أجل، فوق الكرسي بجوار السرير، أعرف ذلك. - كيف عرفت؟
دب الصمت كالموت، لم يسمع إلا صوت أزيز المروحة، وأنفاسهما تلهث، ثم جاء صوت أحدهما بعيدا وخافتا كأنما من بطن الأرض. - وماذا كتبت لك في الورقة؟ - أجل، لا شيء، مجرد أنها خرجت في إجازة، هذا كل ما في الأمر. - أهذا كل ما في الأمر؟ - نعم، هذا كل ما في الأمر. - أجل، أنا أيضا وجدت ورقة.
دب الصمت مرة أخرى كالموت، كف الهواء عن الحركة، المروحة أيضا كفت عن الأزيز، أنفاسها كأنما توقفت تماما.
حركت رأسها من فوق الوسادة، كان الرجل راقدا مفتوح العينين، فجأة رنت الضحكة في ظلمة الليل، أجل، كان هو الرجل الذي يضحك، عن يقين كان يضحك، ربما كان بالضحك يخفي شيئا آخر، وجهه كان ناحية الحائط ولم تعرف فيم يفكر، لكنها حين سمعته يضحك ضحكت هي الأخرى، وبدت الحياة أفضل مما كانت. - أجل، طالما أن لديه القدرة على الضحك فلن يكون هناك داع للهرب على الأقل الليلة، ويمكنها مواصلة النوم، وفي الغد تبدأ محاولة جديدة. (تمت)
Неизвестная страница