أما المرأة الثانية التي أحبها برنارد شو فهي ألين تري، الممثلة الإنجليزية، وكانت رائعة في جمالها وفنها، وهي عند الإنجليز بمقام سارة برنار عند الفرنسيين. وأحب كل منهما الآخر على بعد، لا يلتقيان، وإنما كانا يتراسلان. وقد طبعت بعد ذلك هذه الرسائل، فكانت كشفا رائعا عن أسلوب في الحب لا يطاق بين المحبين.
وقولنا إنهما «لا يلتقيان» ليس بمعنى أنهما لا يتقابلان بالعين؛ فقد كانت «ألين تري» تظهر على المسرح كل مساء، وكان برنارد شو يواظب على الحضور، ويتخذ مقعده قريبا من خشبته، فكانت العين تلتقي بالعين لقاء صامتا، حتى إذا بلغ برنارد شو منزله، كتب إليها رسالته، وبثها فيها لوعته وشجنه، فإذا كان الصباح ردت هي عليه في رسالة أخرى.
ومثل هذا الحب الذي لا يعرف لقاء جدير بأن يحتدم ويدوم احتدامه. وقد بقي الاثنان على هذا البعد، يستمتعان ويعانيان لذة الفراق الأليمة. وكانت ألين تري تمثل درامات هذا الصديق أو الحبيب النائي، ومع ذلك لم يكن برنارد شو يختلس الزيارة من خلف الستار، كي يشكر أو ينبه أو ينتقد، كما هو المألوف بين المؤلفين، بل كان يقنع برسالته التي يسكب فيها نفسه، ويبعثها إليها، وبقيت على ذلك حتى ماتت. ولما نشر الكتاب الذي يحوي هذه الرسائل كتب ابن ألين تري نقدا لها فقال: إن برنارد شو لم يكن يحب أمه وإنما كان يخدعها بهذه الكلمات العذبة كي تمثل دراماته، وإن أمه خدعت، فأحبته، وخدمته بتمثيل هذه الدرامات. ولكن المتأمل لهذه الرسائل يحس فيها طابع الصدق والإخلاص، ويكاد يكون من المستحيل للأديب الكبير أن يخدع ويكتب، كاذبا على إحساسه وعاطفته. ولكن يمكن أن يقال إن برنارد شو لم يكن يعجب بما نسميه الجمال في جسم ألين تري ، وإنما كان إعجابه ينصب على شخصيتها الرائعة، التي كانت تتلألأ على المسرح. ولعل هذا هو السبب في أنه استطاع أن يحب على بعد، وأن يحجم عن اللقاء؛ لأن جمال الجسم يثير الشهوة، ويغري بالقرب. ولكن جمال الشخصية يبعث الإعجاب، والعبادة عن بعد. ولعل هناك تفسيرا آخر، هو هذه الرغبة العامة التي يحسها الأديب الصادق في التجربة؛ كيف يكون الحب على بعد، وكيف تستحيل اللوعة إلى فن، وكيف تستغني عن العناق المطفئ للشهوة، بالخيال الذي يشبع في النفس ويملؤها بمباهج الألوان والأشكال؟
وكانت ألين تري رائعة الجسم، يدل على ذلك أن خمسة تزوجوها واحدا بعد آخر، ولكن برنارد شو على ما يبدو، كان يفتتن بها وهي تمثل؛ أي إنه كان يعشق ميزاتها الفنية، وليس ميزاتها النسوية، وهو يقول: «إن الحب الأمثل هو الذي يجري عن طريق البريد. وقد كان تراسلنا حبا كاملا شافيا. وكنت أستطيع أن أقابلها في أي وقت أردت، ولكني لم أشأ أن أعكر هذا الحب الصافي.»
وستبقى هذه الرسائل المتبادلة بين برنارد شو وألين تري أدبا خالدا، وتجربة للبشرية سامية، بين نفسين ارتفعتا إلى مستوى عال من الإحساس والخيال، والتعقل وكظم «نهيق الحمار».
أما المرأة الثالثة التي أحبها برنارد شو، فيبدو أن حبها له أو حبه لها، كان من النوع الذي لا يلتهب، فينير أو يدمر، ولا يسمو، فيقوم الخيال فيه مقام اللقاء، ويغني عنه، وهو النوع الذي يعيش في مجتمعنا وتبنى به العائلات.
وهذه المرأة هي شارلوت بين تونسهد، وكانت فتاة ثرية، تعرفت إلى «بياتريس ويب» وتعلمت منها الاشتراكية، وكانت قد سئمت أولئك الشبان العديدين الذين طلبوا يدها طمعا في ثرائها. ووجدت برنارد شو نجما يوشك أن يبزغ ويتلألأ، فسعت بياتريس ويب بينهما كي تربطهما بالزواج. وكانت تنشد في هذا الزواج تحقيق مآرب مختلفة؛ منها التخفيف عن برنارد شو من الفاقة التي ألحت عليه إلى أن كاد يبلغ الأربعين، ومنها استخدام هذا الثراء الذي كانت تتمتع به هذه الآنسة لترويج المذهب الاشتراكي، ولكن برنارد شو كان - كما هو شأن الأديب المخلص لرسالته - يتوجس خيفة من الزواج؛ إذ لا يستطيع الأديب أن يخدم سيدين معا: الفن والزوجة.
ولكن شاءت الظروف غير ما شاء برنارد شو؛ فقد مرض، ولزم السرير، وساءت حاله. وكانت شارلوت في نزهة مع بياتريس ويب في البحيرات الإيطالية، فأرسل إليهما صديق ينبئهما بخطورة المرض، وبأن برنارد شو لا يجد من يعنى به، فلم يكن من شارلوت إلا أن سافرت على أول قطار، وقصدت إليه عقب وصولها إلى لندن، فألفته في حال يرثى لها من الإهمال.
وهنا يقول برنارد شو في صراحته البشعة: إن النفس وقت المرض تضعف فترق، ويغمرها الحنان؛ ولذلك يسهل غزوها بعروض الحب والزواج، وقد قبل الزواج. وما هو إلا أن سرت في عروقه بوادر العافية، حتى قصد مع شارلوت إلى الكنيسة حيث تم زواجهما. وهو لا يزال يذكر أن رفيقه إلى الكنيسة كان جراهام وولاس، المفكر المشهور والمعروف بكتابه «فن التفكير»، وكان يمتاز بقوام وصحة وإشراق، ويتزين بوردة على صدره، لما رآه القسيس حسبه العريس، ونحى برنارد شو عن كرسي الزفاف، مستهينا به لهزاله وضعفه.
ثم اعتذر القسيس، وأتم الزواج.
Неизвестная страница